سودان “ما قبل التاريخ”.. الأطفال والنساء قتلى بسلاح التجويع

في مخيم “زمزم” للنازحين شمالي دارفور -أحد أقدم وأكبر مخيمات البلاد- تقف قسمة عبد الرحمن علي أبو بكر في طابور طويل من البشر، تنتظر الحصول على حصتها الغذائية ضمن آلاف من ضحايا سياسات التجويع، يائسة فاقدة الأمل في الآمان، في انتهاء المأساة والقتل والتشريد، في كل شيء، إلا في وجبة تحصلها بشق الأنفس تعود بها إلى أسرتها. لقد عاد السودان إلى فترات ما قبل التاريخ، في غياهب اقتتال لا يرى منه ضوء أي مصير.

فقدت “قسمة” خلال الأشهر الأربعة الماضية، ثلاثة من الأطفال كانوا بين 220 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد والجوع، أكبرهم كان في الثالثة من عمره، وأصغرهم كان يبلغ ستة أشهر فقط. لا طعام ولا مستشفى ولا مال يوفر دواءً جيد، فرحلوا.

“توفي طفلي الأول وأنا عائدة من الصيدلية إلى المنزل، وتوفي الثاني بعد ستة أيام بسبب سوء التغذية، ومرض الثالث وتوفي بعد ثلاثة أيام”؛ تقول “قسمة” التي تنتمي لعائلة من صغار المزارعين، مثل كثيرين في دارفور، يكافحون من أجل زراعة ما يكفي من الغذاء، بعد أن أدى العنف وانعدام الأمن الناجم عن الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى شلل تام بقطاع الزراعة.

هكذا الوضع في مخيمات الجنوب وتحديدًا في مخيم أوتاش للنازحين، الذي أنشئ قبل عقدين في جنوب دارفور، حيث تطعم الأسر أطفالها “مرة واحدة في اليوم وأحيانًا كلما توفر طعام وهو شحيح”؛ كما يقول أحد الشهود.

أطفال السودان والجوع.. تحذيرات أممية

وحذرت منظمة إنقاذ الطفولة -التابعة للأمم المتحدة- في بيان الشهر الماضي- من أنه دون اتخاذ إجراءات حاسمة، فإن نحو 230 ألف طفل وأم جديدة في السودان “من المرجح أن يموتوا بسبب الجوع”.

وقال عارف نور، مدير منظمة إنقاذ الطفولة في السودان، إن قصف وتدمير الحقول والمصانع أدخل السودان في “واحدة من أسوأ أوضاع التغذية في العالم”.

اقرأ أيضًا: 25 مليون روح مطاردة بالمجاعة في السودان

وحذر من أن “حوالي 222 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد وأكثر من 7 آلاف أم جديدة من المحتمل أن يموتوا” في ظل مستويات التمويل الحالية التي “تغطي 5.5 بالمائة فقط” من إجمالي احتياجات السودان.

وقالت مانديب أوبراين، ممثلة اليونيسف في السودان، إن الأطفال السودانيين يعيشون كابوسًا، ذلك لأن بلدهم الشاب جدًا بـ 24 مليون من سكانه من الأطفال يعاني، في وقت أصبح 14 مليونًا من هؤلاء الأطفال في حاجة ماسة إلى المساعدة المنقذة للحياة في مجالات الصحة والتغذية والتعلم في مجال المياه ودعم الحماية.

ووفق البيانات، فقد أُجبر أكثر من 3.5 مليون طفل على الفرار من منازلهم منذ بداية هذه الحرب، بينهم أكثر من 7.4 مليون طفل لا يستطيعون الحصول على مياه الشرب الآمنة الضرورية للغاية للبقاء على قيد الحياة. وهذا يجعل السودان صاحب أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم.

ويعاني أكثر من 3 ملايين طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد، التي تضع هذا البلد على قائمة أعلى معدلات سوء التغذية في العالم. وهناك 19 مليون طفل في سن الدراسة لا يذهبون إلى الفصول الدراسية. وهذا يدفع السودان إلى حافة أن يصبح واحدًا من أسوأ أزمات التعلم في العالم.

وتقول منظمة “أطباء بلا حدود” إنها رصدت في يناير الماضي أن طفلًا واحدًا على الأقل في المخيم يموت كل ساعتين، وفي ظل شُح الطعام أو عدم توافر مياه نظيفة أو رعاية صحية، أصبحت الأمراض التي كان من الممكن علاجها من قبل تفتك بالمصابين بها حاليًا.

وتعد منظمة أطباء بلا حدود واحدة من آخر المنظمات الإنسانية الدولية التي لا تزال تمارس نشاطها هناك في دارفور.

وذكرت مجلة “لانسيت” الطبية، أنّ مستشفى البلك للأطفال في الخرطوم يستقبل “كل أسبوع 25 طفلًا يعانون من سوء تغذية حاد ويموت اثنان أو ثلاثة منهم أسبوعيًا”.

ويقول المتحدث باسم اليونيسف جيمس إلدر أن أكثر من 700 ألف طفل من المحتمل أن يعانوا من أخطر أشكال سوء التغذية هذا العام. ويضيف “لن نتمكن من علاج أكثر من 300,000 ألفا منهم دون تحسين الوصول والدعم الإضافي. ومن المرجح أن يموت عشرات الآلاف”.

كما أشار أيضًا إلى ارتفاع حالات القتل والعنف الجنسي والتجنيد بمقدار خمسة أضعاف عما كانت عليه قبل عام. “وهذا يعادل أعدادًا مرعبة من الأطفال الذين قتلوا أو اغتصبوا أو تم تجنيدهم. وهذه الأرقام ليست سوى غيض من فيض”.

الجيش والدعم.. كلاهما سبب في تجويع السودانيين

مع تواصل المعارك بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع التي يتزعمها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، “لم تعد المساعدات الغذائية والإنسانية تصل إلينا”؛ يقول الناس في مخيمات النازحين من القتل والدمار إلى كارثة التجويع وانعدام سُبل المعيشة.

وقد توقفت هذه المساعدات مع تدمير المصنع الوحيد الذي كان ينتج المكملات الغذائية للأطفال في الخرطوم، وعدم وجود طرق تسلكها تلك المساعدات إلى مستحقيها دون نهب وسلب؛ ففي السودان الآن كل شيء يُدمر أو يستباح، بداية من المنشآت الصحية كمصانع لقاحات الأطفال حديثي الولادة في وقت تنتشر الكوليرا والحصبة والملاريا في كل أنحاء البلاد، وصولًا إلى أعراض النساء وأرواحهن وأرواح أطفالهن.

اقرأ أيضًا: مع انتشار الاغتصاب.. مطالبات بحق الإجهاض في السودان

وقد غادرت جل المنظمات الغذائية هذا البلد ما فاقم أزمة نقص الإمدادات الغذائية التي تتعرض البقية الباقية منها للنهب على يد مقاتلي “الدعم السريع” والميليشيات المتحالفة معها، كما يشير بعض أبناء السودان، في وقت يشتكي العاملون في جهود الإغاثة الدولية والمحلية تباطؤ القيادتين العسكريتين المتحاربتين في تسهيل مرور المساعدات إلى شعبهما.

وأغلق الجيش الطرق البرية من تشاد المجاورة بحجة أنه يحتاج إلى وقف شحنات الأسلحة عن قوات الدعم السريع.

التجويع كسلاح تكتيكي

وتشرح هاجر علي، الباحثة في “المعهد الألماني للدراسات العالمية والإقليمية”، الوضع فتقول إن “هناك جوانب من شأنها عرقلة إنشاء ممرات للمساعدات الإنسانية أو إنشاء مناطق منزوعة السلاح”.

وفي مقابلة مع وكالة DW الألمانية، تضيف: “تحتل قوات الدعم السريع بعض الشوارع أو نقاط تفتيش محددة بهدف منع تدفق الإمدادات إلى قوات الجيش، فيما يتزامن ذلك مع سيطرتها على خطوط إمداد مدنية. وتنهب عناصر الدعم السريع بانتظام كل ما تصل إليه أيديهم ثم يقومون ببيعه بدلا من توزيعه على النازحين والمدنيين”.

وفي المقابل، فإن قوات الجيش تمنع إدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع، محذرة: “إذا لم يحدث أي تغيير، فإن الوضع سيزداد سوءا في المستقبل”.

ووفق “علي”، فإن “التجويع بات أحد تكتيكات الحرب الخبيثة التي تعتمدها قوات الدعم السريع كما يحدث بولاية الجزيرة التي تنتج ما يقرب من نصف إجمالي إنتاج القمح في السودان”.

وقد خفت حدة هذا الإغلاق قليلًا بالنسبة للإمدادات الغذائية، واستطاع برنامج الأغذية العالمي مؤخرًا إدخال قافلتين من المساعدات، لكن ذلك ليس كافيًا.

الهروب إلى أوروبا على مؤشر التوقعات

خلال الأسبوع الماضي، حذر فيليبو جراندي مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين من أن اللاجئين السودانيين قد يتوجهون إلى أوروبا في حالة عدم توفير مساعدات إنسانية كافية للسكان في البلد الذي تمزقه الحرب.

وذكر “جراندي” أن الأزمة الإنسانية في السودان ربما تدفع السودانيين اليائسين إلى الفرار إلى ما هو أبعد من الدول المجاورة التي يلوذ بها بالفعل قرابة مليوني شخص.

وقال جراندي، وفق ما نقلته واسئل إعلام غربية: “نعلم تمام العلم أن هذه المنطقة مليئة بالمجرمين الذين يريدون استغلال بؤس اللاجئين والنازحين ومساعدتهم في الانتقال بتكلفة نحو شمال إفريقيا ونحو أوروبا”. وأضاف: “أؤيد تقديم مزيد من الدعم للنازحين داخل السودان أو في الدول المجاورة لأنه ما لم يحدث ذلك سيتحولون إلى لاجئين على امتداد هذه الطرق”.

أوروبا تحاول منع الهجرة بالمساعدات

وأظهرت إحصاءات نشرتها المفوضية تزايد انتقال اللاجئين السودانيين إلى أوروبا، إذ وصل 6 آلاف إلى إيطاليا قادمين من تونس وليبيا منذ بداية 2023.

وقد أقيم أمس الإثنين مؤتمر تبرعات للسودان في العاصمة الفرنسية باريس. وقبل انعقاد المؤتمر بساعات تعهدت الولايات المتحدة بتقديم 100 مليون دولار إضافية في صورة مساعدات غذائية طارئة ودعم تغذية وغير ذلك من المساعدات المنقذة للحياة من أجل الاستجابة لهذا الصراع، والذي أصبح أحد أخطر الأزمات في العالم.

وقالت إن الإعلان عن تقديم أكثر من 100 مليون دولار من المساعدات الإنسانية يرفع إجمالي المساعدات الإنسانية الأمريكية إلى أكثر من مليار دولار منذ بدء الصراع.

ودعت سامانثا باور مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، في بيان، طرفي الصراع لوقف عرقلة وصول المساعدات الإنسانية والمشاركة في “مفاوضات بنية حسنة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار” من أجل منع وقوع مجاعة والحيلولة دون المزيد من المعاناة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة