بتصرف استفزازي تم تأويله داخليًا على أنه محاولة يمينية جديدة لإشعال الوضع مع الفلسطينيين، في ظل ظروف حرجة قد تنقلب مآلاتها على دولة الاحتلال، اقتحم وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، وعدد من المستوطنين المتطرفين باحات المسجد الأقصى، الثلاثاء، لإحياء يوم “تيشاع باف” – يوم صيام يهودي لإحياء ذكرى خراب الهيكل.
شارك في هذا الاقتحام قرابة ثلاثة آلاف مستوطن يتقدمهم اليميني المتطرف “بن غفير”، الذي قال: “نحن هنا في يوم تيشاع باف، في جبل الهيكل، لإحياء ذكرى خراب الهيكل. ولكن علينا أيضًا أن نقول بصراحة: لقد تم إحراز تقدم كبير جدًا هنا في مجال الحكم والسيادة. والدليل صور اليهود يصلون هنا. وكما قلت: سياستنا هي السماح بالصلاة. وأقول شيئًا آخر: يجب أن ننتصر في هذه الحرب. يجب أن نفوز وألا نذهب إلى مؤتمرات في الدوحة أو القاهرة، بل نفوز بها ونركعهم – هذه هي الرسالة. يمكننا أن نهزم حماس ونركعها”.
يقع المسجد الأقصى في قلب النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث تسيطر قوات الاحتلال على مداخله، في حين تتولى دائرة الأوقاف الإسلامية التابعة للأردن إدارته. وبموجب الوضع القائم بعد احتلال إسرائيل للقدس الشرقية في 1967، يُسمح لغير المسلمين بزيارة المسجد في أوقات محددة دون أداء الصلاة، وهي قاعدة يتم انتهاكها بشكل متزايد من قبل اليهود المتشددين.
صلاة بن غفير بالأقصى تشعل الانتقادات
هذا الاقتحام والصلاة في باحة الأقصى أشعل ردود فعل غاضبة ومحذرة من محاولات اليمين الإسرائيلي جر المنطقة إلى أتون الصراع في وقت عصيب من التوترات القصوى؛ إذ أدانت وزارة الخارجية وشؤون المغتربين الأردنية تصرفات الوزير المتطرف بن غفير، واصفة إياها في بيان نشرته عبر حسابها على منصة “إكس” بأنها “خطوة استفزازية مرفوضة ومدانة”.
وأكد البيان أن اقتحام وزير إسرائيلي للمسجد الأقصى المبارك يعد خطوة استفزازية وخرقًا للقانون الدولي والوضع التاريخي في القدس.
اقرأ أيضًا: “فورين أفيرز”: وقف إطلاق نار من جانب واحد يخدم إسرائيل قبل غزة
وقد وصف نبيل أبو ردينة، الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية، الاقتحام بأنه “استفزاز”، مطالبًا الإدارة الأمريكية بالتدخل لإيقاف الاستفزازات ضد المقدسات الدينية وحماية الوضع التاريخي في القدس ووقف العدوان على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
ومن جانبه، طالب وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمنع أي “أفعال استفزازية” مستقبلية.
وأكد بلينكن في بيان شديد اللهجة أن أفعال بن غفير تعكس “تجاهلاً صارخًا” للوضع الراهن في الموقع المقدس، مشيرًا إلى أن مكتب نتنياهو أعلن أن تصرفات الوزير تتعارض مع السياسة الإسرائيلية. وشدد بلينكن على أن هذه الاستفزازات تزيد من التوترات في وقت يتطلب التركيز على الجهود الدبلوماسية لتحقيق وقف لإطلاق النار واستقرار إقليمي أوسع.
وندّد مساعد المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فرحان حق بالاقتحام، ووصفه بأنه “استفزاز غير مجدٍ”، مضيفًا: “نحن نعارض أي محاولة لتغيير الوضع الراهن المتعلق بالأماكن المقدسة”.
وكذلك ندّد الاتحاد الأوروبي وتركيا بالحادثة. ودعت فرنسا في بيان للمتحدث باسم الخارجية “الحكومة الإسرائيلية الى اتخاذ كل التدابير الضرورية لضمان احترام الوضع التاريخي القائم في الأماكن المقدسة في القدس”.
وأكدت وزارة الخارجية السعودية “أهمية احترام المقدسات الدينية”، وحذّرت من “تبعات استمرار هذه الانتهاكات للقانون الدولي والوضع التاريخي لمدينة القدس واستفزاز ملايين المسلمين حول العالم”. واعتبرت قطر هذه “التصرفات مستفزة وتمثل انتهاكًا سافرًا للقانون الدولي والوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس المحتلة”، مؤكدة أن “المحاولات المتكررة للمساس بالوضع الديني والتاريخي للمسجد الأقصى ليست اعتداء على الفلسطينيين فحسب بل على ملايين المسلمين حول العالم”.
كما أدانت مصر، في بيان صادر عن وزارة الخارجية، الاقتحام ووصفت هذه التصرفات بأنها “غير مسؤولة ومستفزة”، مشيرة إلى أنها تمثل “خرقًا للقانون الدولي والوضع التاريخي والقانوني في القدس الشريف”. وأكدت أن استمرار هذه الانتهاكات يعكس سياسة ممنهجة تستدعي وقفها بشكل فوري، والالتزام بالحفاظ على الوضع القانوني القائم.
توبيخ وهجوم وانتقادات.. الانقسامات في الداخل الإسرائيلي
وقد انتقد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تصرف بن غفير ووبّخه علنًا، بينما أكد أنه “لا توجد سياسة خاصة لأي وزير بشأن جبل الهيكل”، وشدد على أن هذا التوجيه يشمل وزير الأمن الوطني وكل الوزراء الآخرين.
ويأتي هذا التوبيخ بعد يوم من إصدار نتنياهو توبيخًا منفصلًا لوزير الدفاع يوآف جالانت بسبب خلافات سياسية. إذ انتقد جالانت بشدة تصريحات نتنياهو حول “النصر المطلق” في غزة، واعتبرها “هراء وثرثرة”، مشيرًا إلى أن هذا الشعار لا يعكس الشجاعة المطلوبة في الغرف المغلقة. وألقى جالانت اللوم على الحكومة في عدم إتمام صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس، معتبرًا أن إسرائيل تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية عن تأخر الصفقة.
اقرأ أيضًا: أولئك الأغبياء الإسرائيليون
وفي جلسة مغلقة للجنة الخارجية والأمن البرلمانية، سخر جالانت من خطاب نتنياهو حول النصر في غزة، ونقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية قوله إن “الشجاعة الحقيقية لا تكون في التصريحات العلنية بل في القرارات التي تتخذ خلف الأبواب المغلقة”. كما أشار إلى أن معظم الأسلحة التي وصلت إلى قطاع غزة دخلت عبر الأنفاق التي دُمرت مؤخرًا أو خلال فترة حكم الرئيس المصري السابق محمد مرسي.
وردًا على تصريحات جالانت، أصدرت رئاسة الوزراء الإسرائيلية بيانًا اتهمت فيه وزير الدفاع بتبني “سردية مناهضة لإسرائيل”، وأشارت إلى أن جالانت يضر باحتمالية التوصل إلى صفقة تبادل الأسرى، وبدلًا من مهاجمة رئيس حركة حماس، يحيى السنوار، الذي اعتبرته العائق أمام إتمام الصفقة، يوجه انتقاداته إلى الحكومة الإسرائيلية.
وعلى الرغم من تصاعد التوترات بين نتنياهو ووزير الدفاع، أفادت وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن رئيس الوزراء لا يفكر في إقالة جالانت في الوقت الحالي، خاصة في ظل الظروف الحساسة التي تمر بها دولة الاحتلال خلال الحرب.
وفي سياق متصل، اشتبك بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يرأس حزبًا قوميًّا دينيًّا، مع جالانت بشأن إدارة الحرب في غزة والسياسات المتعلقة بالضفة الغربية. ومع ذلك، لا تزال الحسابات الانتخابية تحافظ على تماسك الائتلاف الحاكم حتى الآن. أما زعيم المعارضة يائير لابيد، فقد انتقد زيارة بن غفير للحرم القدسي ووصفها بأنها جزء من “حملة انتخابية تعرض حياة الأفراد للخطر”.
فورين آفيرز: مستقبل إسرائيل مظلم
في تقرير نُشر قبل يومين، قالت مجلة “فورين آفيرز” الأميركية إن إسرائيل تواجه مستقبلًا مظلمًا بعد الحرب على قطاع غزة، مشيرةً إلى أن البلاد تشهد حالة من عدم الاستقرار الداخلي بفعل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحلفائه من “اليمين المتطرف”.
وأضافت المجلة أنه منذ قيامها في 1948، واجهت إسرائيل تناقضًا بين القيم الإنسانية المعلنة في إعلان استقلالها والتوجه نحو تأسيس دولة يهودية. وأنه على مر العقود، عانى المجتمع الإسرائيلي من هذا التناقض، حيث استمر التوتر بين الديمقراطية والممارسات الاستبدادية، خاصة تجاه الفلسطينيين. بينما في السنوات الأخيرة، ازداد الوضع تأزمًا مع صعود القوى اليمينية المتطرفة إلى السلطة، ما أدى إلى محاولات لإصلاح النظام القضائي وتقويض الديمقراطية.
وقد زادت الأزمة الأخيرة في غزة وتداعياتها الداخلية، وفق “فورين آفيرز” زادت من تعميق هذه الانقسامات، حيث تواجه إسرائيل تهديدات بتحولها إلى دولة غير ليبرالية ومستبدة، وهو أمر ساعد في عزلها دوليًا وسيفاقم الأزمات الداخلية بها.
وذكرت المجلة أن مستقبل إسرائيل يبدو مظلمًا في حال استمرار هذه السياسات، وقد يؤدي إلى انهيار داخلي وتفكك الدولة.