كان الصيف بالنسبة لرانيا جاد التي بلغت مؤخرًا الثلاثين من عمرها، هو موسم الخوف والترقب، تتذكر أجزاء من طفولتها التي: "لم تكن بريئة كما ينبغي لها أن تكون".. كما عبّرت لـ فكّر تاني.
عرفت رانيا منذ بلغت الثامنة من عمرها أنها سوف تخضع لعملية "التشويه"، حتى تحولت عطلتها الصيفية إلى كابوس متجدد، تستيقظ كل يوم "مفزوعة" خوفًا من أن يكون اليوم هو ذاك المشؤوم، لكنها وعلى مدار سنوات، ظلت تنتظر موعدًا يتأجل ولا يتم إلغاؤه.
حتى جاء اليوم الذي قرر فيه والدها ميعادًا للعملية، حينها، وجدت والدتها نفسها أمام تهديد: إما أن تختار طبيبًا لتنفيذ العملية، أو تُرسل الطفلة إلى منزل جدتها وعمّتها، حيث تُجرى العملية في "سوق السيدة نفيسة"، المكان الذي عُرف بين النساء بأنه مليء بالخيام التي يُنفذ فيها مثل تلك العمليات.
كان الخوف من المصير المجهول، ومن قسوة هذا السوق، أقوى من تردد الأم، فاستسلمت في النهاية واختارت طبيبًا لإجراء العملية في عيادته بالجيزة. لم تمحُ السنوات أثر ذلك اليوم من حياة رانيا، لكنه أصبح جزءًا من ذاكرة باهتة، محاطًا بثقافة تبرر وتبرهن، حتى بات من الطبيعي أن يُختزل جسدها في قرار عائلي لا صوت لها فيه.
في الثالثة عشرة من عمرها، لم تكن رانيا تملك وعيًا كافيًا لتفهم حجم ما حدث، لكن هذا الإدراك لم يتأخر كثيرًا، بعد سبع سنوات، وبينما هي طالبة جامعية، شاهدت حملة توعوية على التلفزيون تحذر من مخاطر "ختان الإناث"، بدأت حينها تتجمع قطع من الذاكرة، وظهر الغضب على السطح، غضب من والدها، من المجتمع، ومن كل من شارك في اقتطاع جزء من جسدها دون أن يُدركوا ما اقتطعوه أيضًا في ذاك الوقت من كيانها.
في تلك اللحظة، وجدت والدتها نفسها مضطرة للكشف عن حقيقة كانت قد أخفتها طويلًا، واعترفت بأنها كانت ترفض تشويه أعضاء ابنتها بشدة، لكنها وجدت نفسها في مواجهة ضغوط العائلة، خصوصًا من جدتها، التي لم تكتفِ بفرض القرار، بل اشترطت أن ترى بنفسها الجزء المبتور من جسد حفيدتها كدليل على خضوعها للطقس القاسي.
"أمام شرط جدتي المخيف، لجأت أمي إلى الطبيب، الذي اقترح عليها حلًا وسطًا: أن يقتصر القطع على جزء صغير من الجلد العلوي، دون المساس بالجزء الذي يُزال عادةً".
مرت الأيام، واكتشفت رانيا أنها الوحيدة من جيلها بين بنات العائلة التي خضعت لهذه العملية، إذ رفض أعمامها وعماتها الانصياع لرغبات والدتهم، بينما كان والدها الوحيد الذي خضع لضغطها. كانت حياة رانيا الزوجية، رغم طبيعتها العادية ظاهريًا، محاطة بأشباح الخوف والشعور بعدم الأمان.
"غالبًا ما كُنت أدفع زوجي بعيدًا عني أثناء العلاقة الحميمة، وكأنني أحاول استعادة السيطرة على ما سُلب مني يومًا".. لكن إدراكها لما حدث لم يكن مجرد محطة للبكاء على الماضي، بل كان نقطة انطلاق لمعركة خاصة بها، رفضت رانيا أن يتكرر هذا المصير مع شقيقتها وابنة خالتها، حتى أنها وصلت إلى حد التهديد بالإبلاغ عن الجريمة إن حاول أحد المساس بهما، ولم تتوقف عند التحذير، بل نبهت شقيقتها من الذهاب إلى أي مكان برفقة والديها على انفراد، خوفًا من أن يُتخذ القرار بعيدًا عن إرادتها.
اليوم، وقد بلغتا سن الشباب، تشعر رانيا بأن الخطر قد زال، وبأنها نجحت في حماية من تحب، وكأنها أخيرًا استعادت جزءًا مما فُقد منها.
اقرأ أيضًا:في ظل الأزمة الاقتصادية.. إجهاض "غير المرغوب فيهم" وأمهات ينزفن حتى الموت
إرث ثقافي أم جريمة مستترة؟
تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية هو جميع الإجراءات التي تنطوي على الإزالة الجزئية أو الكلية للأعضاء التناسلية الخارجية للإناث، أو التسبب في إصابة دائمة بها. ليس لهذه العملية أي فوائد صحية، بل تسبب مضاعفات خطيرة، مثل النزيف الحاد، ومشكلات التبول، والعدوى، والعقم، وقد تؤدي إلى مضاعفات أثناء الولادة، مما يرفع من معدلات وفيات الأطفال حديثي الولادة.
ورغم انتشارها في بعض الدول، وبحسب تصريح عالم المصريات والطبيب وسيم السيسي، فإن أصولها تعود إلى إفريقيا، حيث يُعتقد أنها طقس ديني كان يُمارس منذ العصور القديمة، بينما يذهب بعض الباحثين إلى أن هذه العادة لم تكن جزءًا من التراث المصري الفرعوني، بل تسللت إلى البلاد خلال فترة الاحتلال الروماني عام 30 قبل الميلاد، مستندًا إلى غياب أي دليل أثري أو جداريات تصور هذه الممارسة في الحضارة الفرعونية، على عكس عمليات الذكور الذي تم توثيقه في العديد من النقوش.
وهكذا، يبقى تشويه الأعضاء التناسلية للإناث طقسًا يختبئ خلف ستار العادات، لكنه في جوهره اعتداءٌ يُسلب فيه الجسد قراره، تحت مسمى الواجب والتقاليد، ليظل السؤال الأهم: متى ينتهي عصر هذه الجريمة، ويصبح لجسد الفتاة حقه الكامل في الأمان؟
اقرأ أيضًا:تزويجهن جريمة.. قاصرات ينجبن أطفالًا وجميعهم بلا حقوق
انتشار واسع رغم الحظر
أظهرت إحصاءات الأمم المتحدة أن 30 دولة بإفريقيا والشرق الأوسط ما زالت تمارس هذه العادة السيئة، كما في بعض دول آسيا وأمريكا اللاتينية، وبين مجتمعات المهاجرين في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا.
ووفقًا لتقرير صادر عن اليونيسيف شمل 29 دولة في إفريقيا والشرق الأوسط، ما يزال تشويه الأعضاء التناسلية للإناث منتشرًا على نطاق واسع، رغم أن 24 من هذه الدول أقرت قوانين أو قرارات تحظر هذه الممارسة. ومع ذلك، يشير التقرير إلى انخفاض معدل تكرار الظاهرة مقارنة بالماضي.
وفي حديثها مع فكّر تاني، توضح الطبيبة النفسية أسماء بكر أن استمرار انتشار هذه الظاهرة مرتبط بالمعتقدات الاجتماعية والأخلاقية، حيث يعتقد البعض أنه يقلل من الرغبة الجنسية لدى المرأة، ما يضمن حسب رأيهم، حسن سلوك الفتاة.
وتؤكد الدكتورة أسماء أنها ليست عادة دينية، بل تنبع من قناعات متوارثة، وأن الأذى الناتج عن هذه العملية متعدد الأوجه، فهو لا يقتصر على الألم الجسدي فقط، بل يمتد إلى أضرار نفسية واجتماعية طويلة الأمد.
وتشير أسماء بكر إلى أن هذه العملية غالبًا ما كانت تُجرى على أيدي الدايات أو الحلاقين الصحيين، ما يتسبب في نزيف حاد قد يؤدي إلى الوفاة، بالإضافة إلى التهابات الجهاز التناسلي وانتقال فيروسات مثل "C" و"B" بسبب الأدوات غير المعقمة.
أما الأضرار النفسية، فتشمل مشكلات في الإنجاب، وانخفاض الإحساس بالمتعة الجنسية، والخوف من العلاقة الزوجية، ما قد يؤدي إلى نفور المرأة من شريكها. كما ربطت الطبيبة النفسية بين تشويه الأعضاء للإناث والاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب، والقلق، واضطراب ما بعد الصدمة.

صرخات متكررة
تنتمي زهرة فاروق إلى أسرة نوبية تعيش في أسوان، وخاضت هذه التجربة المؤلمة في العاشرة من عمرها، بعد أن أثارت مخاوف والدتها بشأن "كبر حجم البظر" ما جعلها تشعر بعدم الارتياح والحكة المستمرة.
ولم يكن والدها مؤيدًا لهذه العملية، لكنها بدافع التخلص من هذا الشعور، كانت مستعدة للخضوع لها، دون أن تدرك أنها كانت تعاني من استثارة جنسية طبيعية، وعندما حاول الأب منع والدتها، ردت عليه قائلة: "آخرة الهيجان ده هتجري ورا كلاب الشارع"، غير مبالية بتهديده بإبلاغ الشرطة.
اصطحبت الأم زهرة إلى طبيب نساء، حيث أُجريت لها العملية في عيادته. تتذكر زهرة اللحظة بوضوح: "قلعوني هدومي، ونيموني على شزلونج، وربطوا رجلي زي حالات الولادة. أخدت بنج، لكن لما فوقت، قعدت أصرخ بأعلى صوتي".
وعندما عادت إلى المنزل، استمر صراخها لساعات، ما دفع الجيران إلى إجراء العملية لبناتهم في نفس اليوم، رغم أن بعضهن كن أصغر سنًا منها، ولم تتذكر زهرة تفاصيل فك الخيوط الجراحية، لكنها ظل الألم وصعوبة التبول وجلوسها في ماء ومحلول مهدئ، لحظات لا تنساها، كما تتذكر جيدًا كيف سلم الطبيب لأسرتها الجزء المبتور لدفنه.
اليوم، تبلغ زهرة 31 عامًا، وتصف حياتها الجنسية مع زوجها بأنها "جيدة"، لكنها تستغرق وقتًا أطول للوصول إلى النشوة، مقارنة بما كانت عليه قبل الختان عندما كانت تستكشف جسدها بحرية، ورغم مرور السنوات، ما تزال تشعر بالأسف على ما حدث، خاصة أن العادة مستمرة في عائلتها حتى الآن مع الجيل الصغير من الفتيات.
اقرأ أيضًا:على سُفرة التمييز.. كيف يعمق الغذاء فجوة العنف ضد النساء؟
جريمة مستمرة برغم القانون
في دول مثل بريطانيا، ورغم حظر القانون لهذه الممارسات إلا أنها ما زالت تُنفذ سرًا، خاصة على الفتيات الصغيرات، وفقًا للمحامية تشارلوت براودمان، التي تؤكد أن الكشف عن هذه الحالات يكاد يكون مستحيلًا ما دامت الفتيات غير مقيدات في المدارس أو صغيرات السن بدرجة تمنعهن من الإبلاغ. وفي عام 2019، أُدينت أول امرأة في بريطانيا بتهمة تشويه أعضاء ابنتها البالغة من العمر ثلاث سنوات، في قضية شكلت سابقة قانونية.
أما في العالم العربي، فقد تم توثيق حالات من جميع الدول العربية وإيران، كما انتشرت الظاهرة بين الجاليات الأفريقية في بريطانيا، على سبيل المثال، كشفت دراسة سابقة عن انتشارها في مسقط بنسبة 78% بين النساء المشاركات في البحث. وفي السعودية، توصلت دراسة بمدينة جدة إلى أن 18% من الفتيات والنساء المشاركات خضعن للعملية، بينما بلغت النسبة 80% في منطقة حائل. أما في إيران، فقد تفاوتت نسبة انتشارها بين 16% و83%، وفقًا لدراسات أجريت في مناطق مختلفة.
دور العبودية التاريخي
لعبت العبودية دورًا بارزًا في نقل بعض العادات الثقافية، بما في ذلك تشويه الأعضاء الداخلية الإناث، إلى أماكن مثل البحر الكاريبي وأمريكا الجنوبية، حيث تم استقدام الأفارقة، ومع تنقل هؤلاء العبيد، انتقلت معهم تقاليدهم ومعتقداتهم، ليتم تداول هذه الممارسة داخل مجتمعات العبيد، وأحيانًا بين السكان المحليين، في بعض المناطق التي استقبلت أعدادًا كبيرة من الأفارقة، مثل الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا، ظلت هذه الممارسة قائمة كجزء من الهوية الثقافية، رغم مرور الزمن.
ورغم الجهود الدولية والمحلية للقضاء على هذه الظاهرة، ما تزال هذه الممارسة راسخة في بعض المجتمعات، مدعومة بمعتقدات اجتماعية وأخلاقية متوارثة، تضع الفتيات ضحايا بين قيود التقليد وخرافات الحفاظ على "الشرف".

حملات التوعية لمكافحة الظاهرة
كشفت دراسة أجرتها مجلة الصحة لشرق المتوسط التابعة لمنظمة الصحة العالمية عن استمرار انتشار تشويه لأعضاء الإناث في السودان، حيث استهدف البحث 154 فتاة في مدرستين ثانويتين تتراوح أعمارهن بين 14 و17 عامًا. وأظهرت النتائج أن نحو ثلث المشاركات تعرضن لهذه الممارسة، وهو ما دفع النشطاء للتحذير من أن تغليظ العقوبات والتوعية لا يكفيان طالما أن الأطباء والممرضات لا يزالون يجرون هذه العمليات. وأكدوا أن الحل يكمن في الرفض القاطع لهذه الممارسة من قبل العاملين في المجال الطبي.
أما في مصر، فقد أشار تقرير صادر عن المجلس القومي للسكان إلى تراجع معدلات انتشار هذه الظاهرة بين الأجيال الجديدة، حيث انخفضت النسبة بين الفتيات من 15 إلى 17 عامًا من 74% عام 2008 إلى 61% عام 2014.
وأظهرت الإحصاءات أن انخفاض نسبة الأمهات الحاصلات على تعليم عالٍ ساهم في تقليل تعريض بناتهن لهذه الجريمة، في حين ما تزال الظاهرة أكثر انتشارًا في الريف بسبب تزويج القاصرات، الأمر الذي يعكس ارتفاع معدلات الفقر والحرمان من التعليم، ما يجعل الأمهات عاجزات عن حماية بناتهن من هذه الممارسة القاسية.
وتقول هدى مهران من محافظة المنيا، عن تجربتها لـ فكّر تاني: "لم يخدعني أهلي، بالعكس، صارحوني بأنه ضروري لصحتي ولتحسين مظهري قبل الزواج". كانت هدى وقتذاك في العاشرة من عمرها، ولم تكن تعي خطورة الأمر، بل شعرت بالحماس للذهاب إلى المستشفى وتلقي الاهتمام.
"لكن بعد العملية، تحولت الأيام إلى كابوس، إذ كان مجرد التبول مؤلمًا، وكل شيء بدا وكأنه عقاب لا أفهم سببه"، لاحقًا، حين جاء الدور على شقيقتها الصغرى، تصدت هدى لعائلتها ومنعتهم من تكرار هذه الجريمة، وتؤكد: "أشعر اليوم بالفخر لأن عائلتي استجابت لي وتخلّت عن هذه الممارسة العنيفة".
اقرأ أيضًا:بثدي مقاتل.. شرائط وردية في زمن الحرب
تاريخ مواجهة الظاهرة
مكافحة تشويه الأعضاء التناسلية للإناث مرت بمحطات مفصلية منذ أن كان يُنظر إليه كعادة موروثة تحظى بتأييد ديني، حتى بدأ الأطباء أنفسهم الاعتراف بمخاطره، وظهرت التشريعات التي تسعى إلى القضاء عليه.
يمكن اعتبار بداية المواجهة الرسمية في مصر مع صدور قرار وزارة الصحة رقم 74 لسنة 1959، ضمن قانون الصحة العامة، والذي جرم هذه العملية في حال إجرائه بظروف غير صحية أو على يد أشخاص غير مؤهلين، مثل الدايات. لكنه لم يحظر الممارسة تمامًا، بل اشترط أن تتم بترخيص طبي، على عكس القوانين اللاحقة التي حظرتها كليًا.
أما أول انتقاد علمي موثق فجاء على لسان الدكتور علي باشا إبراهيم، أول عميد مصري لكلية طب قصر العيني، الذي صرح عام 1928 بأنه لم يسمع عن هذه الظاهرة إلا بعد استدعائه لإنقاذ فتيات من مضاعفاته الخطيرة. وفي عام 1949، أصدرت دار الإفتاء المصرية، بقيادة الشيخ حسنين محمد مخلوف، فتوى اعتُبرت ضربة قوية لمؤيديها، إذ أكدت هذه الفتوى واجب للذكور بينما هو ليس فرضًا أو سُنة للإناث.
وفي عام 1994، أصدرت وزارة الصحة قرارًا يتيح إجراء العملية في المستشفيات العامة للأسر التي لم يقتنع أفرادها بمخاطره، ما أثار انتقادات واسعة اعتبرت القرار تكريسًا للممارسة بدلًا من مكافحتها. لكن بعد أكثر من عقد، وتحديدًا في نوفمبر 2006، نظمت دار الإفتاء مؤتمرًا عالميًا أوصى بتجريم تشويه الأعضاء التناسلية للإناث ومعاقبة كل من يشارك فيه.
وجاء التحول الحاسم في عام 2007، حين توفيت الطفلة بدور أثناء خضوعها للعملية ما أثار موجة غضب واسعة. على إثر ذلك، أصدر وزير الصحة آنذاك، الدكتور حاتم الجبلي، القرار 271 لسنة 2007، الذي حظر تمامًا إجراء هذه الجراحة من قبل الأطباء والعاملين بالمجال الصحي.
وفي العام التالي، تم تعديل قانون العقوبات بإضافة المادة 242 مكرر، التي نصت على عقوبة السجن من ثلاثة أشهر إلى عامين، أو غرامة تتراوح بين ألف وخمسة آلاف جنيه.
ورغم كل هذه الجهود، ما تزال المعركة مستمرة للقضاء على هذه الجريمة بحق الفتيات.
تشويه جسدي وانتهاك نفسي
وعن استمرار هذه الممارسات تقول الدكتورة سلمى الديب، الطبيبة النفسية في لندن، لـ فكّر تاني، أنه امتداد لموروثات ثقافية ذكورية ترى في هذه الجريمة "تكريمًا" للمرأة ووسيلة لـ"تهذيب سلوكها"، وتشير أن تجريم الظاهرة وحده لا يكفي، إذ تقتصر العقوبات القانونية حاليًا على سجن الطبيب الذي يجري العملية، دون منعه من ممارسة المهنة، كما أن إثبات الواقعة غالبًا ما يكون أمرًا بالغ الصعوبة.

وترى الدكتورة سلمى أن استخدام مصطلح "مضاعفات" أكثر دقة من "الآثار السلبية" عند الإشارة إلى نتائج هذه الممارسة، حيث تعاني العديد من الفتيات من نزيف حاد، وبعضهن يفقدن حياتهن أثناء العملية.
"كما أن النساء اللاتي خضعن لهذا التشويه غالبًا ما يواجهن صعوبة في الاستمتاع بالحياة الجنسية، حيث يصبح الوصول إلى النشوة الجنسية أمرًا مستحيلًا بالنسبة لكثيرات منهن، وتتحول العلاقة الحميمية إلى تجربة صادمة ومؤلمة"، وتضيف أن التشنج المهبلي هو أحد هذه المضاعفات التي ترافق الناجيات طوال حياتهن، حيث تكون العملية الجراحية أحد الأسباب الرئيسية، إن لم تكن السبب الوحيد.
صدمة أم خذلان
وشاركت ليلى مصطفى تجربتها مع فكّر تاني، موضحةً أنها خضعت لهذه العملية في طفولتها في إحدى قرى الدلتا. وعند زواجها، أدركت أنها تعاني من التشنج المهبلي، لكن بدلًا من تلقي الدعم من أسرتها وزوجها، وُجهت بالغلظة والاتهامات بـ"الدلع".
"وكانت نساء العائلة يرددن دائمًا أن الاستمتاع بالعلاقة الحميمية "حقٌ للرجال فقط"، وأن على المرأة تقبل الأمر دون شكوى. في النهاية، وجدت نفسي أمام خيار وحيد للهروب من هذه المعاناة وطلبت الطلاق".
وهنا ترى الدكتورة سلمى الديب أن توعية الفتيات بشأن هذه الجريمة أمر ضروري، لكن التحدي الأكبر يكمن في أن العملية تُجرى لهن في سن صغيرة، لا يملكن فيها الوعي الكافي للدفاع عن أنفسهن.
لذلك، ترى أن الحل يكمن في تغليظ العقوبات وتجريم الفعل بشكل كامل، مع التركيز على معاقبة الأطباء الذين يجرون هذه العمليات، لأن غياب التوعية أو رفضها في بعض المجتمعات يمكن تعويضه بتشديد القوانين الرادعة.

شرخ لا يلتئم
تشير شهادات الناجيات إلى أن آثار هذه الجريمة لا تتوقف عند التشويه الجسدي، بل تمتد إلى علاقتهن بعائلاتهن، حيث يؤثر فقدان الثقة في الأسرة على استقرارهن النفسي والاجتماعي، وفي هذا السياق، توضح الأخصائية النفسية أمنية عادل لـ فكّر تاني أن قرار العائلة بإجراء هذه العمليات ينبع من خوفهم على "الشرف"، واعتقادهم بأن هذه الممارسة تحافظ على "عفة" الفتاة، وتوضح أن هذه العادة انتشرت في مصر والسودان ثم انتقلت إلى الجزيرة العربية عبر الرحلات التجارية، لتصبح بديلًا عن وأد الفتيات قديمًا.
وتضيف أمنية أن الفتاة التي تتعرض لهذا الانتهاك تصاب بعدم الاستقرار النفسي، والخوف المستمر من أفراد أسرتها، وتعاني من صراعات نفسية عند الزواج. كما أن تأثير الجريمة يمتد إلى مختلف جوانب شخصيتها، حيث تشعر بالدونية والتهميش، ما يجعلها مترددة في اتخاذ القرارات، وتعيش في حالة من القلق وانعدام الثقة بالنفس وبالآخرين.
اقرأ أيضًا:يروهن "صيدة سهلة".. من يحمي عاملات المحال والشوارع "أجرًا وجسدًا"؟
كابوس لا ينسى
أما هالة سامي 33 عامًا، فإن تجربتها لا تختلف كثيرًا، رغم أنها نشأت في القاهرة، وليس في قرية نائية أو في بيئة أمية، بحسب تعبيرها لـ فكّر تاني ومع ذلك، كانت عائلتها من أشد المدافعين عن هذه العملية، بل يعتبرونها "تكريمًا" وسُنة متبعة، لكنها وعلى الرغم من مرور أكثر من عشرين عامًا على تلك الحادثة، إلا أن تفاصيلها ما زالت محفورة في ذاكرتها كما تؤكد.
تتذكر هالة كيف خدعتها والدتها في ذلك اليوم قائلة: "اذهبي إلى بيت خالتك وأحضري لي شيئًا"، لتجد نفسها هناك مقيدة إلى جانب بنات خالاتها، بينما يقف رجل ومعه امرأتان وصفتهما بـ"المرعبتين"، حيث كانت كل فتاة تُربط يداها إلى يدي الرجل لمنعها من الحركة، تتذكر هالة أنها كانت صاحبة النصيب الأكبر من الألم والنزيف، إذ استمر نزيفها لفترة طويلة دون تلقي أي رعاية طبية، بل اقتصر "علاجها" على وضع بصل مشوي مغموس بالبابونج فوق الجرح.
وتضيف: "هذا التشويه جعلني أكثر عرضة لالتهابات المسالك البولية، وعندما تزوجت اكتشفت أنني غير قادرة على الاستمتاع بالعلاقة الحميمية"، وتشير أنها لم تكن تعاني من "البرود"، لكنها لم تختبر يومًا الشعور بالنشوة، ولم تعرف يومًا ما هو الشكل الطبيعي للحياة الزوجية.
وتصف هالة طفولتها بـ"البائسة"، لكن هذه الحادثة جعلتها أكثر بؤسًا، إذ فقدت ثقتها بعائلتها، ولم تتوقف عن التساؤل: كيف سمحوا لأنفسهم باتخاذ هذا القرار وتشويه جسدها بهذا الشكل؟ كانت الإجابة دائمًا واحدة: "هذا ما تربينا عليه". ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن النساء الأكبر سنًا في العائلة كن يفخرن ببرودهن الجنسي، معتبرات أن الاستمتاع "حق للرجال فقط".
ونتيجة لوعيها النسوي، أصبحت هالة تدرك أن المتعة تبدأ من العقل، وأن لا شيء يمكنه إلغاؤها، لكن رغم ذلك، يبقى أثر هذه الجريمة حاضرًا في حياتها.
اليوم، تقف هالة في مواجهة هذه الممارسة، متحديةً كل من تسوّل له نفسه التفكير في تكرارها مع فتيات عائلتها، وقد نجحت بالفعل في إقناع بنات خالاتها، اللاتي أصبحن أمهات الآن، برفض ختان بناتهن، بل وهددت بإبلاغ الشرطة إن حاولت أي أسرة القيام بذلك.
تختم هالة حديثها قائلة: "نحن آخر جيل مر بهذه المعاناة". فبينما ما تزال النساء الأكبر سنًا متمسكات بهذه العادة، فإن أمهات اليوم هن صانعات القرار، وهن القادرات على وضع حدٍ نهائي لهذه الجريمة.