شيوخ الهوس الجنسي.. التيجاني ليس وحده

“اقرأ باسم ربِّك الذي خلق”.. وتنزّل الوحي الأمين، على الرجل الذي سار على خُطى جده الخليل إبراهيم، أبي الأنبياء، إذ فكَّر ودقَّق وتدبَّر وأمعن النظر وتروى، فاستقبح عبادة الأوثان، فولَّى وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفًا، وما كان من المشركين.

ها هو يتعبد في بطن غار حراء، آناء الليل وأطراف النهار، لقد بلغ اليقين بعد رحلة شكٍّ شاقةٍ كؤود؛ ما يخرُّ له القوم ساجدين، محض أحجار لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئًا، لقد تأمَّل الكون، سماءً ذات أبراج، وأرضًا ذات فجاج، وليلًا يُوُلَجُ من نهار، ونهارًا يتبع الليل، وشمسًا تجري لمستقر لها، ثمة خالق يدبر الأمر، لا ريب في ذلك.

اقرأ.. ارتجَّ قلبه جزعًا، أجاب مرتعشًا صوته: “ما أنا بقارئ”، ثم هرع إلى زوجه السيدة خديجة رضي الله عنها، فبادرته: “واللهِ لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر”، فهدأت نفسه، وشرع امتثالًا للأمر الإلهي، يدعو خلصاءه المقربين سرًا، ثلاث سنوات، ومن ثم جهر في وجه المشركين بعدئذٍ؛ أنْ اعبدوا الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد.

غار حراء
غار حراء

كذلك بدأت الدعوة، انطلاقًا من عقل رجل سليم الفطرة، فإذا هي دعوة أصلها الاستنارة، وكذلك ينبغي أن تبقى إلى أن يرث الله الأرض.

مع الجهر شحذ الكفر قواه الغاشمة، فالأمر جد خطير، إن قريشًا بصدد ثورة، ستجتث مكانتها الروحية والسياسية والاقتصادية بين العرب، وسرعان ما تحالفت جماعات المصالح ضد الدين، الذي “يُفرِّق بين المرء وزوجه، ويُغري العبيد بمناطحة أسيادهم”.

“لن نؤمن لك”.. وطفق القرشيون يمعنون في اللجاجة، فإذا بهم يشترطون على الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يأتيهم بمعجزة؛ سألوه أن يفجِّر من الأرض ينبوعًا، أو تكون له جنَّة، تتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا، أو يُسقط السماء عليهم كسفًا، أو يأتي بالله والملائكة قبيلًا.

كان القرشيون وهم أهل بلاغة وبيان، يعلمون يقينًا أن القرآن “ليس بشريًا”، فبناؤه اللغوي المحكم لا يتسنى لإنسان، وإنَّ به لحلاوة، وعليه لطلاوة، وأعلاه مغدق وأسفله مثمر، غير أنهم غضوا الطرف عن ذلك، عامدين إلى الجدل العقيم، فإن لم يأتِهم الرسول ما سألوا، كذَّبوه وسفّهوه، وإذا أراهم المعجزات، راوغوا وماطلوا، كدأب بني إسرائيل مع الأنبياء.

والواقع أن اشتراط قريش معجزة، إلى جانب كونه مراوغة “تفاوضية” إن صح التعبير، كان يتسق أيضًا مع بداءة تفكير المجتمع الجاهلي، قبل أكثر من ألف وربعمئة سنة، حيث كان الناس يقرؤون الطالع، ويستفتون العرَّافات، ويصدقون السحرة والدجالين، ويستهمون “أي يقترعون بالسهام” قبيل القرارات المصيرية.

لا مجالًا للعلم في المجتمعات الجاهلة، ولا مساحة للتفكير الموضوعي، ولا فرصة للأخذ بـ”دراسات الجدوى” التي سمعنا في مفارقة بائسة، إذ نحن في القرن الحادي والعشرين، مَنْ يتشدَّق بأنها تُعطّل مسيرة الإنجازات.

معجزة الإسلام في رفض الخوارق

أيمّا يكن.. لم يخذل الحقُّ المصطفى؛ أنزل الذكر: “اقتربت الساعةُ وانشقَّ القمر”، وصدق الله العظيم إذ رأى الملأ من القوم، القمر مشقوقًا في كبد السماء، لكن قلوبًا عليها أقفالها لم تخشع، قالوا: “إن هذا لساحرٌ مبين”.

لكن الملاحظة المهمة أن معجزة انشقاق القمر، وغيرها من معجزاته، عليه الصلاة والسلام، لم تكن خارقة بدرجة ما أوتي أسلافه الأنبياء أولو العزم، فلا هو صنع سفينة فنجا وقومه من الطوفان، ولم يدخل النار، فكانت بردًا وسلامًا، ولم يضرب بعصاه البحر فشقّه، ولم يشفِ الأعمى والأبرص، وما نحو ذلك من خوارق استثنائية، كانت كفيلة قطعًا باستجلاب إيمان البسطاء آنذاك.. فلماذا إذن؟

أغلب الظن أن ذلك يرجع إلى أن الإسلام هو “كلمة السماء الختامية”، كانت الرسالة كوصية الأب الأخيرة إلى أبنائه، الذين شبوا عن الطوق، ما استوجب أن تكون “ممتدة الصلاحية”، لا تاريخ انتهاء لها.

قبل الرسالة الخاتمة، ولأن الإنسان خُلِق نَسْيًا، فإن الله جعل له تذكرةً من وراء تذكرة، نبيًا من بعد نبي، وكلما جاء رسول عضّده بالمعجزات، الأمر الذي لم يعد يلائم مراد رسالة ستوَّجهُ البشرية في مستقبلٍ، يحكمه العقل والمنطق والاستنباط والقياس، ولن يغدو البشر فيه كالقرويين السذج، يتحلّقون حول ساحر يهتف: “جلا جلا”، ثم يُخرج الأرانب من قبعته.

هنالك معجزة أهم، ممتدة إلى الأبد: “العقل” الذي كرّم الخلَّاق به بني آدم.

معجزة الإسلام إذن تكمن في ذات الإنسان، في أعماقه هو، فاليقين لا يحتاج بخور الدجالين ودروشة الحمقى.

إنه يخاطب البشرية، التي نضجت على نار التجارب التاريخية الهادئة، فاستوعبت أسس التفكير العلمي، وربطت المقدمات بالنتائج، بعد أن غادرت حقب الطفولة الغافلة، ومن ثم لم تكن هناك ضرورة لـ”مناغاة” المشاعر بمعجزات استثنائية، أو قل بحيل ضد المألوف.

ومثلما لم تكن الرسالة ضد المألوف، كان صاحبها.

رجل “عاديٌ” فى مظهره وسمته، يمشي في الأسواق، لا هو قصير ولا فارع الطول، ولا هو أسود داكن ولا أبيض أبلج، ولا هو قوي شديد، ولا واهن ضعيف، ولا هو ضخم جسيم ولا نحيل هزيل، وإنما رِبعة فى ملاحة واتساق، وكذلك كان مسلكه، يأكل من عمل يديه آخذًا بالأسباب المنطقية، ولم تُلقِ السماء إليه كنزًا، أو تكون له جنة.

بشرٌ يوحى إليه غير أنه يشاور أصحابه، فى أمور الدنيا فيتحرى الأصوب، لأن المنشود هو إعلاء العقل، الذي سيكون بوصلة الإنسانية في عواصف الشك، بعد انتهاء زمن المعجزات.

ردة إلى جاهلية الخرافة

وبعدُ.. هل فهم المسلمون بحقٍّ مغزى الرسالة؟

من العبارات الشائعة والمحزنة، أن “أمة اقرأ لا تقرأ”، والمؤسف أن المسلمين الذين أهدوا البشرية علوم الجبر والفيزياء والكيمياء، وما يتصل بها من الصيدلة والتداوي، وعرفوا الجغرافيا والفلسفة، وتفوقوا في فنون الحرب والعمارة وغير ذلك، قد ارتدوا إلى ظلمات الخرافة، واستُغرقوا كالمنومين مغناطيسيًا في الجهالة، فإذا بهم يقتفون الطلاسم، ويسقطون تبعًا لذلك من قافلة الحضارة.

كان محمد بن عبد الله يقول: “ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد”، توكيدًا أنه “إنسان ليس خارقًا”، وبذلك خرقت رسالته الخوارق، واخترقت القرون قرنًا بعد الآخر.

كان خير من وطأ الثرى يريد إسقاط عبادة الأوثان، ومعها ظلال الوثنية السوداء من العقل البشري برمته، لكن لأن “آفة حارتنا النسيان”، كما يقول نجيب محفوظ في “حكايات حارتنا”، سرعان ما عاد بنو آدم إلى الجاهلية، فإذا بنا نرى فيما نرى من نكد الدنيا، نموذج الشيخ التيجاني، بكل ما يجسده من ردة.

نرجسي منفوش كالطاووس، ترتسم على محياه آيات الخيلاء إذ يتودد إليه أتباعه، بعبارات مديح تكاد تضعه في مكانة الآلهة، ويصف نفسه في موقعه الإلكتروني الرسمي، بأنه “عالم الأشراف وشريف العلماء، بهجة المحدثين الذي طأطأ له علماء عصره”، ويهرطق في خطبه مدعيًا تناهي نسبه إلى الرسول، فيقول إنه “أبي” وقد أوصاني بكذا وكذا، ويدعو إلى التقرب إلى الله بـ”النظر إلى وجهه”، فتلك “أكبر عبادة”، وعلى المريد أن يحب شيخه ولا يشرك به أحدًا، حتى يحظى بالفتح الأكبر.. من دون تفسير لماهية هذا الفتح، لكنها الغيبيات التي تُولد سِفاحًا من رحم الغيبيات.

صلاح الدين التيجاني
صلاح الدين التيجاني

واللافت للانتباه أن ذاك الفلتة، “فارس المعاني”، في مفارقة فاضحة صارخة، يخطئ حين يتحدث الفصيحة ارتجالًا، فينصب المرفوع ويجزم المنصوب، كما لو كان من الأعجام الذين لا يعرفون لغة القرآن إلا قليلًا.

هرطقة خالصة، وظلامية بائسة، والمؤسف أنها لا تحظى بتصديق العامة والغوغاء فحسب، بل إن لها أتباعًا مصفقين مهللين، ودراويش “مخطوفين ذهنيًا” من نخبة المرحلة، الذين افتضح تهافتهم حين حامت الشبهات حول تورط “حبيبهم النوراني”، في حضيض دناءة التحرش الجنسي بطفلة غريرة.

مشهد من مشاهد الكوميديا السوداء، يؤكد أن التيجاني وما يمثله ليس ظاهرة منبتة الصلة، عن سياق الانحطاط الحضاري الشامل، الذي تدحرجت الأمة إلى دركه الأسفل؛ انحطاط متصل الحلقات، وذو جذور راسخة في الوجدان الجمعي العربي والمصري، وقد بدأ تحقيقًا لدى سقوط الخلافة العباسية، ومعها عاصمتها بغداد عام 1258، إثر الغزو المغولي، وبقي ممتدًا مثل كابوس مرعب حتى اليوم.

ما رواه الجبرتي عن “تيجاني الأمس”

في دفاتر التاريخ أكثر من تيجاني، وأكثر من مدلس أفّاق، خَادَعَ الناس بأن قدراته خارقة، وادعى كذبًا أنه صاحب كرامة، من المقربين المنذورين.

ولمَّا كان الشيء بالشيء يُذكر، وكانت الواردة تجلو الشاردة، كما يقول المتصوفة، الذين يظلمهم الأفاقون من مشايخهم، فإننا نورد في الختام قصة الشيخ أحمد صادومة، الذي يذكره الجبرتي في “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، فيقرر أنه عاش في نهايات القرن الثالث عشر، أي في غضون سقوط بغداد، وكان “مُسنًا ذا شيبة وهيبة وأصله من سمنود، وله شهرة عظيمة، وباع طويل في الروحانيات وتحريك الجمادات، يكلم الجن ويخاطبهم مشافهةً ويُظهرهم للعيان”.

وكان ذاك “التيجاني التاريخي” يزعم كذلك أنه من الأولياء أرباب المكاشفات، وكان له أتباع ومريدون، حتى أسدل الأمير يوسف بك الكبير، الستار على قصته البائسة، إذ اختلى ذات ليلة بإحدى جواريه، فرأى طلاسم مكتوبة على موضع عفتها، فثار وماج وتوَّعدها بالعقاب الأليم، وكان قاسيًا بطّاشًا، فاعترفت تحت الخوف بأن صادومة فعل ذلك، كي يحبها سيدها.

عندئذٍ طار الأمير كالريح العاصفة إلى الأفَّاق اللئيم، فعكف على ضربه حتى لفظ أنفاسه بين يديه، ثم فتّش بيته فاستخرج أدوات سحر وشعوذة، وتماثيل ومجسَّمات لأعضاء تناسلية، فخرج على الناس بما وجد صارخًا: انظروا ماذا يفعل مشايخكم؟

2 تعليقات

  1. مقال رائع كالعاده ولكن كنت أتمنى أن لا تتطرق إلى جزئية التحرش
    فالله وحده اعلم من الظالم ومن المظلوم إلى ان تثبت عليه التهمة بالأدلة الدامغة وكان يكفي فقط عبارات الشرك التي جاءت على لسانه في فيديوهات مسجله على صفحته قبل إغلاقها وعلى تمجيد ذاته وسيطرته على مريدينه.
    مقال رائع ولغة عربية فخيمة وتعبيرات مؤثرة وبداية ونهاية رائعة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة