عشرة عمال يموتون غرقًا، بعضهم العائل الوحيد لأسرته، وبعضهم لم يكوِّن أسرة بعد، مأساة غرق عبارة الجيزة الخشبية التي كانت تنقل 14 عاملًا – بينما حمولتها لا تتجاوز الخمسة أفراد – لعملهم بأحد المشروعات في نفس المنطقة التي شهدت مأساة أخرى من نفس النوع في بداية عام 2022، والسبب في ذلك هو أن الدولة التي استثمرت عشرات وربما مئات المليارات في بناء الكباري في طول مصر وعرضها، وبعض هذه الكباري مبني في أماكن بلا أى ضرورة عاجلة على الإطلاق، قررت أن دفع تعويضات بائسة لأهالي الضحايا المرة تلو المرة أسهل من بناء كوبري يحميهم من الغرق، بل وقررت أن إنفاق الأموال على تدريب فرق الإنقاذ وإمدادها بالمعدات لانتشال الضحايا أمر هامشي يمكنه أن ينتظر طالما الضحايا من العمال الفقراء وليسوا من المسؤولين الحكوميين أو السياح الأجانب، مما أضطر الأهالي للبحث عن الضحايا باستخدام مراكب صيد لا تقل بدائية عن العبارة الغارقة.
أبدأ مقالي بهذه المأساة، لأنها مأساة كاشفة عن كيفية تعامل الدولة المصرية مع القوة الاقتصادية الأساسية لديها؛ العمال.
وإذا كان هؤلاء العمال قد رحلوا عن دنيانا بشكل مأساوي وتركوا خلفهم أسرًا منكوبة لن تحل تعويضات وزارة العمل محل ذويهم، فإن هناك ملايين غيرهم يعيشون في حياة أقرب للموت، حيث يعملون ساعات طويلة في ظروف عمل شاقة وممرضة ليجدوا في النهاية أن ما يحصلون عليه من أجر لا يوفر لهم ولأسرهم الحد الأدنى من متطلبات المعيشة الآدمية، هذا إذا لم يقم صاحب العمل بتأخير صرف أجورهم أو خصم مبالغ منها وفقًا لهواه كما يحدث في العديد من الشركات.
وجل ما يمكن للحكومة عمله هو الإعلان عن زيادات وهمية في الحد الأدنى للأجور لا هي تريد أن تطبقها على قطاع الأعمال العام التابع لها (وهو ما أدى لأزمة إضراب عمال غزل المحلة) ولا هي تستطيع أن تطلب من القطاع الخاص تطبيقها على العاملين فيها ولا هي تسمح للعمال بتكوين نقاباتهم المستقلة ليتفاوضوا بشكل ودي مع أصحاب الأعمال.
فما الذي نحصل عليه من هذه المعادلة؟ عامل فقير لا يجد ما يسد احتياجات أسرته الأساسية ولا يجد حكومة تفرض قوانين لحماية حقوقه في مواجهة أصحاب الأعمال، ولا يجد حتى تنظيمًا نقابيًا يمكنه أن ينتظم فيه للمطالبة برفع أجره وتحسين ظروف عمله، وإذا حاول الاحتجاج أو الإضراب واجهته التهم المكررة بالتخريب والتهديدات عالية المصداقية باحتمالية دخول السجن لسنوات، فما هو الفرق بين هذا العامل وعبيد العصور الغابرة؟
في بداية عصر الثورة الصناعية كان الفارق الأساسي الذي يحدد كون الإنسان عبدًا أم عاملًا أجيرًا هو أن العبد لا يحصل على أجر مقابل عمله، يحصل فقط على ما يضمن بقاؤه على قيد الحياة ليعمل، بالإضافة طبعًا إلى أن العبد لا يختار ما يقوم به من عمل وإنما يحدده له مالكه وإذا حاول العبد التمرد على إرادة مالكه فيكون جزاؤه التعذيب أو ربما الإعدام، بينما العامل يمتلك قوة عمله التي يمكنه أن يستغلها كيف يشاء بالتعاقد مع صاحب العمل الذي يعطيه الأجر المناسب له.
بالطبع كان هناك العديد والعديد من الانتهاكات لهذه القاعدة العامة على مر التاريخ في الدول المتقدمة، ولكن عند النظر إلى حال عمالنا الآن، فهل يمكن القول بأن الفارق كبير بين ظروف عمل أغلبهم وظروف حياة العبيد؟ وهل يمكن لمجتمع أن ينهض أو يتقدم وهو يحرم قواه العاملة من ظروف معيشية تعينهم على العمل وتحمل مسؤولياته؟
أعتقد أن الإجابة “لا” وأعتقد أنها واحدة من المشاكل التي تحتاج لإعادة صياغة أسس العلاقة بين العمال وأرباب العمل، وأن ذلك لا يمكن تحقيقه بقرارات فوقية عليا وأنه لا بديل عن فتح الباب أمام التنظيمات النقابية الحقيقية لتمثل العمال وتطالب بحقوقهم.