بالنسبة لنا نحن.. لطالما كان رؤساء أمريكا “فوق القانون”

في ظل التحولات السياسية والقانونية الكبرى، أثار قرار المحكمة العليا الأمريكية بشأن حصانة الرئيس السابق دونالد ترامب من الملاحقة الجنائية جدلًا واسعًا وتحذيرات من توسيع غير مسبوق للسلطة الرئاسية. يعكس هذا الحكم إشكالية كبرى داخل أيقونة الديمقراطية الأمريكية، تتعلق بالإفلات من العقاب، وهي إشكالية لطالما عانت منها دول العالم نتيجة السياسات الخارجية الأمريكية، كما تقول مجلة “فورين بوليسي“، في تقرير جديد، يستعرض الأبعاد القانونية والسياسية لقرار المحكمة العليا، وكيف يبرز هذا الحكم واقعًا جديدًا في الداخل الأمريكي يتسق مع سياسات طويلة الأمد تنتهجها الولايات المتحدة في الخارج.

في الأول من يوليو، حكمت المحكمة العليا -أعلى سلطة قضائية في أمريكا- بأغلبية 6-3 على أسس حزبية، بأن الرؤساء محصنون من الملاحقة الجنائية عن “الأفعال الرسمية”، لكنها أشارت إلى إمكانية ملاحقتهم عن الأفعال غير الرسمية. وهو ما علقت عليه القاضية سونيا سوتومايور بأن “المحكمة تخلق منطقة خالية من القانون حول الرئيس.. في كل استخدام للسلطة الرسمية، أصبح الرئيس الآن ملكًا فوق القانون”.

وقد ردد العديد من المعلقين نقدها للحكم الذي اعتبروه “يتخلى عن المبدأ الذي يضع الرؤساء، مثل الآخرين، تحت سلطة القانون”. وحذر الصحفي في نيويورك تايمز جاميل بويي قائلًا: “إذا كان الرئيس ملكًا، فنحن رعايا، حياتنا ومعايشنا آمنة فقط بقدر ما لا نغضب السلطة التنفيذية”.

رؤساء محصنون.. الأمريكيون يختبرون ما جربناه سنوات طوال

ومع ذلك، فإن ما فشل معظم المحللين في ملاحظته، وفق ما يذكر تقرير “فورين آفيرز”، هو أن هذا النقص في المساءلة القانونية عن قرارات الرئيس الأمريكي، بما في ذلك القرارات بتوجيه الجيش لاستخدام القوة القاتلة، ليس جديدًا. لقد كان هذا الواقع لسنوات لمعظم العالم خارج الولايات المتحدة.

لعدة عقود، شن الرؤساء الأمريكيون حروبًا غير قانونية، وخططوا لاغتيال قادة أجانب، واحتجزوا وعذبوا أشخاصًا بشكل غير قانوني، وأطاحوا بحكومات ديمقراطية، ودعموا أنظمة قمعية دون أي إمكانية للمساءلة القانونية في المحاكم المحلية أو الدولية.

وعلى الرغم من أن الناس في جميع أنحاء العالم عانوا من هذه الأعمال غير القانونية، عاش الأمريكيون في فقاعة، تم تفجيرها أخيرًا بقرار المحكمة العليا تحصين الرؤساء ضد المساءلة، وبشكل يجعل تصرفات الرئيس داخل الولايات المتحدة غير مقيدة مثلما هي خارجها.

رؤساء محصنون وقوة قاتلة

في معارضتها، قدمت القاضية سوتومايور مثالًا مزعجًا حول نوع الأفعال التي باتت متاحة للرئيس المحصن الآن كأن يأمر “باغتيال منافس سياسي؟”. وهذا ليس دربًا في التضخيم، إذا ما تنبهنا إلى قدرة الرئيس منذ فترة طويلة على إصدار أوامر للجيش الأمريكي بالقتل دون عقاب.

منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، أشرف الرؤساء الأمريكيون على توسع هائل في استخدام القوة القاتلة من قبل الجيش الأمريكي في الخارج، في بعض الأحيان بطرق تنتهك القانون الدولي والقانون الداخلي أو كلاهما؛ يشير تقرير “فورين آفيرز”.

قُتل حوالي 300 ألف مدني عراقي -إحصاء “فورين آفيرز”- نتيجة مباشرة للحرب الأمريكية في العراق، التي بدأت في عام 2003. وهي حرب وصفها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان بأنها “غير قانونية”.

كما يُقدر أن أكثر من 70 ألف مدني أفغاني وباكستاني قُتبوا كذلك نتيجة مباشرة للحرب على طالبان والقاعدة في أفغانستان، التي بدأت في عام 2001. بينما بررت الولايات المتحدة تلك الحرب بأنها قانونية بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، في وقت كان فيه عدد قليل من الدول قد قبلوا بأن المادة 51 يمكن استخدامها لتبرير الحروب ضد الفاعلين غير الدوليين.

شارك الجيش الأمريكي في القتال المستمر في أفغانستان لمدة عقدين وواجه اتهامات خطيرة بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك التعذيب في مركز اعتقال في قاعدة باجرام الجوية. كانت باجرام واحدة من عدة منشآت احتجاز أمريكية، حيث تعرض المعتقلون للتعذيب. كما فعّلت الولايات المتحدة “مواقع سوداء” مثلها تابعة لوكالة المخابرات المركزية في عدة مواقع حول العالم، مثل كوسوفو، ليتوانيا، بولندا، رومانيا، وتايلاند، حيث تم احتجاز وتعذيب المعتقلين في سرية.

كذلك، مات المئات في الحرب الليبية في 2011 بقيادة الناتو مع مشاركة كبيرة من الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الحرب كانت مرخصة من قبل مجلس الأمن الدولي، إلا أن الكونجرس الأمريكي لم يوافق على مشاركة الولايات المتحدة فيها. نصح اثنان من كبار محامي الإدارة بأن قانون الولايات المتحدة المعروف باسم قرار صلاحيات الحرب يتطلب وقف الحرب بعد 60 يومًا. لكن الرئيس باراك أوباما تجاهل تلك النصيحة، وقرر بدلًا من ذلك أن يساند محامين آخرين في الإدارة جادلوا بأن العملية العسكرية في ليبيا لم ترقَ إلى “الأعمال العدائية”، وبالتالي لم تكن خاضعة لذلك القانون.

عمليات قتالية بـ 78 دولة في ثلاثة أعوام فقط

بين عامي 2021 و2023، نفذت الحكومة الأمريكية عمليات مكافحة الإرهاب في 78 دولة، بما في ذلك مهمات قتالية برية في تسع دول على الأقل. الآن مع وجود أكثر من 11 ألف طائرة دون طيار، تمتلك الولايات المتحدة القدرة على تنفيذ ضربات جوية في معظم أنحاء العالم؛ يلفت تقرير “فورين آفيرز”.

اقرأ أيضًا: لماذا يذهب قادة الولايات المتحدة إلى الحرب؟ سؤال عن ضغوط الانتخابات

تُستخدم الطائرات دون طيار عادةً لاستهداف وقتل المشتبه في أنهم إرهابيون.

بينما في الآونة الأخيرة، تضمنت ضربات الطائرات الأمريكية دون طيار أشخاصًا لم تكن هويتهم معروفة، ولكن سلوكهم الملاحظ كان متسقًا مع سلوك الإرهابيين، وفق التعريف الأمريكي.

تقول “فورين آفيرز”: “في السنوات الأخيرة مثلًا، نفذت الولايات المتحدة ضربات جوية في أربع دول على الأقل. كانت معظمها عمليات تستند إلى قراءة هشة لقانون أقره الكونجرس بعد أسبوع من هجمات 11 سبتمبر، يخول الرئيس استخدام القوة ضد أولئك الذين نفذوا هجمات وأي بلد أو منظمة أو أشخاص قاموا بإيوائهم”.

الولايات المتحدة دائمًا فوق القانون

لسنوات، حاول محامون محاسبة الولايات المتحدة على أعمال العنف والجرائم المرتكبة في عدد كبير من دول العالم. قدم المحامون في الولايات المتحدة وخارجها قضية تلو الأخرى للطعن في العمليات العسكرية وعمليات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الخارج، لكن معظم القضايا لم تتجاوز العقبات الإجرائية والاختصاصية. نتيجة لذلك، كان الرئيس الأمريكي لفترة طويلة “ملكًا فوق القانون” عندما يتعلق الأمر بالأعمال خارج الولايات المتحدة.

تم رفض الطعون القانونية في المحاكم الأمريكية ضد الحروب التي شنها الرئيس دون الحصول على تفويض دستوري من الكونجرس مرارًا وتكرارًا من قبل المحاكم الأمريكية في العقود الأخيرة.

كما رفضت المحاكم القضايا قبل حتى سماع الحجج حول ما إذا كان الرئيس ينتهك القانون. وبدلًا من ذلك، استنتجوا عمومًا أن القضايا تطرح أسئلة سياسية لا تتناسب مع حلها من قبل المحاكم أو أن المدعين لا يتمتعون بالصفة القانونية.

وقد أثرت هذه القرارات في قلب النظام الدستوري رأسًا على عقب – مما تطلب من الكونجرس تجميع أغلبيات ساحقة في كلا المجلسين لمحاولة منع الرئيس من شن حرب بدلًا من مطالبة الرئيس بالحصول على موافقة الكونجرس مسبقًا للقيام بذلك.

لا آمان حتى وإن كنت أمريكيًا

والحقيقة كما تعرضها “فورين آفيرز” أن استعمال رؤساء الولايت المتحدة لهذه القوة الغاشمة لم يكن مقتصرًا على العالم دون بعض الأمريكيين المتروكين لتصنيف البيت الأبيض. رفع والد أنور العولقي -داعية إسلامي أمريكي من أصل يمني- دعوى قضائية ضد أوباما في محكمة اتحادية أمريكية، في محاولة إزالة اسم ابنه من قائمة المستهدفين بالقتل التي اعتمدها الرئيس الأمريكي، ورفضت المحكمة الدعوى على أساس أنها تطرح أسئلة سياسية وأن والد العولقي لا يتمتع بالصفة القانونية.

وعقب هذا الرفض بفترة قصيرة، قتلت الحكومة الأمريكية العولقي في ضربة بطائرة دون طيار. كما قُتل في هذه العملية ابن العولقي البالغ من العمر 16 عامًا، وهو أيضًا مواطن أمريكي، في ضربة أخرى بطائرة دون طيار بعد أسبوعين. وكذلك، قُتلت ابنته البالغة من العمر ثماني سنوات، وهي أيضًا مواطنة أمريكية، في غارة كوماندوس أمريكية بعد عدة سنوات. بينما لم ترى أي محكمة قانونية أمريكية هذه القرارات غير قانونية تستوجب المحاسبة.

تاريخ رؤساء أمريكا الموثق بالتعذيب

بعد توليه منصبه في 2009، قرر أوباما التحقيق فقط في حالتي سوء معاملة للمعتقلين أدتا إلى الوفاة، على الرغم من الأدلة وفيرة على برنامج حكومي أمريكي واسع النطاق للاحتجاز غير القانوني والتعذيب في السنوات التي تلت هجمات 11 سبتمبر.

أغلق أوباما لاحقًا التحقيق في الحالتين، وتم تدمير أشرطة الاستجواب من قبل وكالة المخابرات المركزية دون توجيه تهم جنائية. لم يواجه أي مسؤولين إداريين كبار أي عقوبة. وقد أصبح من المستحيل محاسبة المسؤولين الأمريكيين على التعذيب في المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن سحبت إدارة ترامب تأشيرات موظفي المحكمة، وهددت باتخاذ المزيد من الإجراءات العقابية إذا استمرت المحكمة في متابعة تحقيقها.

طريق أمريكا لتقليم أظافر رؤسائها يبدأ من الخارج

يذكر تقرير “فورين آفيرز” أنه للمساعدة في معالجة مشكلة الإفلات من العقاب، التي تتفاقم إلى دول أخرى كما روسيا، يجب على الولايات المتحدة تحسين علاقاتها مع المحكمة الجنائية الدولية. ولن يكون هذا إلا بالتوقف تمامًا عن تهديد المحكمة بالعقوبات، والتعهد بدلًا من ذلك بدعم تحقيقاتها في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مثل التحقيق في الجرائم الروسية في أوكرانيا.

كما ينبغي للولايات المتحدة أيضًا أن تتوقف عن ممارسة الضغط السياسي والاقتصادي على الدول الأخرى التي تسعى إلى التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية.

وتقول المجلة الأمريكية إن إعادة التزام الولايات المتحدة بقرارات المحكمة قد يكون أمرًا إيجابيًا في معالجة الإرث الأمريكي المقلق في منح الرؤساء حصانة فعالة، ليس فقط في الخارج ولكن الآن في الداخل أيضًا.

وتختم المجلة بأن قرار المحكمة العليا الأمريكية الأخير في حقيقته لم يخلق مشكلة حصانة رئاسية من الملاحقة القضائية، بل كشفها ووسعها. لأنه خارج الولايات المتحدة، كان الرؤساء الأمريكيون ينتهكون القانون بالفعل ومنذ فترة طويلة دون عقاب. بينما ما تغير الآن الآن هو إمكانية أن يحدث ذلك أيضًا داخل الولايات المتحدة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة