"أيلول أسود جديد".. من الأردن إلى غزة وبيروت

قلت لكم مرارا

إن الطوابير التي تمر..

في استعراض عيد الفطر والجلاء

(فتهتف النساء في النوافذ انبهارا)

لا تصنع انتصارا.

لم يكن أكثر المتشائمين يتصور أن نعيش "أيلول أسود" جديد في لبنان بعد نصف قرن مما حدث في الأردن. الفواجع المتلاحقة على مدار الأسابيع الماضية بداية من تفجيرات أجهزة "البيجر"، مرورًا اغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله والكثير من قيادات المقاومة والآلاف من الضحايا المدنيين، وصولًا إلى توغل بري لجيش الإحتلال الإسرائيلي للحدود اللبنانية.

تأت هذه الأحداث في شهر محمل بذكرى مؤلمة وقاسية وقاصمة للمقاومة الفلسطينية؛ فما حدث في المخيمات الفلسطينية في الأردن من مجازر قامت بها قوات الأمن الأردنية بهدف القضاء على مجموعات المقاومة في سبتمبر سنة 1970، يتكرر الآن في قطاع غزة على يد قوات الإحتلال الإسرائيلي بصورة أوسع وسط تخاذل عالمي وعربي أكبر.

المواجهات الدامية التي وقعت في الأردن وعرفت إعلاميًا بمجزرة "أيلول الأسود" عام 1970م،  كانت نهاية مرحلة تاريخية من النضال العربي والفلسطيني؛ بخروج فصائل المقاومة من الأردن، ووفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وتوقيع اتفاقية السلام المصرية _الإسرائيلية، لتكون فترة السبعينيات من القرن العشرين بداية لمرحلة الهيمنة الأمريكية/الإسرائيلية على المنطقة العربية، فهل تكون مواجهات أيلول/سبتمبر 2024م في لبنان عنوانا لمرحلة أخرى من حاضر ومستقبل القضية والنضال العربي والفلسطيني؟

طرف الخيط

في السادس من سبتمبر/أيلول عام 1970، اختطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خمس طائرات أجنبية، وجهوا ثلاثة منهم إلى مطار "داوسون" وهو قاعدة بريطانية قديمة في الأردن، واحتجزوا جميع المسافرين كرهائن مقابل إطلاق سراح الفدائيين المحتجزين في بريطانيا وسويسرا واسرائيل.

كانت هذه العملية واحدة من العمليات النوعية التي تبنتها الجبهة الشعبية عقب هزيمة 1967، حين ظهر تحليل سياسي فلسطيني يشير إلى  أن الكيان الصهيوني يقوم على ثلاثة ركائز "الاقتصاد، والعنصر البشري، والمؤسسة العسكرية" وضرب أي منهم خطوة في استنزاف العدو كمقدمة للانتصار عليه، وكانت العمليات النوعية تعتمد على توجيه ضربات متنوعة داخل الكيان الصهيوني وخارجه، وجاءت فكرة اختطاف  الطائرة، كأداة ضغط  للإفراج عن المقاتلين الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية.

على الجانب الآخر كانت المقاومة الفلسطينية المتمركزة في الأردن، تعاني من علاقة متوترة مع الجيش الأردني والملك حسين، وقد شهدت الأشهر السابقة لشهر سبتمبر/أيلول العديد من المواجهات الدامية بين فصائل المقاومة ووحدات الجيش الأردني، ووجد الملك حسين في حادث اختطاف الثلاث طائرات فرصة كبيرة أجل تصفية المقاومة الفلسطينية وبالفعل نتج عن مواجهات "أيلول الأسود" الدامية وسقوط عدد كبير من الضحايا يتراوح ما بين مئات لعدة آلاف.

قلت لكم مرارا

إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحارى
لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء.
إن الرصاصة التي ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء:
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغارا!

نكسة 1967

عقب نكسة 1967 حاولت حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رفع الروح المعنوية العربية، عبر شن عمليات متنوعة بتكتيكات جديدة ضد  المحتل الإسرائيلي، انطلقت معظم هذه العمليات من الأراضي الأردنية، بالتزامن مع عمليات الفدائيين المصريين ومعهم بعض وحدات من الجيش المصري والأردني التي أعيد بناؤها عقب النكسة.

نتج عن هذه المواجهات خسائر كبيرة للعدو الصهيوني، كما حدث في معركة "الكرامة" عام 1968، حين قامت  قوات الإحتلال الاسرائيلي بشن عملية عسكرية على بلدة الكرامة الحدودية شرقي نهر الأردن حيث تنتشر قواعد الفدائيين. ونتج عن هذه المواجهة انسحاب الجيش الإسرائيلي بعد أن خلّف وراءه عدد كبير من القتلى والجرحى وأربع دبابات وخمس عربات عسكرية، وسقوط إحدى طائراته، واعتبرت هذه المعركة أول انتصار عربي ضد الاحتلال الإسرائيلي.

صمود المقاومة الفلسطينية في معركة "الكرامة" مكنها من تطوير تسليحها في ظل دعم عربي كبير مستوى الشعوب والأنظمة، وسط هذه الأجواء وقعت مواجهات عنيفة بين الفدائيين الفلسطينين والجيش الأردني سقط فيها عشرات الضحايا من الجانبين، وشعر الملك حسين بفقدانه السيطرة على مجريات الأمور.

قلت لكم في السنة البعيدة
عن خطر الجندي
عن قلبه الأعمى، وعن همته القعيدة
يحرس من يمنحه راتبه الشهري
وزيه الرسمي
ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء
والقعقعة الشديدة.

الفصائل في الأردن

رغم مرور أكثر من نصف قرن على ذكرى أيلول الأسود، ما نزال حتى اليوم لا توجد رواية موثقة وموضوعية تحكي ما حدث؛ فالرواية الرسمية الأردنية تشير إلى وقوع عشرات من القتلى فقط، وتلقي بالمسؤولية كاملة على فصائل المقاومة التي حاولت اغتيال الملك حسين، ولم تلتزم بالتعهدات والقرارات الأردنية والعربية المرتبطة بوقف العمليات المسلحة انطلاقًا من الأراضي الأردنية وتسليم سلاح المقاومة.

بينما تشير الرواية الفلسطينية لعكس ذلك، حيث تتهم الملك حسين بالخيانة وعدم الوفاء بالتعهدات، والإستعانه بالإحتلال الإسرائيلي والإسلحة الأمريكية لدعم سلطته ونفوذه، وتؤكد على أن الضحايا الفلسطينين من الفدائيين وسكان المخيمات العزل يقدر بعدة آلاف؛ لتبقى حقيقة ما جرى حائرة بين الروايتين، بينما النتيجة النهائية واضحة للجميع، بخروج المقاومة الفلسطينية من الأراضي الأردنية، وفقدان واحدة من أبرز محاور المقاومة حينها.

في كتابه "الوجيز الكافي في  تاريخ فلسطين السياسي" يقدم الباحث والمؤرخ عبد القادر ياسين قراءة نقدية للأحداث التي سبقت مجازر أيلول الأسود في فصل بعنوان "الفصائل في الأردن" يشير ياسين إلى أن قبضة القمع الأردنية تراخت بفعل هزيمة ١٩٦٧م؛ مما مكن فصائل فلسطينية عدة من الوصول إلى هناك، وتعزز وجودها، بعد الانتصار الجزئي الذي حققته تلك الفصائل، بمساعدة حاسمة من الجيش الأردني، في معركة الكرامة في شهر مارس 1968م "استردت السلطة الأردنية أنفاسها؛ بعد وصول الأسلحة الأمريكية إليها؛ ما أغراها بضرب فصائل المقاومة، أكثر من مرة؛ بداية من نوفمبر ١٩٦٨م حتى أيلول/ سبتمبر ۱۹۷۰م".

ويضيف:"نفخت السلطة الأردنية في هنات الفصائل؛ كما أن المقاومة - بعد الكرامة - انتقلت من الخنادق إلى الفنادق. وحلت الطامة الكبرى، حين شهرت فصائل مقاومة بعبد الناصر، لقبوله مبادرة "روجرز الثانية"، حيث حاول الرئيس المصري استثمار هذه المبادرة في بناء حائط الصواريخ على الجبهة المصرية من قناة السويس، مستظلا بوقف إطلاق النار، وكانت مبادرة "روجز الثانية" تطالب بالانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي العربية، ما استحق معها روجرز شتائم غولدا مائير".

 

قلت لكم مرارا

 إن كان لابد من هذه الذرية اللعينة
فليسكنوا الخنادقَ الحصينة
(متخذين من مخافر الحدود.. دوُرا)
لو دخل الواحدُ منهم هذه المدينة:
يدخلها.. حسيرا
يلقى سلاحه.. على أبوابها الأمينة.

كرة الثلج

في شهر فبراير عام 1970 اتخذ مجلس الوزراء الأردني عدة قرارات بهدف الحد من نفوذ وقوة فصائل المقاومة الفلسطينية، من أبرزها: حظر حيازة الأسلحة ونقلها، ومنع المسيرات والاجتماعات العامة، وفرض الرقابة على المطبوعات وعلى العمل الحزبي، وشهدت الشهور التالية زيادة حدة المواجهات بين فصائل المقاومة والجيش الأردني، وخاصة بعد قبول الرئيس المصري جمال عبد الناصر  ثم الملك حسين بمبادرة "روجرز" لوقف إطلاق النار في يوليو 1970، وهو ما يعني وقف أي عمليات للمقاومة الفلسطينية تنطلق من الأراضي الأردنية.

في اليوم الأول من شهر سبتمبر/ أيلول تعرض موكب الملك الحسين لمحاولة اغتيال، بإطلاق نار على موكبه في العاصمة عمان، وفي اليوم السادس من ذات الشهر اختطفت الجبهة الشعبية الطائرات الثلاث ووجهتهم إلى الأردن، ووجد الملك حسين فرصة كبيرة لتصفية المقاومة بدعم دولي، وبعد فشل المفاوضات مع فصائل المقاومة.

قرر الملك حسين تشكيل حكومة عسكرية، وأعلنت الأحكام العرفية في الأردن كله. وفي يوم 17 سبتمبر، اقتحم اللواء 60 المدرع مدينة عمان، وشرع في قصف مخيمي الوحدات والحسين. ووقعت  معركة دامية استمرت اثني عشر يوماً، وانتهت بالاتفاق على خروج منظمات المقاومة من العاصمة عمان وضواحيها. وسقط في هذه المعركة الآف من القتلى والجرحى.

في هذه الأثناء تقدم الرئيس المصري جمال عبد الناصر بدعوة إلى قمة عربية استثنائية لبحث الأوضاع في الأردن. وتم الاتفاق على بقاء بعض مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في عمان، والإبقاء على بعض القواعد العسكرية في شمال الأردن، إلا أنه بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر عام 1970 ، قام الملك حسين بإخلاء عمان من أي وجود للمقاومة الفلسطينية، وشن حملة اعتقالات لكل من كانت له علاقة بالمنظمات الفدائية الفلسطينية، وفي عام 1971 خرجت فصائل المقاومة الفلسطينية من الأردن، لتبدأ  مرحلة جديدة من الشتات.

 

قلت لكم..

لكنكم..

لم تسمعوا هذا العبث

ففاضت النار على المخيمات

وفاضت.. الجثث!

وفاضت الخوذات والمدرعات.

 

*المقاطع من قصيدة " تعليقا على ما حدث في مخيم الوحدات" للشاعر المصري الراحل أمل دنقل.

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة