علمانيون ورهبان: كيف تدير "جماعة المؤمنين" الحوار فيما بينها؟ (1)

 

"هما متقدمين على أنهم معلمين..هيعلموا الأساقفة، بينما هما لهم توجهات لاطائفية، فعلشان كده الآباء دول اللي كتبوا بينبهوا بيقولوا إحنا نريد ألا يكون هناك هذا النوع من المحاضرات في وسط المجمع المقدس يعني" هكذا رد الأنبا بنيامين مطران المنوفية على سؤال أحد مشاهدينه على إجدى برامج قناة مي سات التابعة للكنيسة " بخصوص الجدل الدائر حول السيمنار القادم للمجمع المقدس "أعلى سلطة كنسية، يضم الأساقفة ورؤساء الأديرة، ويتخذ القرارات المهمة أو يعتمدها.

تداول الأقباط الأرثوذوكس عبر وسائل التواصل الاجتماعي ورقة تضم أسماء 18 أسقفًا، يعلنون فيها اعتراضهم على تضمين اثنين من العلمانيين (مصطلح يشير لجميع الأعضاء من غير رجال الدين) بجدول محاضرات السيمنار المزمع انعقاده في الفترة من 18 إلى 21 نوفمبر القادم، وهما الدكتور جوزيف موريس فلتس والدكتور سينوت ديولار، بدعوى أن تعاليمهما تنطوي على هرطقة وانحرافات فكرية وخروج عن التعليم الأرثوذوكسي، واتباعهما أفكار القمص متى المسكين رئيس دير أنبا مقار الأسبق، والدكتور المفكر جورج حبيب بباوي (وهما اسمان في الفكر المسيحي طالما تم توجيه الاتهامات لأفكارهما من كبار القيادات الكنسية)

أيضًا، ظهر أسقفان في مقاطع فيديو قصيرة لدعم الاعتراض نفسه، الأنبا موسى أسقف الشباب والأنبا أبانوب أسقف المقطم، واتهم "التيار الأصولي" البابا تواضروس الثاني بدعم الهراطقة والاستهتار بوحدة الكنيسة، كما أشارا إلى أن الأسماء الواردة في الورقة -المجهول مصدرها-، تقدمت بمذكرة لسكرتير المجمع المقدس الأنبا دانيال لتوثيق اعتراضهم، وهو الأمر الذي نفاه مسؤول كنسي ذات صلة. ونشر عدد من الأساقفة الواردة أسمائهم في الورقة بيانات نفي لما نُسب لهم، أبرزهم كان الأنبا رافائيل أسقف كنائس وسط القاهرة والسكرتير السابق للمجمع المقدس.

في سياق هذا المشهد الذي فتح شهية مواقع السوشيال ميديا لمناقشة الدور العلماني في الكنيسة، فإن الصراع/العلاقة بين الإكليروس والعلمانيين في الكنيسة على مدار العقود الماضية شهد توترًا متزايدًا، فالعلاقة بينهما قضية معقدة ومتشابكة، تمتد عبر قرون من التاريخ، وتتأثر بالعوامل الاجتماعية والسياسية والدينية. ويشير هذا الصراع/العلاقة إلى التوتر المستمر بين طبقات القيادة الروحية في الكنيسة، المتمثلة في الرهبان والبطاركة، وبين أفراد الشعب القبطي، الذين يُعرفون بالعلمانيين. ورغم أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لطالما كانت مؤسسة دينية مركزية في حياة الأقباط، إلا أن التحديات المتعلقة بتوزيع السلطة والنفوذ داخل هذه المؤسسة لم تكن غائبة أبدًا، وتحت لوائها عانى الكثيرون.

يٌحلل إسحق إبراهيم مسؤول ملف الحريات الدينية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية المشهد العام، فيقول: لا أعرف إذا كانت كلمة الصراع هي الكلمة الأدق لوصف العلاقة بين الإكليروس والعلمانيين، لأن كلمة الصراع ربما يٌفهم منها أن هناك طرفين متساويين أو لهما نفس القوة، لكن الحقيقة أن لدينا طرف مسيطر سيطرة كاملة ليس فقط على الجوانب الدينية إنما أيضًا على الجوانب الإدارية، كما يحدد مساحة الحركة للآخرين في مقابل محاولات من الطرف الأضعف الذي يمثله العلمانيون. هناك بٌعد ثاني في هذه العلاقة وهو البعد الفكري، فنحن- والكلام على لسان إبراهيم- نتحدث عن طرف يرى أنه صاحب وحي وأفكار سامية ولديه نوع من الاستعلاء على قبول العلمانيين، الذين لديهم مساحة أكبر للتفكير والنقاش.

  • 42 عامًا من إشهار الأنياب!

منذ وفاة البابا شنودة الثالث، ظهرت الانقسامات جلية بين تيارين في الكنيسة، الأول يدين بالولاء للبابا الراحل وتعاليمه، ويعتبره المصدر الأوحد للعقيدة المسيحية، والثاني يرى أن الكنيسة بحاجة إلى إصلاح حقيقي وإعادة هيكلة لملفات عديدة شهدت كوارث على مدار 42 عامًا.

على صعيد الحدث، كانت علاقة البطريرك الراحل  البابا شنودة الثالث، بالعلمانيين في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية موضوعًا محوريًا في التاريخ المعاصر، اتسمت هذه العلاقة بالصراعات التي ظهرت حول إدارة الكنيسة ودور العلمانيين في صنع القرار والتعليم. البابا شنودة، الذي حكم الكنيسة لأكثر من أربعة عقود (1971-2012)، كان معروفًا بمواقفه الصارمة فيما يتعلق بالسيطرة المطلقة والفردية على شؤون الكنيسة، حيث تمسك بشدة بمركزية السلطة الدينية في أيدي الإكليروس، وأصر على أن يكون له الكلمة العليا في جميع القرارات المتعلقة بالكنيسة، سواء في الأمور الروحية أو التنظيمية، وعلى أثر ذلك استخدم سلاح "الحرمان الكنسي" ضد من يخالفون تعليماته أو من ينتقدون سياسات الكنيسة، على سبيل المثال، وقع الحرمان على مجموعة من المفكرين العلمانيين الذين أبدوا آراءً نقدية حول بعض سياسات الكنيسة أو دعوا إلى إصلاحات، أشهرهم كان الدكتور جورج حبيب بباوي، والذي لم يترك البطريرك الراحل مناسبة واحدة إلا وانتقد أفكاره واتهمه بالهرطقة، وهي السياسة التي رسخت للعداء الشديد في نفوس مؤيديه تجاه الاسم وتلاميذه من بعده، الأمر لم يقف عند العلمانيين فحسب، إنما طال الإصلاحيين من الإكليروس وأهمهم القمص متى المسكين والقس إبراهيم عبدالسيد وكثيرين، وهذا ما نجني تبعاته في اللحظة الراهنة.

البابا شنودة الثالث
البابا شنودة الثالث
  • التدجين والسيطرة والإقصاء

حين جلس البابا شنودة الثالث على الكرسي المرقسي، أعاد تفعيل دور المجلس الملي الذي تعطل في أيام البابا كيرلس السادس، ولكنه رأى ضرورة تحجيم دور المجلس واتخذ في ذلك خطوة أولى كرسامة أعضاء المجلس من العلمانيين شمامسة "درجة كنسية أقل من الكاهن" ليضعهم في حرج مناقشة الإكليروس في أي قرارات يتخذونها، الأمر الذي ناقش خطورته الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي في مقالة على صفحات جريدة وطني بعنوان " الخطاب المفتوح إلى المجلس الملي العام" سنة 1974 يقول فيها "أسفت على رسامة أعضاء المجلس الملي العام من المدنيين شمامسة، لأن هذه الرسامة تنطوي لفهم ناقص لدور العلمانيين أو المدنيين الصريح في كنيستنا وتجاهل لأهميتهم ودورهم في تكوين الكنيسة"، ويؤكد أسقف التعليم في خطابه أن المجلس الملي لا بد وأن يضم تخصصات مدنية مختلفة مثل القانونيين والمحاسبين و رجال تعليم ورجال أعمال وأدباء وأخصائيين في علم النفس والاجتماع والاقتصاد" وختم الأنبا غريغوريوس خطابه بعدد من المقترحات أبرزها أن تخصص بعض الجلسات كحلقات نقاشية من وقت لآخر للاستماع لواحد أو أكثر من الشخصيات البارزة في المجتمع القبطي من غير أعضاء المجلس لإلقاء محاضرة يشرح فيها تصوره للإصلاح القبطي من واقع الدراسات والأبحاث والخبرات الميدانية.

 

كان رد القيادة الكنسية على هذه المقالة هو المنع من الوعظ والتعليم إلا بإذن البابا، وفي زيارة لأساتذة معهد الدراسات القبطية للبابا شنودة أبلغهم أن المقالة اعتبرها إهانة شخصية له، وحسب مذكرات أسقف البحث العلمي، فإن البابا طالبه بالاعتذار علانيةً على صفحات الجرائد، الطلب الذي قوبل بالرفض الشديد من قبل الأنبا غريغوريوس لأنه لم يمس كرامة البطريرك بشيء من الإهانة ولا يريد أن يخون مبادئه وأمانته تجاه الكنيسة بتراجعه عن أفكاره.

كلف هذا الموقف الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي متاعب واضطهادات لاقاها في حبرية البابا شنودة حتى وفاته.

البابا شنودة الثالث والرئيس السادات
البابا شنودة الثالث والرئيس السادات

ضمن البطريرك المائة والسابع عشر السيطرة على المجلس الملي وانفرد وحده بتحديد كافة أمور المسيحيين الأرثوذوكس في مصر، وزاد المشهد تعقيدًا بعد أحداث العنف الطائفي التي وقعت، واتهم السادات البابا وقتها في خطاب رسمي بأنه يثير الفتن ويحرض أقباط المهجر على الدولة وعلى الإسلام والمسلمين، ثم خطوته التالية بتحديد إقامة البابا في ديره بوادي النطرون عام 1981 ضمن مجموعة كبيرة ومتنوعة التوجهات تم اعتقالها وقتها، وكما أخبر السادات اللجنة الخماسية التي شكلها لإدارة الكنيسة "كنت مضطرًا إلى ذلك، لكني لم أمس وضعه الديني والكنسي لكني استخدمت حقي كرئيس للدولة في إلغاء القرار الذي أصدرته عام 1971 بتعيينه طبقًا للدستور" سبق هذا القرار منع اجتماع البابا شنودة الأسبوعي ووقف إصدار مجلة الكرازة.

 

هذا التحول الكبير في علاقة الكنيسة بالسلطة قلب موازين المشهد العام والحراك العلماني القبطي الذي بدأ يعود خطوات للوراء، وانسحب عدد كبير من المجال العام، ملتفين حول كارثتهم الكبرى وهي اعتقال البابا في ديره بأمر من رئيس الجمهورية، الأزمة التي رسخت كراهية السادات في قلوب بعض الأقباط حتى أنهم رددوا وقت اغتياله إن الذي حدث كان عقابًا من الله على اضطهاده لبطريرك الكنيسة.

عاد البابا لكرسيه بقرار جمهوري في يناير عام 1985 وبدأت من وقتها حتى وفاته عام 2012 مرحلة جديدة في الكنيسة القبطية الأرثوذوكسية وهي مرحلة التأييد المطلق من أبناء الكنيسة للبطريرك الذين رأوه بطلًا وقف ليحارب عنهم أمام الدولة ودفع الضريبة وحده، من ناحية أصبحت حياتهم تتمحور داخل أسوار الكنيسة التي وفرت لهم كافة الأنشطة الاجتماعية التي يحتاجونها وارتبطوا ارتباطًا وثيقًا بصورة البابا الكاريزما وتعاليمه القاطعة ومن ناحية أخرى انتزع البابا شنودة السلطة كاملة لإدارة المؤسسة الكنسية وأعلى سياسة الصوت الواحد وخنق التعددية في الكنيسة ليس فقط فيما يخص العلمانيين لكن أيضًا بعض رجال الإكليروس الذين امتلكوا أفكار مختلفة حول التعليم والإصلاح.

كمال زاخر في حوار خاص مع فكر تاني
كمال زاخر في حوار خاص مع فكر تاني

في كتابه "الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد" يشرح المفكر القبطي كمال زاخر هذا الوضع فيقول، مابين أحلام نظير جيد (الاسم العلماني للبابا شنودة)، وانطلاقات الأنبا شنودة في أسقفية التعليم، وسنوات باباويته الأولى، وانفراده بالقرار والتقلبات السياسية والعودة المشروطة للكرسي كانت قضية التعليم تتراجع، وكان الأساقفة الشباب يحكمون غلق دائرة البابا، لتشهد السنوات العشر الأخيرة صراعات بينهم سعيًا لاحتلال المقعد المجاور لقلبه وأذنه، ويقفز الأنبا بيشوي إلى مقدمة المشهد ويصبح العصا الغليظة في يد البابا لتأديب قائمة ممتدة من الإكليروس، خاصة الجماهيريين منهم، لتشهد الكنيسة سلسلة محاكمات يقودها هذا الأسقف بغير قواعد بل استنادًا إلى التقديرات الشخصية، وكانت إحالة ملف أحد الكهنة إليه تشبه إحالة أوراق متهم إلى فضيلة المفتي.

 

هذا الأسلوب في التعامل مع المختلفين على صعيد الصراع بين الإكليروس وبعضهم، يشير إلى ملامح العلاقة من زاوية ثانية بين الإكليروس والعلمانيين، فيقول هاني لبيب في كتابه "الكنيسة المصرية توازنات الدين والدولة" إن فترة البابا شنودة خرجت بالحديث من دائرة المجلس الملي إلى الحديث عن دور العلماني في الكنيسة، وإن تناول دور العلماني كواقع مدني غير ديني وغير كهنوتي داخل المؤسسة الدينية المسيحية أصبحت أهم القضايا الخلافية، ليس لكونها تتعلق بمن هم غير الإكليروس فحسب، بل لأنها تصطدم ببعض الثوابت للنظام البطريركي للمؤسسة الكنسية ومدى تبنيها لفقه التحديث والتغيير والتطوير والإصلاح.

جورج حبيب بباوي
جورج حبيب بباوي

الدكتور جورج حبيب بباوي العلامة اللاهوتي وعميد معهد كامبريدج للدراسات اللاهوتية سابقًا، كان النموذج الصارخ الذي يمكننا استدعاؤه بشكل دائم للإشارة إلى التعسف والتضييق والتشهير الذي لاقاه العلمانيون إبان فترة حبرية البابا شنودة الثالث، ففي جلسة طارئة عام 2007 صدر قرار المجمع المقدس بعزل بباوي من الكنيسة، وكانت أسباب المجمع "انحرافاته اللاهوتية والعقائدية والطقسية، ونشرها وتشويه فكر الآخرين بها، استمراره وتشبثه بأخطائه، وتنقله بين المذاهب المتعددة، وفرز وعزل كل من يؤمن بنفس أفكاره المنحرفة، وبالتالي لا يُسْمَح له بالاشتراك في أي سر من أسرارها الكنسية ولا بالتعليم بصوره المتنوعة" وكان بباوي مدرسًا بالكلية الإكليريكية حتى عام 1983، وهو تاريخ منعه من التدريس بالكلية الإكليريكية بالقاهرة وفروعها، ولما سافر إلى لندن للتدريس هناك، فوجئ بقرار البابا شنودة لكافة المعاهد الدينية هناك بوقفه عن التدريس وأنه محرومًا كنسيًا، أي اعتباره هرطوقيًا، فلما نمى لعلم بباوي أرسل خطابًا يستفسر بخصوص هذا الحرم، وبخصوص ما طرأ في تعاليمه جعل البطريرك يتخذ ضده كل هذه الإجراءات، فحسب الخطاب كان الدكتور جورج حبيب الشماس الخاص الذي اشترك في كل اللقاءات مع الكنائس والهيئات العالمية، وكان ممثلًا رسميًا عن الكنيسة في لجان صياغة المقررات لهذه اللقاءات، وكان مدرسًا وكاتبًا لم يبد البابا تجاه عقيدته أي ملاحظات، وختم بباوي خطابه يرجوه بدالة البنوة أن يستمع إليه أو على الأقل يوفر له محاكمة كنسية عادلة يستطيع فيها الدفاع عن نفسه.

الأنبا غريغوريوس
الأنبا غريغوريوس

حاول بعدها الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي أن يتدخل وأرسل خطابًا للبابا يقول فيه نصًا "أنني على المستوى الإيماني والكنسي قبل الشخصي غير مستريح بتاتًا لسياستكم في تصريف الأمور، أرجوك، لا تصدق نفسك أنك بمقالاتكم في الكرازة وفي وطني خدمت الكنيسة وتبدأ مع المبتدئين من الصفر لتعلمهم الطريق الروحي لكي تبني الكنيسة حسب تصوركم من جديد، وكأنك تنشأ من جديد كنيسة بلا ماض، وبغير تراث وطيد. ثم يتساءل في خطابه "هل حقًا أن منطلق غضبكم على جورج حبيب هو منطلق لاهوتي عقائدي؟ أم إنه غضبًا لأنك طلبتم منه أن يرد علي وأن يهاجمني فلما لم يفعل بالصورة التي ترضيكم وتشبع رغبتكم المعهودة في الانتقام والتشفي عدلتم عن رسامته كاهنًا بعدما قررتم ذلك"
ثم يستكمل خطابه ويقول "إن أسلوبكم في معالجة جورج حبيب سيقذف به إلى خارج الكنيسة وهكذا صنعتم بعماد نزيه وثروت فؤاد وغيرهم ممن تركوا الكنيسة كفرانًا.

على الجانب الأخر حكى الدكتور جورج حبيب قبل وفاته من أين بدأ الخلاف، فقال :" كنت أحضر محاضرة في الكلية الإكليريكية وكنت معيدًا بها، وقال البابا شنودة إن الثالوث “الأب والإبن والروح القدس” هم الوجود والعقل والحياة، بعد انتهاء المحاضرة راجعته فيما قال وقلت "يا سيدنا.. الوجود والعقل والحياة هي صفات كل أقنوم، حيث لم يقل أي من الآباء أن الأب هو الوجود والإبن هو العقل والروح القدس هو الحياة". فكانت بداية الشرخ في علاقتنا، الموقف الثاني حين رد بباوي على أحد القساوسة الإنجيليين بأن زواج الإنجيلي ليس زنا، وهو ما يخالف منشورًا كتبه البابا شنودة وبه حكم قطعي أن كل من يتزوج خارج الكنيسة القبطية يعتبر زاني، الأمر الثالث كانت إجابته بخصوص تناول المرأة وقت الدورة الشهرية، الذي يمنعه البابا شنودة ويعتبره نوع من النجاسة بجملة التعاليم اليهودية التي اتبعها تجاه المرأة وكأن عهدًا جديدًا لم يكتب ومسيحًا لم يأت".

تفاصيل كثيرة دارت على مدار أربعين عامًا عانى منها الدكتور جورج حبيب بباوي وغيره، حتى بعد وفاة البابا شنودة ظل الحرس القديم يطاردونه ويشهرون به وظل الجانب الأصولي ينشر فيديوهات البابا شنودة التي يهاجم فيها جورج وأفكاره، وحين قرر البابا تواضروس الثاني مناولة "سر التناول" الدكتور جورج قبل وفاته كانت أزمة حقيقية على وسائل التواصل الاجتماعي وتم اتهام البابا بالهرطقة وطالبوا بعزله.

 

صار هذا الإرث ثقيلًا وعميقًا وملطخًا بالدماء أيضًا، حين وقعت حادثة قتل الأنبا أبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار، وهو الدير الذي سكنه متى المسكين وتلاميذه من ناحية وتلاميذ البابا شنودة من ناحية ثانية، وظل صراعًا متجددًا بينهما، هذا الفزع الذي ألقاه البطريرك الراحل داخل التيار الأصولي من شعب الكنيسة جعلهم يدافعون باستماتة شديدة عن قاتلي الأنبا أبيفانيوس ويعتبروهما شهيدين، ثم يتجادلون باحتقار شديد ومعهم جزء من الإكليروس، حول المغدور به لمجرد أن أفكاره الإصلاحية تمتد إلى أفكار المسكين التي لا يرضى عنها البابا المائة والسابع عشر.

إحدى مظاهرات الأحوال الشخصية داخل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية
إحدى مظاهرات الأحوال الشخصية داخل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية
  •  الاحتكار.. والترهيب

لم يتوقف الأمر عند احتكار التعليم والمعرفة أو السيطرة الروحية، إنما امتد حتى كل ما يمس حياة العلمانيين دون غيرهم مثل قضايا الأحوال الشخصية، في عام 1971، بعد تولي البابا شنودة الثالث البطريركية، قرر تعطيل العمل بلائحة 1938، واعتبرها غير متوافقة مع تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية، من وجهة نظره، الزواج في المسيحية هو سر مقدس، ولا يجب فصله إلا في حالة واحدة وهي  "علة الزنا". هذا التعطيل كان خطوة لاستعادة سيطرة الإكليروس على قوانين الأحوال الشخصية والابتعاد عن التأثيرات المدنية، ما راكم كوارث حقيقية في الملف حتى هذه اللحظة، هذا التشدد في منح الطلاق خلق حالة من الاحتقان بين العلمانيين، خصوصًا الذين يعانون من مشاكل أسرية أو زواج فاشل ولا يرغبون في العيش مع شريكهم/ن، لكنهم لا يستطيعون الحصول على الطلاق إلا تحت شرطه الوحيد القاسي.

لم يكن هذا التشدد من قبل البابا شنودة عائقًا أمام الفنانة هالة صدقي والتي حصلت على الطلاق الكنسي من زوجها من خلال تغيير ملتها، وتزوجت للمرة الثانية بأكليل زواج في إحدى الكنائس الأرثوذوكسية.

في نفس السياق، تقدم أحد الأقباط الأرثوذوكس عام 2008 إلى المحكمة مطالبًا بالزواج مرة ثانية، وذلك بعد أن رُفض طلبه من قِبل الكنيسة التي استندت إلى قوانينها التي تمنع الطلاق إلا لعلة الزنا أو تغيير الديانة. حكمت المحكمة الإدارية العليا بإلزام الكنيسة بمنح الرجل تصريحًا للزواج مرة أخرى. استند الحكم إلى أن من حق المواطنين، وفقًا للدستور المصري والقوانين المدنية، أن يتمتعوا بحريتهم الشخصية في الزواج والطلاق، وأن الكنيسة يجب أن تتكيف مع قوانين الدولة المدنية التي تنظم العلاقات الأسرية، حتى وإن كانت تتعارض مع تعاليم الكنيسة. طعن البابا شنودة على الحكم ورفض تنفيذه واعتبره تدخلًا غير مقبول في شؤون الكنيسة، حيث تمسك بمبدأ أن الزواج هو سر مقدس في المسيحية ولا يمكن إنهاؤه إلا وفقًا للقوانين الكنسية التي تحدده كعلاقة دائمة بين الزوجين.

في نفس العام أدخل البابا شنودة تعديلاته على لائحة 1938 ونشرها في الجريدة الرسمية وأصبح الأمر أكثر صعوبة واستحالة، كما مثل انتهاكًا صارخًا للحقوق المدنية والحريات الشخصية للأفراد.

الأنبا بولا
الأنبا بولا

بشكل رسمي، كان  الأنبا بولا مطران طنطا هو المتصدر المشهد والمسيطر  الوحيد لعقود طويلة على هذا الملف، ولم يلتفت للأصوات المعارضة أو المتضررة من سياسته التعسفية في إدارة الملف، وترتب على هذا التعسف مشكلات جديدة واجهت المجتمع القبطي، أولهم أزمات التحول الديني كمنفذ وحل للهروب من المشكلات الأسرية التي لا تلتفت لها الكنيسة، بحسب شهادات النساء المتحوّلات للإسلام، فإن عامل الخلافات الزوجية والأسرية في حالة المتزوجات هو السبب الرئيسي الذي تذكره بعض النساء بالفعل.

وفي عام 2011، تظاهر عدد كبير من الأقباط أمام مقر المجلس الإكليركى مطالبين بعزل الأنبا بولا، المسئول عن ملف الأحوال الشخصية والسماح بالزواج المدنى وإعادة العمل بلائحة 38 التى تتضمن الكثير من حالات السماح بالطلاق. وعلق الأنبا بولا على هذا أن مظاهرات الأقباط بسبب الأحوال الشخصية تشويه للثورة، ولجأ أمن الكاتدرائية إلى الاستعانة بالشرطة للسيطرة على المظاهرات، كما استخدم الكلاب لإرهاب المتظاهرين.

رغم هذا الموقف المعقد، حين تم سؤال الأنبا بولا عن إمكانية العودة إلى التسع أسباب الواردة في لائحة 1938 رد نصًا أن الكنيسة لم تضع هذه الأسباب ومن وضعوها كانوا العلمانيين وبدعم من الدولة وقتها! كما أشار في فيديو إلى موضوع الزواج الثاني أنه خطيئة، فقال "من يصرح ومن يزوج خلافًا لتعاليم المسيح إللي منصوص عليها سيحاسب لأنه اشترك في جرم عظيم، لو الكنيسة قالتلك مش هتاخد تصريح بلاش تدور على جهة تانية تجوزك، دي تصاريح لممارسة الخطية.".

بالعودة لحركات العلمانيين الذين حاولوا التصدي لهذه الممارسات التعسفية، نجد أن أكثر من رابطة ظهرت لمتضرري الأحوال الشخصية يطالبون بالعودة إلى لائحة 1938، للوصول إلى حلول أكثر عدالة تضمن استقرار حيواتهم الشخصية، كما تأسس التيار العلماني القبطي على يد المفكر القبطي كمال زاخر عام 2006، ليبدأ في مناقشة كل هذه القضايا الشائكة في أوج عنفوان البابا شنودة الثالث، وفي حوار منشور عام 2008 قال كمال زاخر وقتها أن ما يتعرض له جراء أفكاره هو نوع من أنواع الإرهاب الفكرى، مؤكدًا "أنا أعلم حقوقى جيدا ومستعد للدفاع عن حقوقى لآخر مدى، وإذا تعرضت لأى تعسف سألجأ للقضاء، وكل ما تعرضت له مناوشات وتهديدات بالحرمان من الكنيسة أو الاستبعاد.".

حديثًا وفي عهد البابا تواضروس الذي جاء محملًا بأرث سلفه، لازال دور الجناح القديم يعكر صفو أي عمليات إصلاحية حقيقية، ولازالوا غير مستعدين للخروج من عصر البابا شنودة بسلبياته وإيجابياته.

إسحاق إبراهيم
إسحاق إبراهيم

يعلق إسحق إبراهيم مسؤول ملف الحريات الدينية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن الإكليروس يرفضون وجود العلمانيين كمؤثرين في إدارة الكنيسة، ورغم حديثنا أن الأمور تسير بشكل أقل صعوبة في عهد البابا تواضروس، إلا أن البابا نفسه يمنع انتخاب مجلس ملي جديد وبالتالي أهدر شكل رسمي يكفله القانون بضرورة وجود مجلس ملي يٌعين الكنيسة في إدارة شؤونها، وهنا يظهر التناقض في الحديث عن مساحة أكبر للعلمانيين مقابل أن لا تطبيق لذلك.

يضيف إسحق: أن التيار العلماني يمثل تهديدًا وتطويرًا في الوقت نفسه للدور التقليدي للاكليروس، بمعنى إنه من ناحية التطوير، هو إعادة إحياء لدور قديم لعبه الأراخنة على مدار قرون وللأسف مع نهاية الخمسينات تراجع دور التيار العلماني، لكن حاليًا أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي فرصة لهذا التيار في التعبير المباشر عن أفكاره، وهو امتداد لجهود التيار العلماني القبطي الذي ظهر منذ عشرين عامًا وكان أبرز رموزه الأستاذ كمال زاخر، وبدأوا في الاشتباك مع قضايا شائكة، وانتقاد سياسات بعينها في إدارة الكنيسة، من ناحية أخرى التيار العلماني يمثل تهديدًا -من وجهة نظر بعض رجال الدين- لأن أي مساحة أكبر للعلمانيين ستقلص من مساحتهم كرجال دين، وفي رأيي الشخصي أن المفترض أن يكون هناك تكاملاً بين الدورين.

بالعودة إلى السيطرة المطلقة للإكليروس فحديثًا، لم تقف عند كل المذكور إنما امتدت إلى الفضاء الإلكتروني أيضًا، ففي عصر رقمنة الدين والمؤسسات الدينية تحولوا إلى مراقبة الوسائط وما يكتبه العلمانيون حول آرائهم في السياسات الكنيسة، ومؤخرًا كانت سابقة، أن يقرر الأنبا بنيامين مطران المنوفية مقاضاة معيد بكلية الهندسة وهو كيرلس ناشد بسبب مناقشات دينية جمعت المدرس الجامعي وكهنة كنيسة الشهيد مار جرجس بمدينة منوف، وبالتبعية منشوراته الفيسبوكية، وتم ضبطه وإحضاره على خلفيّة اتّهامات بالتشهير وازدراء الديانة المسيحيّة والإساءة للقديسين. هذه الحادثة التي اعتبرتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في بيان لها، تأتي في سياق حالة من التربص بحرية الرأي والتعبير من قبل مؤسسات وأفراد تسعى لفرض وصايتها الدينية على المواطنين في ظل مناخ مقيد للحريات العامة، ومدعوم من مؤسسات الدولة، التي كان عليها أن تهب مدافعة عن حق المواطن في حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية.

أما بخصوص دور الإعلام في الأزمات المتتالية، فيشرح إسحق إبراهيم، إن  الإعلام الكنسي الرسمي لا يتناول إلا صف رجال الدين فقط، وحتى لو وجدت أزمة داخلية كالأزمة الأخيرة التي تخص مشاركة علمانيين في سيمنار المجمع المقدس لم يلتفت الإعلام للصوت الآخر، فهو يهتم بصوت الأساقفة الذين يمتلكون منابر للحديث مثل برنامج الأنبا بنيامين أو قناة مي سات التي يملكها الأنبا أرميا وكذلك الإعلام العام، إنما الدور الحقيقي يكون لوسائل التواصل الاجتماعي وما تمثله من ضغوط لطرح القضايا الشائكة كما حدث في البيان الصادر وأدى ذلك إلى ظهور بيانات تراجع من بعض الأساقفة التي ظهرت أسمائهم.

يختم إسحق إبراهيم حديثه ويقول: لست متفائلًا حيال الوصول إلى نقطة مشتركة بين العلمانيين والإكليروس، العلمانيين يرون أنهم لابد أن يكونوا أعلى من الإكليروس، والإكليروس بالتبعية يرون أنهم فوق المحاسبة والمراجعة، لا أرى فرص للتغير كبيرة، وبالعودة للخلف، وتحديدًا وقت حادثة قتل الأنبا أبيفانيوس وبعدها قتل خادم في شبرا، كان الأولى أن تثير هذه الحوادث حراك حقيقي داخل الكنيسة وتحدث تغييرًا حتميًا، وتحدد أدوار الإكليروس والعلمانيين، لكن للأسف لم يحدث شيئًا. بشكل عام أرى أن هناك تغذية للانغلاق الفكري وتعظيم مكانة رجال الدين.

 

1 تعليق

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة