النظام الانتخابي..الفريضة الغائبة (1)

يمثل النظام الانتخابي المطبق والمعتمد في تشكيل المكون السلطوي ذو الطبيعة النيابية أحد أبرز وأهم مقومات الرضاء الشعبي عن النظم والحكومات السياسية وبالتالي قدرتها علي تحقيق الاندماج القومي وتوحيد المواطنين في إطار نظام سياسي يحمل المقومات المطلوبة لاستمراره وبقائه بقدر ما يمكن القول بأنه أحد النواقيس التي ينذر دويها باحتمالية أفول تلك النظم أو تفكيك البلدان ذاتها وبما يجعل من ضرورات التوافق حوله وقياس أثاره ونواتجه أحد أهم العمليات المستدامة في نظم الحكم ذات الظهير الشعبي المباشر بل ويتحول معها هذا النظام لركن فرائضي لا ينبغي أن يغيب ولا أن يهمش في ممارسات الحراك الديمقراطي المعزز لطبيعة الدولة المصرية الناشئة عن جولات الحراك الشعبي والجماهيري ذات الطابع الثوري .

فعلي الرغم من تواتر وكثرة العمليات الانتخابية التي مرت بها الدولة المصرية عبر تاريخها الممتد من عمليات الاقتراع التي تهدف لبناء وتشكيل النخبة النيابية وما استتبعه من تراكم للخبرات والمهارات المرتبطة بطرق تشكيل الرأي العام والتسويق السياسي والجماهيري الذي يسمح للحكومات أو أجنحتها المصلحية بالتحكم في المزاج الشعبي وتشكيله بما يسهم في توجيه عمليات التصويت لصالح قطاعات وظيفية تعزز من فرص هيمنتها علي المشهد وقدرة مرشحيها علي الفوز إلا أن تلك العمليات الانتخابية ـ جميعها ـ قد صاحبها بالأساس ملمحين رئيسيين يمكن إيجاز دلالتهما علي النحو التالي :

أولا : عدم استقرار المشرع المصري علي شكل ثابت ومستقر للنظام الانتخابي بما يؤدي لتراكم الخبرات وكفاءة عمليات التصويت حيث تنقل النظام بين العديد من الصور والأشكال علي كافة النطاقات الجغرافية والتنافسية من تقليص مساحات الدوائر لعدد محدود ومحدد من القري لتوسعها لتشمل عدد من الأقاليم والمحافظات ومن تمركز التنافسية للنمط الفردي الذي يجعل المرشح الفرد هو الأساسي لبناء قوائم متعددة الأفراد والشخوص .

ثانيا : حالة عدم الرضاء الشعبي والسياسي عن النظم الانتخابية نتيجة عدم قدرتها التعبير الحقيقي عن إرادات وانحيازات الناخبين إضافة لإمكانية التلاعب بإرادتهم وتزييفها بما يتناقض مع قناعاتهم وصولا لتعقيدات النظام وصعوبة تفهم عناصر بناءه للدرجة التي تسببت في بطلان ( 52 % ) من أصوات الناخبين بأحد الدوائر التنافسية خلال انتخابات مجلس الشعب 2011 وهو ما يعكس مدي صعوبة النظام أو كفاءة معطياته للتعبير العادل عن رغبات وتوجهات المصوتين .

المرأة المصرية حاضرة بشكل لافت في الانتخابات
المرأة المصرية حاضرة بشكل لافت في الانتخابات

بل إن المدقق في الحالة المصرية وتعاملها مع صور وأشكال النظم الانتخابية وما تنتجه من أثار سيصل بالتأكيد لنتيجة مؤداها اليقيني هو عدم امتلاك الدولة لنموذج انتخابي يتوافق مع طبيعتها وينتج أثارا وقائعية تتسق وثقافة المصريين أو تطلعاتهم المرتبطة بالاحتياجات المجتمعية ومنطلقاتهم الفكرية حتي أصبحنا بمثابة حقل تجارب مضطرب يفتقد للرؤية والغاية التي تستهدفها تلك الوسيلة .

حيث نجد أن النظام السياسي المصري قد جرب كافة تلك الأشكال والصور الممكنة منذ عرفت مصر تشكيل المجالس ذات الطبيعة التفويضية بداية من النظم المفردة مثل القوائم ( 1984 ) أو الفردي ( 1990 : 2010 ) أو المختلطة ( فردي ـ قوائم ( 1987 ـ 2011 ـ 2015 ـ 2020 ) بمثل ما شهدت تنويعا في تقسيم الدوائر الانتخابية من الاعتماد علي المركز الإداري كأساس للدائرة الانتخابية ( مجلس النواب ) إلي جعل المحافظة كإقليم هي أساس تلك الدائرة ( مجلس الشيوخ )

والحقيقة أن المأزق أو العائق الرئيسي في تحديد طبيعة النظام الانتخابي ـ والذي يعود بالأساس لرغبة السلطة في هندسة نظام يحقق لها ما تصبو إليه من نتائج ـ يظل هو أحد القيود الرئيسية التي يصعب من القدرة علي ضبط النظام ووضع تفصيلاته التنفيذية سواء أمام الحوار الوطني الذي أفرد حيزا كبير من جلساته للتوافق حول النظام الانتخابي الأمثل للحالة المصرية أو بالنسبة للبرلمان الذي يمتلك السلطة الحقيقية لإقرار تلك القواعد والذهاب بها لحيز التنفيذ الإجرائي فضلا عن كونه هو المسئول بشكل رئيسي عن دعم فكرة الرضاء الشعبي وما يرتبط بها من قبول واندماج مجتمعي يمتد ليشمل كافة المواطنين علي قدم المساواة انطلاقا من العناصر التالية :

أولا : قدرة النظام الانتخابي المقترح علي الوفاء بالمحددات الدستورية المنصوص عليها في المواد الدستورية ( 102 ـ 243 ـ 244 ) فيما يتعلق بتمثيل الفئات الأولي بالرعاية حيث أن النظام الانتخابي هو الإطار المحدد لعمليات تمثيل الفئات المجتمعية المختلفة والتي أوجبت المواد الدستورية ( 102 ـ 243 ـ 244 ) ضرورة حتمية لوجود ضمانات رقمية ونسبية لتمثيل عدد ( 7 ) فئات مجتمعية داخل مجلس النواب ( المرأة ـ الشباب ـ المسيحيون ـ العمال ـ الفلاحون ـ ذوو الإعاقة ـ المصريون بالخارج ) إضافة للمادة ( 180 ) من الدستور وضرورات العمل علي توفير نسب تشمل ( ربع عدد المقاعد للشباب دون سن خمس وثلاثين سنة وربع العدد للمرأة على ألا تقل نسبة تمثيل العمال والفلاحين عن خمسين بالمائة من إجمالي عدد المقاعد وأن تتضمن تلك النسبة تمثيلا مناسباً للمسيحيين وذوى الإعاقة ) وما لم يكن شكل ومفردات النظام قادر علي الوفاء بتلك الضمانات بصورة رقمية وواضحة فان أية تشكيلات للمجالس ستكون عرضة للطعن وبطلان التشكيل بأحكام قضائية نهائية وواجبة النفاذ حتي لو كانت البدائل المتاحة وقتها شديدة المحدودية أو لا تحوز رضاء النخبة أو دعمها لتطبيقاتها .

ثانيا : ضمان القدرة علي تمثيل الروافد الفكرية والتنظيمات الحزبية من منطلق أن تأثيرات النظام الانتخابي لا تنتهي أو تتوقف نتائجها عند مجرد إعلان أسماء الفائزين بل تتجاوزها لتصبح ذات تأثير حقيقي وواضح علي مجمل معطيات الحياة السياسية والحزبية لما يجمع بين عناصر النظام ومحدداته وبين فرص تقوية الأحزاب والسياسة خاصة مع طبيعة تلك النظم والعائلات الانتخابية التي يعد بعضها معززا للاندماج والفعالية في العمل الحزبي باعتباره المدخل الوحيد للتمثيل والتواجد في الهيئات النيابية المنتخبة شعبيا وذلك في مقابل نظم أخري تجري هندستها لتمزيق وشرذمة القوي والتكوينات المجتمعية المتماسكة رغبة في الإعلاء من شأن القبلية أو غويات المال السياسي والدعاية الطائفية الأمر الذي يجعل من تفضيل أو تحبيذ نظام بعينه مسألة محفوفة بالكثير من المخاطر والشكوك .

يواجه النظام الانتخابي بمصر عدم استقرار علي شكل ثابت - مواقع الكترونية
يواجه النظام الانتخابي بمصر عدم استقرار علي شكل ثابت – مواقع الكترونية

ثالثا : سهولة النظام الانتخابي وعدالة تطبيقه حيث يمثل فهم النظام الانتخابي من قبل المصوتين وقدرتهم علي تطبيق إجراءاته وخطواته بيسر وسهولة ـ دون تدخل لعناصر خارجية أو طلب المساعدة منها ـ مسألة بالغة الأهمية عند صياغة المشرع لمفردات النظام بل وتلعب تلك القضية دورا رئيسيا في الذهاب لنظم انتخابية دون غيرها باعتبارها الأقرب فهما والأكثر توافقا مع ذهنية الناخبين والتعبير عن إراداتهم سواء لتأثيراتها علي حجم ونسب الإقبال علي التصويت والتزاحم حول لجان الاقتراع أو لتخفيف حدة البطلان وأعداد بطاقاته غير الصالحة للفرز علي المستوي الوطني .

رابعا : عدالة أزمنة التصويت والوقت الذي يحتاجه الناخب للإدلاء بصوته داخل اللجنة الفرعية وإتمام المسائل الإدارية المطلوبة للتوثق من صحة بيانات الناخب وتواجده بنفسه للتصويت من القضايا الحاكمة لهندسة النظام الانتخابي خاصة في الدول التي تمتلك كثافة عددية في جمعية ناخبيها بما قد يضطرها لتخصيص أكثر من يوم تصويتي للعملية الانتخابية حيث يعد المتوسط المقبول لمدة تصويت الناخب وفقا للعديد من الدراسات ونماذج المحاكاة ( 3 : 5 ) دقائق شاملة لكافة الإجراءات والخطوات التنظيمية مع اعتبار أن أية تعقيدات أو ممارسات تتجاوز هذا الزمن هي أحد التحديات التي تحيط المشهد التفويضي بمخاطر العزوف أو التأثير غير الموضوعي علي النتائج العامة في ظل التكدس وممكنات تبديل انحيازات وقناعات الناخبين .

خامسا : قدرة النظام الانتخابي علي تحقيق الاندماج القومي وتحقيق الرضاء المجتمعي سواء علي مستوي الثقة في النظام التنافسي وما ينتج عنه من أثار ونتائج أو علي مستوي كفاءة النواتج وممارستها للأدوار والمهام الرقابية والتشريعية بطريقة تتسق والأحلام والطموحات الشعبية التي علي أساسها جرت عمليات الفرز والانتقاء بين العناصر المتنافسة بما يعزز الثقة في النظام العام ومساندته للاستمرار في مواجهة أية ضغوط أو مطالبات مصلحية بالتغيير أو الخروج علي مقتضياته .

لذا فقد كان من الضروري الذهاب بقضية شكل وهوية النظام الانتخابي الأمثل للحالة المصرية سواء بتفصيلاته الفنية أو بنواتجه النهائية لتصبح جزاءا من الاهتمام الشعبي والحوار الجدلي والحقيقي بين القطاعات الجماهيرية التي يتوجب أن تسعي لحالة من التوافق حول أسس ومحددات هذا النظام والتي تتمثل نواتها الأولي في التعرف علي طبيعة النظم المقترحة وتقييم تجاربها التنفيذية والمألات التي نتجت عن تطبيق صورها في التجارب التنافسية المصرية خلال عقود وعهود سابقة وصولا للقراءة المحايدة والمعمقة للأشكال المقترحة للتطبيق في الانتخابات القادمة .

… ويبقي للحديث بقية .

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة