الموازنة الحائرة بين شروط “النقد الدولي” وتوصيات الحوار الوطني وأزمة “الصناديق الخاصة”

يتسلم مجلس النواب، برئاسة المستشار الدكتور حنفى جبالى، اليوم الأحد، مشروع الموازنة العامة للدولة الجديد للعام المالي 2024/ 2025، والذي يتضمن اختلافات عديدة عن موازنات الأعوام السابقة، وبنودًا مثيرة للجدل.

موازنة الحكومة العامة

تحمل الموازنة الجديدة للمرة الأولى مسمى “الحكومة العامة”، بضمها الموازنة التقليدية، مضافةً إليها موازنات 40 هيئة اقتصادية، على أن يتم خلال 5 سنوات ضم 19 هيئة أخرى، ليصبح الإجمالي 59 هيئة اقتصادية، في خطوة بررتها وزارة المالية بـ “تحسين مؤشرات الأداء المالي”.

ما يعنيه هذا:

كان لدى الهيئات الاقتصادية موازناتها الخاصة بعيدًا عن أبواب الموازنة العامة للدولة، ويتم التعامل معها في حالتي الفائض والعجز فقط، بحيث تحُول لها الخزانة العامة مخصصات حال وجود عجز بها، أو تتلقى منها الفوائض حال تحقيقها.

وقد ساهم ضم الهيئات في تحقيق قفزة في إيرادات الحكومة المستهدفة إلى 5.05 تريليون جنيه، لكنه رفع إجمالي المصروفات أيضًا إلى 6.4 تريليون جنيه مقابل 3 تريليونات مصروفات و2.1 تريليون إيرادات كانت مستهدفة للسنة المالية الحالية 2023/ 2024، قبل أن تُرفع حزم رفع الأجور الأخيرة المصروفات بقيمة 680 مليار جنيه.

سقف الدين.. من صاحب القرار؟

تتوقع الموازنة العامة الجديدة تحقيق فائض أولي كبير يتجاوز 3,5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024/ 2025 مقابل 2.5% فائضًا أوليًا العام المالي الحالي، مع خفض العجز الكلي على المدى المتوسط إلى 6%، مقابل 7% في الفترة المقارنة نفسها.

واتساقًا مع خفص العجز، تستهدف الموازنة الجديدة وضع معدل الدين للناتج المحلى في مسار نزولي ليبلغ 80% في يونيو 2027، مقابل 90% مستهدفة للعام المالي الحالي 2023/2024.

اقرأ أيضًا: رغم الضرائب والقروض.. كيف التهمت فوائد الديون 60% من مصروفات الموازنة؟

الدكتور هاني توفيق، الخبير الاقتصادي ورئيس الجمعية المصرية للاستثمار المباشر سابقًا
الدكتور هاني توفيق، الخبير الاقتصادي ورئيس الجمعية المصرية للاستثمار المباشر سابقًا

استحدث مشروع الموازنة سقفًا قانونيًا لدين “الحكومة العامة” لا يمكن تجاوزه إلا بموافقة رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، في خطوة أثارت الجدل بين خبراء الاقتصاد، الذين اعترضوا على منح السلطة التنفذية سلطة تجاوز البرلمان، ومن بينهم الدكتور هاني توفيق، الخبير الاقتصادي ورئيس الجمعية المصرية للاستثمار المباشر سابقًا، الذي يقول إن القرار الحكومي يتجاهل أو يتناسى موافقة البرلمان المقررة دستوريًا، هذا بغض النظر عن كوننا تتفق أو نختلف على حقيقة الدور الذي يمارسه هذا البرلمان.

موازنة البرامج والأداء.. تطبيق فعلي أم شكلي؟

كان سقف الدين أحد توصيات اللجان الاقتصادية بالحوار الوطني، وقد دعت أيضًا لوضع سقف تشريعي للدين العام كنسبة من الدخل القومي، أو كنسبة من خدمة الدين مقارنة بالصادرات غير البترولية، مع آلية محددة لمراجعة هذا السقف من قبل مجلس النواب.

وطالبت التوصيات الاقتصادية في الحوار الوطني بتبني موازنات البرامج والأداء، ومراجعة توجهات السياسات المالية بحيث لا يكون الغرض منها فقط تقليل العجز، بل الدفع بالنشاط الاقتصادي إلى مستوى تشغيل أعلى، وإعادة هيكلة الوزارات المختلفة ودمجها، بحيث لا يتجاوز عددها العشرين، لتخفيض الإنفاق العام، وسهولة التنسيق بينها.

ماذا نعني بوحدة الموازنة؟

ورغم تأكيد وزارة المالية أنها راعت مبدأ وحدة الموازنة في مشروع الموازنة الجديدة، لكن هاني توفيق يعترض على قصر مبدأ وحدة الموازنة فى كونه يرفع من قيمة الدخل القومي، والفائض الأولي، ويخفض من نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي، وهو ما يعتبره “توفيق” نوعًا من الشكليات.

وتعني وحدة الموازنة وضع نفقات الدولة وإيراداتها في وثيقة واحدة تعرض على السلطة التشريعية لإقرارها، أو بمعنى آخر موازنة واحدة تتضمن جميع إيراداتها ونفقاتها مهما كانت مصادرها أو أوجه نفقاتها، ومهما تعددت هيئاتها ومؤسساتها.

ويقول “توفيق” إن الهدف الموضوعي والأشمل المفترض والمتوقع هو أن توضع موارد الدولة في وعاء واحد، وترتيب أولويات الإنفاق منه طبقًا لاحتياجات الدولة الاقتصادية والاجتماعية ككل، وليس لأهداف كل هيئة أو صندوق أو جهة على حدة.

الصناديق الخاصة.. متى تنضم للموازنة؟

تظل الصناديق الخاصة نقطة حائرة فيما يتعلق بوحدة الموازنة الجديدة، رغم أن مخرجات “الحوار الوطني” طالبت بضمها إلى الموازنة العامة، باعتبارها المالك للأصول العامة نيابة عن الشعب، وإجراء تعديل تشريعي بهذا الصدد مع استثناء حسابات المشروعات البحثية الممولة من المنح أو الاتفاقات الدولية أو التبرعات، وكذلك حسابات المستشفيات الجامعية والمراكز البحثية والعلمية والإدارات الصحية والمستشفيات ومشروعات الإسكان الاجتماعي.

وفي تصريحات صحفية سابقة، قال وزير المالية محمد معيط إنه لن يتم ضم الصناديق الخاصة إلى الموازنة العامة للدولة بالشكل الدارج، بل ستخضع لما يسمى بالموازنة الشاملة المجمعة.

وأكد الدكتور إيهاب أبو عيش، نائب الوزير لشئون الخزانة، أن الصناديق والحسابات الخاصة تمثل نحو 10% من إجمالي تمويل الموازنة العامة، تخضع للرقابة السابقة للصرف من خلال ممثلي وزارة المالية، والرقابة اللاحقة أيضًا سواءً من الجهاز المركزي للمحاسبات، ومجلس النواب، أو التفتيش المالي بوزارة المالية.

المونوريل أم التعليم؟

وقال “أبو عيش”، في لقاء نطمته الوزارة مع عدد من كبار الصحفيين ورؤساء التحرير أخيرًا، إن أي مبالغ مالية يتم صرفها من الصناديق تكون واضحة أمام السلطة المختصة بكل جهة ووزارة المالية أيضًا، عبر منظومتي المعلومات المالية الحكومية والدفع الإلكترونى.

لكن الخبير الاقتصادي هاني توفيق يقول: “نحن لا نشكك في ذمة وكفاءة القائمين على إدارة الصناديق والهيئات الخاصة وهي بالآلاف، لكن ضمها في موازنة الدولة يضمن ترتيب مدى أولوياتها، ضمن الأوليات الاقتصاية والاجتماعية للدولة ككل.. فتوسعة قناة السويس أو المونوريل قد يثت جدواه الاقتصادية لكنه ليس أهم من تمويل عجز 400 ألف مدرس أو توطين الصناعات المحلية أو مشروعات تصديرية ذات عائد مستدام”. 

مستهدفات شديدة الطموح

استهدف مشروع الموازنة الجديدة نمو إيرادات الموازنة العامة للدولة “الجهاز الإداري دون حساب الهيئات الاقتصادية”، بنسبة 36% لتصل إلى 2,6 تريليون جنيه، بينما يبلغ معدل نمو المصروفات 29% ليصل إلى 3,9 تريليون جنيه.

على مستوى المصروفات، زادت مخصصات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية إلى 636 مليارًا، منها 144 مليار جنيه لدعم السلع التموينية، و154 مليارا للمواد البترولية نتيجة لارتفاع أسعار البترول عالميًا وأثر تغير سعر الصرف، إضافة إلى 215 مليار جنيه للمعاشات، و23 مليار جنيه لدعم الصادرات، و40 مليار جنيه لـ “تكافل وكرامة”.

كما رفع مشروع الموازنة مخصصات تحسين أجور العاملين بالدولة إلى 573 مليار جنيه في العام المالي المقبل لاستيعاب الحزمة الأخيرة الزيادات الأجور،  مقارنة بمخصصات قدرها 470 مليار جنيه في موازنة العام المالي الحالي.

في جانب الإيرادات، يستهدف المشروع نمو الإيرادات غير الضريبية بنسبة 60%، والإيرادات الضريبية بنسبة 30%، مع التأكيد على أن الزيادة لن تأتي بإضافة أي أعباء ضريبية على المواطنين أو المستثمرين وذلك من خلال توسيع القاعدة الضريبية بتعظيم جهود الاستغلال الأمثل للنظم الضريبية الإلكترونية في دمج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي.

وضع سقف للاستثمارات العامة

من النقاط المثيرة للجدل، وضع سقف لإجمالي الاستثمارات العامة للدولة بكامل هيئاتها وجهاتها، لا يتجاوز تريليون جنيه في العام المالي المقبل 2024/2025.

وكان الإبطاء في الإنفاق الاستثماري على المشاريع الجديدة أحد المبادئ الأساسية التي اتفقت عليها مناقشات المحور الاقتصادي بالحوار الوطني، إذ دعت للتوقف التام عن إبرام أي قروض مرتبطة بمشروعات لمدة عام على الأقل، وإعادة النظر في ترتيب أولوياتها الخارجية، المراجعة الدقيقة لجميع القروض المرتبطة بمشروعات لم تدخل بعد حيز التنفيذ.

النائب ياسر عمر، وكيل لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب
النائب ياسر عمر، وكيل لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب

ويرى النائب ياسر عمر، وكيل لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، أن الموازنة الجديدة تصحيحية تستهدف ترشيد الإنفاق في الموازنة الجديدة لمواجهة العجز، على أن تمهد للعودة لمسار النمو.

وقفز عجر الموازنة المصرية خلال أول 5 أشهر من العام المالي الجاري بنسبة 92% ما يعادل 312.13 مليار جنيه، مسجلًا 652.65 مليار جنيه مقابل 340.52 مليار جنيه، خلال الفترة ذاتها من العام المالي الماضي.

وقال عمر إن الموازنة الجديدة تشمل زيادة مخصصات الصحة والتعليم بنسبة تزيد على 30% بهدف تعزيز استراتيجية بناء الإنسان المصرى، كما تتضمن زيادة مخصصات تحسين مستوى معيشة المواطنين وتعزز بزيادة الإنفاق على الحماية الاجتماعية، بهدف تخفيف الأعباء عن متوسطى ومحدودى الدخل.

وتتضمن الموازنة في الوقت ذاته مواصلة اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لخفض الدين العام للموازنة وأعباء خدمته والحفاظ على الانضباط المالى، وضمان الاستدامة المالية للموازنة العامة للدولة، بحسب ياسر عمر.

وتضمن مشروع الموازنة الجديد توجيه نصف إيرادات برنامج “الطروحات” الحكومية لخفض حجم المديونية الحكومية بشكل مباشر مع العمل أيضًا على إطالة عمر الدين (استبدال الديون قصيرة الأجل بأخرى طويلة الأجل).

وبحسب وزارة المالية فإنها تستهدف جمع 5 مليارات دولار من برنامج الطروحات الحكومية قبل نهاية عام 2024 (تضم النصف الأول من العام المالي الجديد 2024،2025 الذي يبدأ في أول يوليو القادم وحتى 30 يونيو من العام التالي).

الفجوة التمويلية.. كيف تتعامل الحكومة؟

لم يتم الكشف حتى الآن عن كيفية سد الفجوة التمويلية بالموازنة لكن من المرجح التعامل معها كالمعتاد عبر الاقتراض في صورة أذون خزانة قصير الأجل أو سندات خزانة طويلة الأجل، خاصة مع ارتفاع العجز الكلي المتوقع للعام المالي الجديد لـ 1.35 تريليون جنيه مقابل 824.4 مليار جنيه بالموازنة الحالية وقت إقرارها في يوليو الماضي.

يُفترض أن تكون الموازنة الجديدة تقشفية وهي نوع من الموازنات تتضمن تخفيضات في الإنفاق الحكومي، أو زيادات ضريبية، أو مزيج من الاثنين، ويتم اللجوء إليها لتقليل عجز الميزانية وتجنّب أزمة الديون، لكن المخصصات تكشف عن توسع في بنود وتقشف في أخرى.

ويقول هاني الحسيني، الخبير الاقتصادي وعضو اللجنة الاقتصادية لحزب التجمع، إن الاقتصاد المصري وصل لأقصى مرحلة لسقف الأمر الذي يستدعي جعل   التنمية هدف أساسي، لكن حجم الاقتراض الكبير، واستمرار خدمة الدين لفترة طويلة، من شأنه أن يؤدي إلى استمرار  عملية الاقتراض.

وتبلغ قيمة الديون الخارجية المستحقة السداد على الحكومة المصرية تبلغ نحو 29.229 مليار دولار خلال عام 2024، بينما يبلغ إجمالي الدين العام بمصر إلى 6.86 تريليون جنيه، بحسب آخر بيانات متاحة لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية.

يضيف الحسيني أنه يجب إعداد خطة لسداد أقساط وفوائد الديون على المدى الطويل، ووضع سقف للدين العام مرتبط بشكل كبير بجدوى وأولويات القروض، مع دور لمجلس النواب في مراجعة الحكومة، وتقنين الاعتماد على القروض، ويعمل على خفض الدين العام خلال الفترة المقبلة.

وسجلت فوائد الديون 713.41 مليار جنيه خلال الأربعة أشهر الأولى من العام المالي الجاري، مقابل 357.87 مليار جنيه في الفترة نفسها من العام المالي السابق له.

لكن الدكتور السيد الصيفي، الخبير الاقتصادي، إلى تداعيات القرارات الأخيرة بالبنك المركزي الخاصة بتعويم الجنيه ورفع الفائدة 6% على الموازنة العامة للدولة، موضحا أن كل زيادة في الفائدة بمقدار 1% تؤدي الي زيادة الفوائد المدفوعه بمقدار 80 مليار جنيه.

أضاف أن ذلك المعدل جاء نتيجة للتوسع في الاقتراض الحكومي عبر إصدار أذون الخزانة واقتراض الهيئات الاقتصادية الحكوميه وقطاع الأعمال، وبالتالي الزيادة المقدرة 6% رفعت مدفوعات الفوائد بمقدار 480 مليار جنيه خلال الاشهر المتبقية من العام المالي الحالي لتقفز من 1.12 تريليون لأكثر 1.5 تريليون جنيه.

يشير الصيفي أيضًا إلى القفزة التي سجلها الدين الخارجي حال تقويمه بالجنيه المصري، فبدلاً من أن يكون 165 مليار دولار مضروبة في 30 جنيهًا سعر صرف الدولار رسميا قبل التعويم أصبح 165 مليارًا مضروبة في 50 جنيهًا، فضلاً عن تراجع الناتج المحلي حال تقييمه بالدولار أيضًا، فالناتج المحلي كان 12 تريليون جنيه حال قسمتها على سعر الدولار قبل التعويم كان الناتج 400 مليار دولار، وبعد التعويم أصبح 240 مليار دولار.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة