سجناء الرأي.. أما آن لليل أن ينقضي؟

لا شاعرية في التراجيديا البائسة، لكن لنبدأ بالشعر، فإن منه -كما تقول العرب- لحكمة.

يقول محمود درويش في قصيدته "حصار": "هُنا، عندَ مُنحدراتِ التلالْ، أمام الغُروبِ وفُوَّهةِ الوقتِ، قُربَ بساتينَ مقطوعةِ الظلِّ، نفعلُ ما يفعلُ السجناءُ، نُربِّي الأملْ".

نعم.. ليس لدى السجين من خيارات، إلا أن يُربي الأمل، أو أن يستسلم إلى سجن معنوي، أشد وطأةً من سجنه المادي؛ سجن اسمه اليأس.

كتب درويش تلك الأبيات من وحي تجربة اعتقاله، من قِبل الاحتلال الإسرائيلي، فجاءت عميقة كالشق الإخدودي، ثقيلة كشهيق وزفير سجين، وقد خرقت جدران قلبي كرأس السهم، لأني أعرف السجن، وإن خرجت منه لم يغادرني.

يُربي السجين الأمل، حتى يهزم اليأس؛ يفتح كوّةَ التخيل، حتى يفارق الزنزانة نفسيًا، فيرى بعين القريحة السماءَ زرقاء، ويقف تحت الشمس التي تتشوَّق عظامه إلى حرارتها، ويشاهد نوارس البحر على سواحل عروس البحر، إذ تلقط بمناقيرها المعقوفة صغار السمك، ويضم إلى صدره الذين يخاطبهم دائمًا، في رسائله المهربة بـ"أغلى الناس.. وحشتوني وأنا بخير".

تلك التفاصيل الصغيرة، هي أعظم أحلام السجناء، وأسمى أمانيهم.

على غرار درويش، الذي عصر في زنزانته "خمر شعره"، كشأن الممسوسين بشياطين القوافي، إذ يستولدون الشروق من رحم الظلام، كان رجل آخر في زنزانته بجنوب الكرة الأرضية، يعصر بدوره الأمل.

*** *** ***

في مذكراته الموسومة "رحلتي الطويلة نحو الحرية" أو "حوارتي مع نفسي" حسب الترجمتين الشائعتين عربيًا، يسرد نيلسون مانديلا، كيف دأب لمدة ثلاثين عامًا على تربية الأمل؟

يقول: "بعد الحكم عليَّ بالمؤبد، أودعت في سجن عاصمة جنوب إفريقيا؛ بريتوريا، وذات صباح دلف ضابط الزنزانة، لإخباري بترحيلي، مع رفاقي في القضية إلى سجن بجزيرة "روبن".

نعم.. كذلك تجري الأمور، قد يدخل ضابط أو أمين شرطة فجأة، في أية ساعة من ليل أو نهار: "هات فرشتك وتعال"، فتلبي الأوامر متوجسًا الشر: تُرى ماذا سيفعلون بي؟ إلى أين أذهب؟

مسلوب الإرادة والقرار، ومسلوب الإنسانية، ومسلوبةٌ كل حقوقك وأدناها؛ محض رقم أصم بلا قلب ولا روح؛ رقم على بطاقة تحتوي على بياناتك التعريفية، يسمونها "الكارتة".

أسرة محمد عادل في انتظار قرار حكيم باطلاق سراحه بعد 11 عامًا من المعاناة
أسرة محمد عادل في انتظار قرار حكيم باطلاق سراحه بعد 11 عامًا من المعاناة

ويمضي مانديلا قائلًا: "في سيارة الترحيلات كان الضابط ودودًا للغاية، لدرجة أنه سعى إلى تهدئة مخاوفنا، إذ قال: اطمئنوا لن تمكثوا طويلًا، ستخرجون بعد سنة أو اثنتين على الأكثر، فهناك ضغوط دولية كبيرة للإفراج عنكم، وعندئذٍ ستصبحون أبطالًا قوميين".

ثم.. وفي تعليق تنضح سخريته بالمرارة: "أعترف أن كلامه سرَّني للغاية، على الرغم من أن تقديراته أخطأت حوالي 30 سنة".

أيضًا.. كذلك يُسَّرُ السجين بالشائعة، ويعتنق الكذبة، متى تحمل بصيص أمل، فيلوكها طوال الليالي، ويُحدِّث بها رفاقه حين يخرون مضعضعين، تحت وطأة الضغوط النفسية: "هانت يا جماعة"، ثم يدفن رأسه "تحت بطانية قذرة" -لأن المخدة من الممنوعات- ليواري عنهم دموعًا تنثال لا إراديًا على خديه.

وهذا ما يفعله سجناء الرأي في مصر، أو قل إذا شئت المعتقلون، أو المحبوسون احتياطيًا، ممن لا يعرفون لهم ذنبًا، إلا أنهم ذات يوم حلموا بـ"العيش والحرية والعدالة الاجتماعية"، فحُرموا ثلاثية الحلم، وحرموا الحياة ذاتها.

لا حاجة لذكر أسماء، إذ لا أخلاقية في التخصيص، فخلف القضبان يغدو الكل سواء، وطلب الحرية لا ينبغي أن يغدو انتقائيًا.

الحرية حق للجميع؛ لبني آدم الذين خلقهم الله أحرارًا، كما قال "ضابط" اسمه أحمد عرابي، في وجه الخديوي ذات يوم.

ما يحدث خلف القضبان، بكلمة واحدة جامعة مانعة، "حرام"، والأكثر من ذلك أنه لن ينفع الوطن لا اليوم ولا غدًا.

المماطلة الغامضة في غلق ملف سجناء الرأي، ممن ثبت بالدليل القاطع أنهم ليسوا إرهابيين، ولم يكونوا دعاة عنف، هي التي تضع الوطن على فوهة بركان، وستفضي حتميًا إلى ما لا يريده أي مخلص لمصر.

*** *** ***

لدى كتابة هذه السطور، كانت الدكتورة ليلى سويف قد تجاوزت مائة وعشرة أيام، من إضرابها المفتوح عن الطعام، تعبيرًا عن رفضها استمرار حبس فلذة كبدها، علاء عبد الفتاح، سنتين إضافيتين بعد انتهاء محكوميته، والذريعة المضحكة المبكية، أن فترة الحبس الاحتياطي، لا تُحتسب من العقوبة.

ليلى سويف تواصل الاضراب عن الطعام دون الشراب للمطالبة بالافراج عن ابنها - فيس بوك
ليلى سويف تواصل الاضراب عن الطعام دون الشراب للمطالبة بالافراج عن ابنها - فيس بوك

سنتنان خلف السور، يُربي فيهما علاء الأمل، رغم ما يحاصره من إحباطات، في أن يضم طفله المريض إلى صدره، لا تحتسبان، وسنتان تنتظره أمه التي وهن العظم منها واشتعل رأسها شيبًا، وغدت إثر الإضراب في خطر داهم.

مجددًا.. هذا حرام.

*** *** ***

مع تدشين الحوار الوطني قبل نحو عامين، تحت شعار "اختلاف الرأي لا يفسد للوطن قضية"، بات السجناء وذووهم يربون الأمل، لكن الأمل في "الجمهورية الجديدة" يغرق في طوفان اليأس، والواضح أن هنالك إرادة ما للتنكيل بمن تورط في جريمة الحلم، ولا يبدو أن هناك انفراجة تلوح في الأفق.

جلسة الحوار الوطني حول تطورات مشروع قانون الإجراءات الجنائية - فيس بوك
جلسة الحوار الوطني حول تطورات مشروع قانون الإجراءات الجنائية - فيس بوك

الأكثر من ذلك أن قبضة البطش صارت أشد خشونة، فإذا بالأجهزة الأمنية المنتبهة اليقظة، والحريصة على إسباغ الأمن والأمان على البلاد والعباد، تقتاد ندى مغيث، زوجة المترجم ورسام الكاريكاتير أشرف عمر، إلى مقر نيابة أمن الدولة العليا، للتحقيق معها في اتهامها بقائمة الاتهامات الموزعة بسخاء على المعارضين السياسيين؛ الانتماء لجماعة محظورة، من دون تحديد لهوية هذه الجماعة، لعلها جماعة مخلوقات فضائية، وكذلك نشر أخبار كاذبة، والتحريض على العنف إلى آخره.

كان التحقيق مع زوجة المبدع المعارض، المسجون لأنه "رسم ما يعبر عن أفكاره"، على خلفية إدلائها بحديث صحفي، لموقع "ذات مصر"، تطرقت فيه إلى ملابسات القبض على شريكها وحبيب عمرها.

نعم.. لقد أتت ندى شيئًا إدًّا، جريمتها شنعاء، وفعلتها نكراء، ومن ثم فلا بد أن تغدو "وقعتها سوداء".

على أي حال.. كانت ندى محظوظة أن خرجت من النيابة، دون ترحيلها إلى "دار إصلاح وتأهيل وتهذيب" ما، حيث ترتدي الزي الأبيض، وتضيع في ليل الزنازين الأسود، لكن الزميل أحمد سراج الذي أجرى الحوار الصحفي وإياها، صدر بشأنه قرار بالحبس 15 يومًا، على ذمة القضية ذاتها، وتحت قائمة الاتهامات اللزجة المخاطية ذاتها.

أحمد سراج (وكالات)
أحمد سراج (وكالات)

نعلم ويعلم الجميع؛ القاصي والداني، والهاجع والناجع والنائم على بطنه، أن الحبس الاحتياطي ثقب أسود، شيء هلامي أشبه بمثلث برمودا، يبلع خلق الله في أحشائه، إلى أن تقرر العيون الساهرة، إخلاء سبيلهم.. في يوم ما.

الإجراءات شكلية، ومرهونة بقرار سياسي لا يبدو أن عاقلًا، إن كانت هنالك مساحة للعقل والعقلانية، يريد أو يقدر على اتخاذه لإغلاق هذا الملف المفعم تراجيديا.

من المتعارف عليه لدى ترحيل المحبوسين للمثول أمام النيابة، أنهم بصدد "جلسة تأجيل".. كذلك كان يصرخ أمناء الشرطة في وجوهنا: "يلا عندكم جلسة تجديد"، وكنا نتندر على آلامنا: "رايحيين نجيب 15 يوم ونرجع".

*** *** ***

تجديد يخرج من رحم تجديد، والصحف بين الأيادي، خلف الأبواب الموصدة، سوداء القلب والطوية، تزدحم بعبارات برَّاقة، ومقالات مشرقة عن آفاق الحرية التي سيفتحها الحوار الوطني "على البحري"، ولا شيء يحدث، إنما هي جعجعة بلا طحين، أو كما يقول الإخوة السوريون، حفظهم الله، "مجرد طق حنك".

وتتداعى الآمال من قبل ومن بعد، حين يتشدق مصدر رسمي أو إعلامي برتبة مخبر، بأن مصر ليس فيها سجناء رأي، بل محبوسون على ذمة قضايا جنائية، في مفارقة تُذكرنا بتصريحات أحد وزراء الداخلية بعد ثورة يناير العظيمة، بأن "الداخلية ما عندهاش خرطوش".. إنه الطرف الثالث إذن، لعنة الله عليه في الأولين والآخرين.

معرض مصور عن الصحفيين المحبوسين وفي الصورة الصحفيين أشرف عمرو ياسر ابو العلا وأحمد سبيع ومصطفي الخطيب - خاص فكر تاني
معرض مصور عن الصحفيين المحبوسين وفي الصورة الصحفيين أشرف عمرو ياسر ابو العلا وأحمد سبيع ومصطفي الخطيب - خاص فكر تاني

ما يبدد الأمل أكثر، أن الملاحقات تتسع، ويد البطش تمتد إلى مناطق جديدة، فاتهام زوجة محبوس بلائحة الاتهامات إياها، والقبض على صحفي لأنه أدى عمله، يعد متغيرًا مرعبًا ومخيفًا، ومؤشرًا على أن مستقبل الحريات يمضي من سيء إلى أسوأ، والويل والثبور وعظائم الأمور لمن ينبس ببنت شفة، في "جمهورية امنع النفس وقِف انتباهًا".

عجلة ملاحقة المعارضين لم تعد تدهسهم وحدهم، بل تدوس في طريقها كذلك ذويهم، لمجرد أنهم عبَّروا عن آلامهم جراء "تخريب حيواتهم"، وتدهس بالتوازي في مسيرتها العمياء، الصحفيين لأنهم نقلوا عنهم.

ناقل الكفر ليس بكافر، لكن ناقل الرأي في بلادنا المحروسة، كافر وابن ستين في سبعين.

*** *** ***

قولًا واحدًا؛ إن هذا الواقع المرير، لن يؤدي إلا إلى توسيع كتلة المعارضة، التي تستقطب المزيد من الناس باضطراد، سواءً ممن أرهقهم "نير الفقر" أو بتعبير آخر "العوز"، إثر الإنجازات الاقتصادية الفظيعة، بكل ما للفظاعة من معانٍ، أو ممن يشدهم التعاطف الإنساني مع حالة معتقل ما، عفوًا "محبوس على ذمة قضية ما"، إلى حد الجهر بصرخة "حرام".

مجموعات من سجينات الرأى بمصر، وهن من على اليمين عائشة الشاطر وهدى عبد المنعم وآية كمال الدين وعلياء عواد - تصميم فكر تاني
مجموعات من سجينات الرأى بمصر، وهن من على اليمين عائشة الشاطر وهدى عبد المنعم وآية كمال الدين وعلياء عواد - تصميم فكر تاني

لست في حاجة لإسداء نصائح فأقول: إن هذا الملف يهدد السلم الاجتماعي، ولا إن توسيع نطاقات القهر، لن يؤدي إلى تدجين شعب تجاوز تعداده المائة وخمسة ملايين، ولا أن أردد الأكليشيهات الشائعة على غرار "عمر السجن ما غير فكرة"، ولا أن الحلول الخشنة قد تفضي إلا إلى انفجار، لا أتمناه ولا أحسب أن مخلصا لهذا الوطن يتمناه، ولا أظن أن دعوتي أولي الأمر إلى التفكر والتدبر في ما آلت إليه سورية الحبيبة بعد سقوط الأسد الهارب، ستغريهم أو ستجد لديهم صدى، إذ هم يعتقدون، كما كان مبارك قبلهم يعتقد، أن مصر ليست تونس وليست سورية، وليست كأي مجتمع تنطبق عليه قوانين "العمران البشري".

إن قلت مخلصًا في النصح، سينط في وجهي بهلول من بهاليل إعلام السامسونج، صارخًا ناعقًا بأن الظرف الإقليمي مشحون بالتوتر، وهناك "مخاطر حقيقة لا بد إزاءها أن نمنع النفس"، "وانظروا حولكم.. هل تريدون لمصر أن تغدو مثل سورية؟".. وكأن ما حدث في سورية، ليس سببه أن فاشستية نظام البعث قد منعت الناس من التعبير، وأحصت عليهم أنفاسهم، وأودعت المعارضين في السجون.

*** *** ***

وبعدُ.. إلى أين تتجه مصر؟

أما آنّ لليل سجناء الرأي أن ينتهي؟

إلى متى سيصرخ ذووهم: حرام؟

لا يملك الكاتب كرة بلورية يستشرف عبرها المستقبل، وليس عنده "ترياق سحري" يكتبه مثل "وصفة العشابين" فتبرأ البلاد من أدوائها، كما لا يعرف جوابًا للأسئلة الوجودية الخطيرة، لكنه يكتب، إذ لا يحسن عملًا إلا قرع الأجراس، رافضًا القفز من السفينة، ومهما كان يغرق في اليأس، يتوخى دائمًا أن "يربي الأمل".

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة