العدالة ليست عمياء

تمثال سيدة العدالة الذي نشاهده علي وجهات المحاكم، والذي يمثل رمزا للعدالة القائمة علي الحياد بين الخصوم مهما اختلفت المناصب والطبقات.

يختلف المؤرخون حول أصل رمز ” سيدة العدالة ” وأن كان الأغلب أنه يعود إلي ” ماعت ” إله العدالة في مصر القديمة، ثم انتقل واندمج مع الإله تميس الإغريقية في العصر الهلنستي ومنها إلي الرومان حيث أصبحت الإلهة جاستينا التي تمثل الحق والعدل، ومنذ هذا التاريخ القديم أصبحت سيدة العدالة معصوبة العينين رمزا للعدالة علي مستوي العالم.

لكن هذا الرمز التاريخي في حاجة لإعادة التفكير في ظل التطور الكبير للقانون وعلاقته بتقدم المجتمعات والتكنلوجية، فالحقيقة أن العدالة لا يجب أن تكن عمياء، والرمز التاريخي الذي يعني الحياد بين الخصوم للحفاظ علي توازن ميزان العدل، ليس أكثر من رمز للمساوة أمام القانون في زمن كان المركز القانوني للشخص يختلف بحسب وضعه الطبقي.

أما القانون بالمفهوم الحديث فلا يعرف المساواة الحسابية بين المراكز القانونية بل يعطي للطرف الضعيف حقوق تساعده علي إثبات حقه.

ربما ينطبق رمز العدالة العمياء علي الحكم في نزاعات الأفراد حول حقوق مالية أو قانونية، لكن الوضع يختلف تماما عندما يكون النزاع بين المواطن والدولة فالمراكز القانونية هنا غير قابلة للمقارنة، فالدولة تملك سلطة تطبيق القانون ومرخص لها باستخدام القوة أما المواطن فليس أمامه سوي الدفاع عن نفسه.

دار القضاء العالي
دار القضاء العالي

يحق للمواطن أن يختصم الحكومة أمام القضاء في حالات عديدة، والقانون في هذه الحالة يلزم الحكومة بنفس قواعد المحاكمة، لكن الخصومة الأخطر علي الإطلاق عندما يصبح المواطن متهمًا بجريمة جنائية، وهي حالة يمكن أن يقع فيها المواطن في أي لحظة بداية من حادثة علي الطريق أو مشاجرة علي مقهي مرورا بارتكاب جريمة سواء عمدا أو عن غير قصد، ووصولا لكتابة رأي لا يعجب البعض علي الفيسبوك.

اقرأ أيضاً: مثلث “عبد الخالق ثروت” يكتمل ضد مسودة”التشريعية”.. والبرلمان يتراجع عن “البيان المسيء”

المواطن في وضع الاتهام يكون في أضعف حالاته، يقبض عليه ويحتجز وتقيد حريته، ويتعرض لاتهامات يمكن أن تودي به للسجن أو عقوبة أكبر، وفي المقابل الخصم هو الحكومة بكل قوتها وسلطتها، ولأن البشرية اتفقت بعد عصور من الظلم علي أن المتهم بريء حتي تثبت إدانته بحكم عادل في محكمة تتوفر بها كل الضمانات القانونية للمتهم، ولأن الإنسانية اتفقت علي أن للمتهم حقوقه الإنسانية كاملة، كان لزاماً على القانون أن يحمي المتهم من تعسف السلطة وفي نفس الوقت يحافظ علي حق المجتمع في الأمان.

أوجد مبدأ افتراض براءة المتهم إشكالية علي مستوي فلسفة القانون، فالشرطة عندما تقبض على متهم وتقيد حريته وتخضعه للتحقيق ويمكن أن تحبسه احتياطيا وغير ذلك من إجراءات كثيرة حتي الوصول للمحاكمة أو ثبوت البراءة في التحقيق، تتخذ تلك إجراءات ضد إنسان يفترض أنه بريء، فكيف تعاقب بريء؟ هذا السؤال بالتحديد هو فلسفة قانون الإجراءات الجنائية.

اقرأ أيضاً: ناصر أمين: قانون الإجراءات الجنائية يهدد أمن المصريين في بيوتهم.. ويفتح الباب لولاية “الجنائية الدولية” (حوار)

ودون الخوض في الجدالات الفلسفية، تكمن فلسفة القانون في الحقوق والحريات التي شرع لحمايتها، وبالنسبة لقانون الإجراءات الجنائية الذي يعد ” الدستور الثاني ” كما وصفه نادي القضاة، فعلي المشرع أن يبحث عن التوازن بين حقوق الإنسان من جهة وحق المجتمع في الأمن من جهة أخري.

ومن النظرة الأولي لمشروع قانون الإجراءات الجنائية الذي تعمل الحكومة علي إصداره سريعا رغم الاعتراضات الواسعة عليه، فإن هناك تبني بوضوح لـ” الفلسفة الأمنية “، فالحكومة لم تبحث عن التوازن ولم تراعي مبادئ وضمانات العدالة الجنائية.

هذا الانحياز للفلسفة الأمنية والذي يتضح مع كل مادة من مواد مشروع القانون، يصطدم بالضرورة بمبادئ قانونية وحقوقية راسخة عبر قرون مثل افتراض براءة المتهم، وحقه في الدفاع، وضمانات المحاكمة العادلة، كما يتناقض المشروع في نقاط كثيرة مع الدستور والمواثيق الحقوقية التي تلتزم بها الحكومة.

إن رفض هذا المشروع من منظمات المجتمع المدني من نقابات ومنظمات حقوقية وأحزاب، ليس مجرد اختلاف علي صياغة بعض المواد أو التأثير السلبي علي بعض الفئات خاصة المحامين والصحفيين والقضاة، الحقيقة أكبر وأوضح من ذلك بكثير، فجوهر الخلاف هو الفلسفة الأمنية لهذا المشروع.

تلك الفلسفة الأمنية لا تعترف بحقوق وحريات المواطنين في محل الاتهام، فكل مواطن مخاطب بهذا القانون ويمكن يؤثر علي حقوقه وحريته، وكل مواطن يمكن أن يصبح متهم في أي لحظة خاصة في ظل منظومة تجريم متشعبة تطال كل شيء حتي التعبير عن الراي أو الانحياز لموقف مخالف لمن يشغل مقاعد السلطة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة