كرنفال القاهرة

تعرفت على كتابات الأديب المصري علاء خالد، من خلال روايته الأولى"ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر" الصادرة عام ٢٠٠٩م، كان عنوان الرواية ومحتواها استثنائي وغير شائع في الأدب المصري، عنوان شاعري مكون من جملة مركبة غاية الجمال؛ لنص متعدد الأوجه يجمع بين السيرة الذاتية والخيال والأنثروبولوجيا والشعر.

هذه الصيغة المركبة في الكتابة التي تمزج أكثر من شكل أدبي في نص واحد، بكل ما فيها من تفرد وتتنوع وجراءة وتجريب وحميمية تكرر حضورها في أعماله الأدبية التالية، وصارت ختم جودة، وبصمة شخصية، ودعوة لخوض مسارات جديدة في الكتابة والحياة، حيث النصوص النوعية العابرة للتصنيف الأدبي المتعارف عليه.

لذلك كل كتاب يصدر لعلاء خالد، هو حدث استثنائي بالنسبة لي؛ ففي مجتمع تهيمن عليه الأفكار والتصورات الأحادية عن الأدب والذات والوجود، تجسد كتابات صاحب رواية "متاهة الإسكندرية" الصورة النقيض حيث التعدد والتنوع والشك والتساؤل، نصوص مفتوحة على الذات والعالم بلا حواجز، كولاج أدبي متعدد الطبقات والألوان والرموز والظلال والدلالات.

حياة ممتدة

في كتابه الجديد "كرنفال القاهرة .. مشاهد من عقد التسعينيات" يقدم علاء خالد سيرة ثقافية معاصرة للعاصمة المصرية، رحلة ممتعة ومثيرة من التجارب والخبرات الشخصية؛ تمتد مثل شبكة عنكبوتية داخل قلب المدينة الثقافي من عالم الصحافة إلى عوالم الأدب والفن التشكيلي والمقاهي الثقافية وصناعة النشر، مرورًا بشوارع وأزقة وفنادق وبارات ومطاعم وسط القاهرة.

غلاف كتاب كرنفال القاهرة
غلاف كتاب كرنفال القاهرة

نقرأ على الغلاف الخلفي للكتاب الصادر حديثًا عن دار المرايا للثقافة والفنون "للمرة الأولى يهجر علاء خالد الإسكندرية، مدينته المحبوبة، التي كتب حكايتها شعرا أو نثرا، أو حوارات مع ناسها العاديين؛ ليتوقف في هذا الكتاب عند المدينة - المركز التي جسدت في الوقت نفسه علاقة السلطة والهامش. كيف خطا _الشاب الذي_ كان خطواته الأولى في دوائر الفن والثقافة والكتابة؟".

قدم صاحب كتاب "طرف غائب يمكن أن يبعث فينا الأمل" في كتاباته السابقة سيرة حية للإسكندرية، تاريخ موازي للمدينة التي ولد وعاش فيها، تتوارى فيه قليلا أسطورة البحر المهيمنة على المخيلة الجماعية، لصالح حكايات البشر وحياتهم وتجاربهم، حيث يتجسد سحر مدينة الإسكندر في شخوصها، وتتقاطع أقدارهم مع تاريخها وحاضرها بكل ما فيها من تنوع، وسحر، وجمال، وقسوة، وجنون، وجموح، وخيال، وتيه طويل على مد البصر، حيث أفق البحر المفتوح على السماء مباشرة.

الأرشيف الشخصي

في كتابه "كرنفال القاهرة" يخوض علاء خالد رحلة جديدة يعود فيها لسنوات الشباب في تسعينيات القرن العشرين، حيث القاهرة مركز وحيد للثقافة/السياسة قبل انتشار وسائل الاتصال الحديثة وعصر السماوات المفتوحة ومواقع التواصل الاجتماعي، طارحًا الكثير من التساؤلات والتأملات على المستوى الفردي الخاص وعلى المستوى الثقافي والمجتمعي العام.

"يفتح علاء خالد أرشيفه الشخصي، لا ليُظهر لنا السيرة الذاتية والمذكرات، ولكن ليكشف لنا مثل خيميائي خبير - طبقات من التاريخ الثقافي للمدينة : عمرانها وعمارتها، ومخيلتها الجمعية ، وجماعاتها الفنية وتجمعاتها الأدبية، ويوتوبياها المهزومة، التي تتماس جميعًا، بطبيعة الحال، مع التاريخ الشخصي".

علاء خالد
علاء خالد

يتكون كتاب "كرنفال القاهرة" من مجموعة مختارة من المقالات نشر بعضها في جريدة التحرير قبل سنوات، ويعيد علاء خالد نسج خيوطها من جديد؛ برسومات داخلية مميزة للفنان وليد طاهر؛ لتظهر كنص طويل وممتد عن سيرة القاهرة، نص مسكون بالرموز والعلامات والفراغات أيضًا، حيث القارىء مدعو ليكون شريكًا في العمل عبر تأمل وسرد حكايته الخاصة مع المدينة.

يحتوي الكتاب على أكثر من ثلاثين مقال/نص تتنوع في بناءها ومحتواها بين المقالات الصحفية، والكتابة الذاتية، والقراءة النقدية للمشهد الثقافي، والبورتريهات الأدبية لشخصيات وأماكن استثنائية، بعناوين مميزة لكل مقال/نص يدعونا صاحب كتاب "مسار الأزرق الحزين" إلى رحلة خاصة في عالم القاهرة الثقافي، حيث كل نص يظهر كأنه محطة في قطار حياة ممتد عبر المدينة.

تعكس عناوين المقالات/النصوص قدر كبير من الشاعرية والمفارقة والمحبة والقلق وطبقات متعددة من المعاني والدلالات مثل:"مذبح نفسي اسمه القاهرة، قلب حزين وحذاء لامع، ماذا تفعل القاهرة بالحب، عقد أفول النماذج، أفق جديد للمشروع اليساري، عقد الاعترافات الحميمية، الموهبون القساة، عالم محي الدين اللباد، صلصال التواصل ومادته، علاء الديب واحد من الآباء المؤسسين، نموذج حسن سليمان، حلم أروى صالح الذي لا أفق له، بوفيه مفتوح في الهواء الطلق، كرنفال أم معجنة".

الاعترافات الحميمية

ينطلق الكتاب من سؤال جوهري عن الصورة والكيفية التي صاغت عقد التسعينيات على المستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي، بصفته عقد الاعترافات الحميمة، في القصيدة والرواية وكتابة الذات؟، كما لو كانت هذه الكتابة هي الملجأ والملاذ في لحظة التحولات العنيفة، التي عاشها العالم ومصر آنذاك، ومازالت أصداءها مستمرة إلى الآن.

“كان عقد التسعينيات هو عقد الاعترافات الحميمة، وسرد تفاصيل البيوت والعائلة، والأصدقاء والجيران، وغرف العمل، والحبيب والحبيبة، وكل مناحي الحياة اليومية؛ في القصائد والروايات والقصص المنشورة آنذاك، وربما لأن هذه الاعترافات جاءت في لحظة فارقة سائلة تعيش تحت ضغط تحولات عنيفة في العالم، وفي انتظار قرن جديد على الأبواب، بفاتورة ذات جديدة؛ لذا كان هناك هاجس ملحٌّ وربما واجب، أن تتحرر هذه الذات".

ويضيف علاء خالد:"بواسطة هذه الاعترافات؛ لتكون أكثر خفة وهي تدخل هذا القرن الجديد، أيًّا كان السبب أو الدافع، فقد كان لا بد للذات من أن تغير جغرافيتها وسرِّيتها القديمة، وأن تكتشف قارتها الجديدة، كما فعل كولومبوس في فتح أمريكا، وتنفتح حتى ولو على حساب قدسية الاعتراف نفسه؛ فقد كانت هذه الاعترافات تسديدًا لدَين قرن كامل كانت سرِّيته أكثر بكثير من علانيته".

في كتابات مؤسس مجلة "أمكنة" لا نميمة ولا أسرار، ولكن قصص بالتعبير القرآني، بكل ما فيه حكم وعبر معاني ودلالات رمزية وحقيقة وخيال، بكل ما فيها من دروس وخبرات وتجارب، وأسئلة وأفكار ودعوة للتأمل والبحث والتفكير في حاضرنا وماضينا على المستوى الفردي والجماعي، على مدار فصول الكتاب يسير الراوي بين أرجاء المدينة يتأمل حركة البشر والتاريخ والزمن والحكايات.

العودة للقاهرة

لماذا يعود علاء خالد إلى ذكريات وذاكرة القاهرة الثقافية بعد كل تلك السنوات؟.

واحد من الأسئلة الرئيسة التي تستدعيها أجواء الكتاب، لا بمنحنا النص إجابة مباشرة وواضحة عن هذا التساؤل، وإن كان لا يخلو من إجابات ورؤى متعددة، يعود صاحب رواية "بيت الحرير" مثل قفاء أثر رحيم يبحث عن شمس ذاكرة أخرى بعد أن قضى سنوات وعقود في متاهة الإسكندرية، مكان المولد والنشأة والإقامة والحياة.

ربما يريد علاء خالد بالكتابة عن القاهرة الخروج من شرنقة الإسكندرية التي استحوذت على معظم كتاباته وحياته طوال العقود الماضية، يتحدث علاء في افتتاحية الكتاب عن علاقته المتشابكة والمركبة مع القاهرة، في نص غاية في الجمال والبلاغة بعنوان "مذبح نفسي اسمه القاهرة"، يصف فيه مشاعر وأفكار وحيرة وارتباك تجمعه بالمدينة بكل ما فيها من قسوة وجمال، حيوية وضجيج، حرية وقيود.

"القاهرة المدينة التي لم تفقد جاذبيتها بالنسبة لي بالرغم من كل الأحمال والضغوط التي تحوطها، وتحوطنا داخلها؛ لتحولها إلى مدينة بلا معنى، ربما لأن علاقتي بها قامت على شيء جوهري أسبق من الخسارة، بعيدا عن السطح الهش للعلاقات الدعائية مع المدن، ولكن عبر طبقات معرفية وحدسية أخرى. متداخلة لم تستنفد حتى الآن".

لا ينطلق علاء خالد في كتاباته من الحنين النوستالجا، وإن كانت لا تخلو منها، لكن بصورة واعية وقراءة ناقدة، تعيد تفكيك الأشياء وبناءها من جديد لفهم سياقاتها ودوافعها وتبعاتها على الماضي والحاضر، لا يسأل صاحب كتاب .. الماضي بقدر ما يخلق مع علاقة صداقة تجمع الحنين بالندية وتبني حوار ومعرفة عميقة.

"كان عقد التسعينيات مهيأ لنوع جديد من التجمعات والتحزبات والتواطؤات التي ستتفرق، لا محالة، بعدها، في الألفية الجديدة، ليس فقط في المكان، ولكن أيضًا في الزمان، كل ذات أو جماعة سيكون لها زمنها الخاص الذي تعيش فيه معزولة كزمن أهل الكهف. القرن بكامله، وباتجاهاته، بانفراجاته وانبساطاته وانقبضاته، كان له ممثلون داخل هذا العقد".

ويضيف:"كان مثل كرنفال تتجمع فيه، بالأقنعة وبالحقيقة وبالضرورة؛ كل الاتجاهات: العدمية منها، اليسارية، التروتسكية، والسوريالية، الأناركية، التقليدية، الرومانسية، والراديكالية الدينية. ويتم فيه التصفية بالاغتيالات الجسدية، والمعنوية معًا. كرنفال للتحلل، وربما أيضًا ساحة عرض لهجين فكري، أكبر من أن تحتويه نظرية، أو إطار، أو لما لم يتشكل بعد داخل نظرية، أو يأخذ هيئة قناع، أو اتجاه. فالحياة الكرنفالية، كما يشير باختين "حياة مقلوبة بطنًا لظهر؛ أي: أنها "الجانب المعكوس من العالم".

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة