لماذا نسعى للديمقراطية؟ (1)

 

في عالم يتزحزح قليلًا أو كثيرًا نحو السلطوية والعنف والكراهية، في عالم يفقد إنسانيته مع كل إنسان يُقتل أو يُعذب أو يُشرد من بيته، في عالم يتنازل طوعًا، قطعة فقطعة، عن حريته وتضامن أعضاؤه مع بعضهم البعض مع كل دعوة لقتل البشر بطردهم من بلاد لجئوا إليها هربًا من سوء الأحوال في بلادهم، يجب أن نشرح، وبشكل مفصل، لماذا نسعى للديمقراطية؟ ولماذا يجب أن نضحي من أجل تحقيقها في مجتمعاتنا غير الديمقراطية حتى الآن .. في هذا المقال وعدد من المقالات اللاحقة أحاول أن أجيب على هذا السؤال الجوهري في تحديد مصير الشعب المصري.

الديمقراطية من أجل السلام

يمكن للفرد، وهو عادة ما يفعل ذلك حتى أننا نعتبر من لا يفعله بطلًا أو نموذجًا نادرًا للعدل والحق، أن يتغاضى عن مصالح الآخرين في سبيل مصلحته، ويمكن للجماعة البشرية (غير الشريرة)، وهي عادة ما تفعل ذلك حتى أننا ننظر للجماعة التي لا تفعله على أنها طوباوية (مثالية)، أن تغتصب حقوق الجماعات الأخرى لخدمة أفرادها وتابعيهم .. ألا تتكون الجماعة من أفراد في النهاية؟ ألا يقرر للجماعة من هم على قمتها؟ فهل يمكن لجماعة من البشر أن ترفض اغتصاب حقوق الجماعات الأخرى الأضعف أو الأقل حظًا من الحماية من أن تغتصب حقوقها؟

هنا يأتي دور الديمقراطية، فالديمقراطية بمعناها الواسع توزع السلطة داخل الجماعات وتقلل من إمكانية انفراد بعض أفراد داخل الجماعة بمفاتيح الحكم والنفوذ، مما يزيد من تحمل المكون الأكبر للجماعة البشرية المسئولية الضميرية للقرارات التي تتخذها الجماعة، ولو أننا آمنا بأن أغلب البشر – في ظروف الوفرة والأمن – يمكن إيقاظ ضمائرهم وتنبيهها، فبالتالي تمهد الديمقراطية لأن تتخذ الجماعات البشرية قرارات "ضميرية" وليست مبنية فقط على المصلحة الفردية.

اقرأ أيضًا:حكومة 4-2-4

ولكن حتى في هذه الحالة، ألا يمكن للجماعة نفسها أن تقرر أن تغتصب حقوق الآخرين – أفرادًا وجماعات - لصالحها؟ ألم يحدث مرارًا وتكرارًا أن قررت جماعات ديمقراطية أن تغتصب حقوق جماعات أخرى لمصالحها الخاصة؟ الحقيقة نعم، كانت بريطانيا دولة ديمقراطية يحكمها القانون عندما احتلت شركة الهند الشرقية الهند عام 1757 وعندما أعلنت الحرب على الصين في 1839 لإجبار شعبها على تعاطي الأفيون وعندما دخل جيشها مصر غازيًا في 1882 ، وكانت أمريكا ديمقراطية يحكمها القانون عندما قامت بغزو العراق بدون وجه حق وبدون أى اعتبار للقانون الدولي في عام 2003، ولكن عندما نتحدث عن الديمقراطية فنحن لا نتحدث عن لحظة تاريخية قد مضت وإنما عن "قيمة عليا" كلما ازدادت رسوخًا وظهورًا في سلوك وطرق تفكير الجماعات البشرية كلما أدى ذلك لتهذيب تلك الجماعات وكلما سهل في المستقبل كبح جماح طموحها للسيطرة على موارد و"وجود" الجماعات الأخرى لصالح المزيد من السلام والتعايش المشترك.

وذلك لأننا عندما نتحدث عن الديمقراطية، فنحن، بشكل أو بآخر، نتحدث عن "المساواة"، وإن كانت حتى المجتمعات الديمقراطية لا تساوي بين أعضائها (مواطنيها) وغير مواطنيها في الحقوق، إلا أن ترقي المجتمع في سبيل المساواة بين أعضاؤه يساعد بعد ذلك في السعي لأن تشمل تلك المساواة جميع سكان الأرض دون النظر لانتماء لدولة أو لعرق أو فكرة أو ثقافة أو جنس، فالمجتمع الذي ينظر للمساواة بين مواطنيه على أنها "قيمة عليا" يكون أسهل في الإقناع بأن جميع البشر سواسية، من المجتمع الذي ينظر للدعوة للمساواة نظرة سخرية وينظر من هم على قمته نظرة احتقار لمن هم في أسفله.

وليس المساواة فقط هو ما تعنيه الدعوة للديمقراطية، بل إن الدعوة للديمقراطية هي دعوة لحكم القانون أيضًا، فمجتمع يحكم أعضاؤه أنفسهم بالقانون، يسهل عليه أن يصل لاتفاق على قانون أشمل وأكبر يشمله ويحدد علاقاته مع المجتمعات الأخرى، ما يعني الوصول رويدًا رويدًا لنظام عالمي أكثر استقرارًا لتعايش المجتمعات بسلام مع بعضها البعض، حتى وإن سقطت تلك المجتمعات في فوضى الحرب مع بعضها البعض أحيانًا، إلا أن الدعوة لحكم القانون تعود – ويجب أن تعود – مع انطفاء نيران الحروب لتشكل طريقًا أكثر أمانًا واستقرارًا من طريق الحرب.

اقرأ أيضًا:محمد أكسجين.. مدون شاب خسر 5 سنوات في الحبس والتدوير وإخلاء السبيل والتدابير الاحترازية 

ما أقوله هو أن مجتمع يحكم نفسه بنفسه بالقانون يكون أقرب لقبول أن يشارك في نظام قانوني أكبر منه من مجتمع تحكمه فوضى الرغبات المنفلتة لحكامه في النفوذ والسيطرة وتقرير المصير. فالحاكم الفرد الذي لا يخضع لمسائلة خارجة عن سلطاته لا يتعامل مع القانون إلا كأداة من أدوات ممارسة السلطة والهيمنة، أداة يمكن توجيهها حيثما شاء وكيفما يشاء ويمكن بنفس السهولة التغاضي عن وجودها إذا كانت ستعيق رغبات وخطط الحاكم الفرد المطلق ونخبته الخادمة له في المزيد من السيطرة والثراء.

من أجل ذلك نسعى للديمقراطية.. من أجل أن يقترب العالم أكثر فأكثر من المساواة بين سكانه، ورغم أن هذا أشبه ما يكون بحلم غير واقعي في الوقت الحاضر، خاصة مع الإبادة الجارية بموافقة العالم على أرض فلسطين وجنون الحكم المطلق الفاسد في الدول المجاورة لها، إلا أن وصول جماعة بشرية بحجم المجتمع المصري للحكم الديمقراطي سوف يحدث نقلة حقيقية في اتجاهين، الأول في زيادة وزن القوى الديمقراطية في العالم في مقابل القوى الاستبدادية، والثاني - وهو الأهم – نقل العالم العربي، الذي قلبه مصر بدون شك، إلى داخل المجتمع الديمقراطي العالمي مع ما يؤدي إليه ذلك من ربط مصالح العالم "الديمقراطي" بمصالح العالم "العربي" بشكل يختلف عن كل ما شهدناه خلال التاريخ حتى الآن.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة