صلة رحم..فن الاشتباك الناعم

كعادة المؤلف “محمد هشام عبية” المحترف في لعبة جذبك لشباك عنكبوت أفكاره بخيوط حريرية فتُفاجأ بوجودك داخلها متورط في البحث عن حلول لقضايا ظننتها محسومة بالنسبة لك. ينقلك إلى مساحة التفكير الحائر في ثوابتك فتجد أن “الصح والغلط” ليس محسومًا دائمًا، وأن اللون الرمادي هو الغالب أحيانًا، والصواب والخطأ شيء نسبي.

رسم الشخصيات

حرفية الكتابة أن تجعل المتلقي -المشاهد- يكوّن فكرة عن طبيعة الشخصيات النفسية من الحلقة الأولى، بصنع دراما تجعلنا نكون صورة مبدئية غير مباشرة أو مونولوجات يحكي فيها الأبطال أحداث سابقة توضح تاريخهم أو يصف أحدهم الآخر.
فمن خلال الأحداث في الحلقة الأولى نكتشف بشكل انسيابي وعبر علاقة إياد نصار “حسام” بزوجته يسرا اللوزي “ليلى”، أن الشخصية الأساسية هنا تعاني اضطرابات نفسية واضحة تجعله أميل للعصبية والتمحور حول الذات والنرجسية، غير أن عيوبه النفسية هنا لم تتم شيطنتها، فهو إنسان محب لزوجته منتظر لابنه منها بفارغ الصبر والأمل بعد trauma سابقة فقد فيها ابنه.

“ليلى” التي تعمل طبيبة نفسية والتي -للمفارقة- لديها من الهشاشة النفسية ما يجعلها تضعف وتخالف كل المباديء والأعراف المهنية وتقع في حب مريضها “حسام”.
هشاشة “ليلى” النفسية لم تقتصر على سوء الاختيار للشريك فحسب سواء في “حسام” أو “يوسف” من بعده، ولكنها امتدت للأخ النرجسي هو الآخر “زياد”.
“زياد” نرجسي كما يقول الكتاب، فهو يحاول السيطرة على شقيقته وينتقد اختياراتها دائمًا، بل ويصل إلى حد الغيرة الشديدة عليها وإهمال زوجته واحتياجاتها العاطفية، ولأن النرجسيين عندما يجتمعان معًا يصبحا كقطبي المغناطيس المتماثل -يتنافران-، نرى علاقة “حسام” و “زياد” في صدام مستمر لا يكاد يجمعهما مكان إلا وتشتعل الأجواء.

اقرأ أيضًا: عن إدانتنا جميعًا في “أعلى نسبة مشاهدة”

“حنان” الزوجة المعنفة الهاربة من جحيم فُرض عليها تُجبر على التخلي عن أمومتها مرتين، الأولى لكراهيتها الشديدة لزوجها والثانية للاحتياج المادي والأمان.
أما “جيهان”، الطبيبة المثقفة الناجحة، فهي ضحية علاقة عاطفية مؤذية من “حسام” الواقعة تحت سيطرته النرجسية وإسقاطات مشاكله وأنها “المُلام الأول” على أخطائه، ورغم ذلك لا تستطيع  الفكاك من براثن حبه.

من عناصر الجمال في المسلسل أنه لا توجد شخصيات ثانوية مهمشة، فجميع الشخصيات مؤثرة ومكتوبة بشكل عميق يجعلنا نتعايش معها ونتفهم دوافعها وجوانبها النفسية والإنسانية، مثل الثنائيات “سهام” و “الشيخ جابر”، “نورا” و “شاكر”.

د. خالد أم د. حسام؟

selat rahem2

أعتقد أن الغالبية العظمى من المشاهدين رأوا شخصية “د.خالد” في الحلقات الأولى كطبيب يخالف ضميره المهني، ويرتكب مخالفات قانونية جسيمة بموافقته على إجراء عمليات إجهاض في عيادته البدائية عمل غير أخلاقي أليس كذلك؟ لا يرضى به العُرف ولا القانون، مقانةً ب “د. حسام” الرافض لمثل هذه التصرفات المشينة، والذي يعلم بسوء سمعة زميله ويراقب بتأفف واشمئزاز مساعدته “سهام” وهي تقابل فتيات يهمسن لها وتحذرهن من التواجد في المستشفى، فينهرها “حسام” ويسألها بتهكم إن كان زوجها “الشيخ” على علم بما تقوم به.

يا عزيزي كلنا دوغمائيين

تتشكل منظومتنا القيمية منذ طفولتنا وتترسب عليها مع الوقت “معتقدات” مَن حولنا فتترسخ “العقيدة”، وكلما زاد الوقت وزادت تغذية المعارف بنفس الفكرة الأحادية متعددة المصادر كلما تكلست داخل عقولنا وأصبحت “قناعة” يصعُب إخضاعها للتشكيك العقلي.
أعتقد أن جزءًا كبيرًا من اختبارات الحياة وما تحمله لنا الأقدار من سيناريوهات غير متوقعة يهدف في حقيقة الأمر إلى تفتيت أصول هذه “القناعة” ومحاولة فهمها من جديد.

في “صلة رحم” اهتزت قناعات “حسام”  بشدة عندما وجد نفسه أمام رغبته الملحة في الإنجاب، الأمر الذي وضعه في معضلة أخلاقية، ففي مقابل مساعدة “خالد” له وجد نفسه مضطرًا لمساعدته في عملياته المشبوهة التي طالما وصمها ورفضها!!

وإن كان قد قام بمشاركته في (جريمته) أول الأمر مضطرًا ومدفوعًا بسبب احتياجه لمساعدة “خالد”، إلا أنه بعد رحلته تغيرت قناعاته الأخلاقية تمامًا وأصبح متعاطفًا مع من تضعها ظروفها في طريق الإجهاض، بل وتجاوز فلسفة “خالد” -الذي كان يساعد الفتاة التي تورطت في حمل غير مرغوب فيه لمرة واحدة فقط كي لا تعتاد الأمر- إلى رغبته في مساعدة “ريكو” التي لم تكن مرتها الأولى ولكنه استشعر صدق توبتها ورغبتها في حياة مستقرة.

 على النقيض: “الشيخ جابر و زياد”

selat rahem3

الأول لم تشفع عنده العشرة والحب المقدمان من زوجته المحبة وأم أولاده “سهام” لإعطاءها فرصة لتشرح دوافعها، وإن كان هو يعلمها يقينًا، فهي لم تكن  تعصِ له أمرًا أو تخالفه أبدًا، لولا علمها بضيق ذات يده وأنها دون المبالغ التي تحصل عليها من الفتيات مقابل مساعدتهن في عمليات الإجهاض ما كان لبيتها أن يستقيم. رغبة “جابر” في عدم مواجهة قناعتة بكونه المسئول عن متطلبات بيته وأولاده، وشعوره الدفين بالعجز ربما هو ما أدى به إلى ميكانزيم دفاعي وهو “الإزاحة”، فالأسهل من حساب النفس هو حساب “سهام” وحبسها وجعلها ميتة في نظر أبناءها، وهو يدعو مخلصًا “ربي إني مسني الضُر وأنت أرحم الراحمين”.

rahem

أما الثاني فهو مهمل لزوجته ومهووس بعلاقة أخته بزوجها، يرى أن الخطأ يستوجب العقاب على الآخرين، فمن “حقه” محاولة التقرب من “جيهان”، لكن أن تعترف له زوجته من تقرب “يوسف”منها في لحظة ضعف فهذا أمر لا يغتفر، لم يسمح عقله بإعادة التفكير في الأمر أوفهم أبعاده كذلك في تعامله مع “حسام”، على الرغم من قبول أخته -وهي صاحبة الشأن- لما قام به زوجها إلا أن “زياد” لم يتوقف ثانية ليفكر أنه ربما قد يتسبب في تعاسة أخته.

من “جري الوحوش” إلى “صلة رحم”.. هل السعي معاندة للقدر؟!

mosalsal

تساؤل آخر يدفعك “صلة رحم” للتفكير فيه.. هو متى يجب أن يتوقف الإنسان عن السعي وراء ما يتمنى؟ هل هناك حد أقصى لهذا السعي؟ علامة تظهر على الطريق لتخبره بطريقة ما أن عليه الاكتفاء والتسليم؟
لعلكم تذكرون معي فيلم ناجح كان قد عُرض في أواخر الثمانينات (1987) بعنوان “جري الوحوش”، يحكي عن زوج محب لزوجته مصاب بالعقم يلجأ لعملية جراحية لنقل جزء من الفص الأمامي للغدة النخامية من شخص سليم، وتتوالى الأحداث حتى نصل إلى إصابة المتبرع بالجنون والمتبرع له بالشلل!

gari wohosh

طرح الفيلم كان مباشر في رسالته وحسم اجابة السؤال التي ترددت على لسان احد ابطال الفيلم ” حسين الشربيني” طوال الاحداث معتبرا ما يحدث تغيراً لخلق الله ومحاولة لاخذ رزق غير المكتوب له.

الشيء الملفت للانتباه، أن الإجابة عن هذا التساؤل في المسلسل نجد أنها قد تكون “مدسوسة عمدًا” في كلمات أغنيته.. “هتحارب مين ما تفوق..يا ابو حق مالكش حقوق.. اعرف حجمك يا ضعيف..ده انت مجرد مخلوق”

والحقيقة -كمُتلقي أو مُشاهد- أرى الأغنية مُقحمة بشكل كبير على المسلسل، فهو كعمل يثير التساؤلات في عقلي بطرح جريء لقضايا شائكة كنت أفضل ترك الإجابة للمُشاهد، دون الحاجة لحسم الموقف في كلمات الأغنية، التي أخرجته من حيز اللون الرمادي المشار إليه في بداية المقال.. إلى الوصم وصبغه بسواد الغرور ومعاندة القدر.

واقع قضايا النساء بشكل عام والناجيات بشكل خاص

“ربنا رحيم..بس الناس معندهاش رحمة”.د. خالد

بشكل عام يمكن القول أن المونولوجات الطويلة التي يتحدث فيها أحد الأبطال عن فلسفة الشخصية تضعف العمل، إلا أن الفن لا يعرف القواعد الثابتة ولكل قاعدة –إن وجدت– استثناء. تناول العمل قضية الإجهاض الآمن وما تتعرض له الفتيات اللاتي يبحثن عن حقهن في فرصة للنجاة من الموت والبداية الجديدة دون إثارة الرأي العام والجدل المعتاد، لأنه ببساطة جعلك تتوحد معهن “كبشر” وليس كأرقام إحصائية تقرأ عنها وحروف أولى في صفحات الحوادث كضحايا لجرائم الشرف والثأر للفضيلة.

فقط بشر من لحم ودم يخطئ ويصيب ..يأثم ويتوب.. يقبل الله التوبة.. لكن المجتمع لا يقبلها، يرى التخلص من جنين غير مرغوب فيه في مراحله الأولى “جريمة قتل”، ولكن لا يتورع عن قتل أمه بسببه..يتأفف من أطفال الشوارع ويحتقر مجهولي النسب ليتحقق فيهم المثل الشعبي “لا بيرحم ولا يسيب رحمة ربنا تنزل”.

rahmat

أعجبني منطق د.خالد المتماسك، وفي نظري هو أكثر الشخصيات السوية نفسيًا في العمل، فهو و إن كان يمارس جريمة بمفهومها القانوني والمهني بقتل أجنّة في شهورها الأولى، إلا أنه يعيد للحياة فتاة مهددةٌ حياتها أو امرأة تعرضت للإغتصاب أو حتى زوجة حملت غصبًا ولا تطيق جنيننها.

منطق “د.خالد” أنه يحميهن مما قد يحدث لهن من ابتزاز جنسي في عيادات أخرى فتتضاعف مأساتهن ويمشين  طريق لا رجوع منه، ويشترط ألا يرى الفتاة مرة أخرى، فيكفيها شعور الخوف من العملية والخذلان من الشريك والرعب من المستقبل أن يكون رادع لها، وإن عادت فالباب يغلق في وجهها.. لقد أعطيتك فرصة للحياة مرة وكان عليكِ تقديرها.

وطرح قضية جريئة كهذه لن يضرها أبدًا إفراد بعض المساحة للتمعن والتفكير في منطق “د.خالد” بتساؤلات محددة وواضحة تجعلك -وإن لم تقتنع بمنطقه أو تقبله- إلا أنك أغلب الظن ستحترمه.

أعتقد أن “صلة رحم” عمل سيظل محل نقاش طويل خاصة بعد إعادة عرضه في المرات القادمة، وسيترك بصمة كعمل مهم قد يساهم يومًا في تغيرات قانونية، ولو لم يحدث هذا فيكفي مساهمته في تغيير نظرة الكثيرين نحو اعتبارات نتعامل معها كمسلمات ملونة بالأبيض والأسود.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة