حوار وطني بين السُلطة والسُلطة

 

كل شعوب العالم لا تعرف، ماذا سيحدث في المستقبل، إلا الشعب المصري، لا يعرف ماذا يحدث الآن؟

عبارة للراحل جلال عامر، تكاد تختزل المشهد الضبابي، الذي يُحاصر الأجواء السياسية المصرية، ومنها “الحوار الوطني”، الذي لا يعلم أحدٌ متى سينطلق؟ لكن الأرجح وفق رئيس مجلس الأمناء، ضياء رشوان، أن ذلك سيكون مع نهاية الأسبوع المقبل.

على أن موعد انطلاق الحوار، ليس بيت القصيد، وليس السؤال الأهم في اللحظة الراهنة، بل إن الأسئلة اللازمة والمركزية، تتصل بماهية هذا الحوار، وأهدافه، ومدى جدية الدولة في الأخذ بمقترحاته، وهي أسئلة بغير إجابات، أو قل تبدو إجاباتها غير مبشرة، بالنظر إلى ما أسفرت عنه الجولة الأولى من الحوار، وكذلك بالنظر إلى ما يظهر من نية السلطة استنساخ ما كان، بما يؤدي في نهاية المطاف، إلى أن تؤول جلسات الحوار الثانية، إلى محض جعجعة بغير طحين، تمامًا مثلما حدث في المرة السابقة.

قبيل انطلاق الجولة الأولى، أعلنت أحزاب الحركة المدنية، رفضها المشاركة إلا بعد أن تبدي الدولة “بادرة حسن نوايا”، فتُخلي سبيل سجناء الرأي، تمهيدًا لتدشين مرحلة جديدة، لا يخاف الإنسان فيها من التعبير عن أفكاره، ولا يداهم زوار الفجر غرفة نومه إثر ذلك، فكان الرد: تعالوا إلى الحوار بقلوب مفتوحة، حرصًا على مصلحة الوطن، وأمعن “عساكر الأمن الإعلامي المركزي”، في برامج “قلة الأدب شو”، في تخوين رافضي الانخراط في حوار هلامي، لا يتضمن الحد الأدنى من الضمانات التي تكفل جعله ذا جدوى، وتشدق المتشدقون، وتنطع المتنطعون، وتفيقه المتفيقهون بأن هؤلاء الرهط من رموز المعارضة، يريدون لي ذراع الدولة، والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يفكر في ذلك.

كما كيلت الاتهامات في مشهد بائس، لرافضي الاشتراك في الحوار، بأنهم يضعون العصا في العجلة، ويعرقلون مسيرة الدولة، التي أعلن رأسها صادقًا، أن الخلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية، بما يعد تدشينًا لما يسمى الجمهورية الجديدة، التي لا نعرف ما الفرق بينها وبين تلك القديمة، وإن كانت الظروف الاقتصادية على الأقل، في القديمة أكثر رحمة.

إزاء تلك الهجمات الشعواء، وإزاء وعود قيل إنها ستسفر عن حلحلة نسبية للوضع الخانق، شارك المتخوفون المترددون أخيرًا، وكان ظهور رموز نظام الرئيس الأسبق مبارك؛ عمرو موسى وحسام بدراوي وعلي الدين هلال، وهم بالطبع من دهاقنة السياسة، في صدارة المشهد، مؤشرًا على احتمالية أن تعود الأمور إلى سابق عهدها، بحيث تجري هندسة حوار بواسطة الاستعانة بهم أو من تصميمهم؛ حوار فيه أخذ ورد، وفيه الحد الأدنى من “خذ وهات”، وفيه تسامح مع الرأي الآخر ولو شكليًا، وذهب كثير من التحليلات إلى أن هناك طبخة على النار، ستنتهي إلى أن رأس النظام انطلاقًا من أنه حنون طيب القلب، ويخشى في المقام الأول على مصلحة البلاد، ويريد رأب الصدوع، قد أمر بكذا وكذا، وطبيعي أن أبرز هذه الـ”كذا وكذا” هي أزمة سجناء الرأي.

صحيحٌ أن ذلك كان يعد سقف طموحات منخفضًا، لكن لا بأس فليخرج المحبوسون من زنازينهم، ولكل حادث حديث، ليس شرطًا أن تكسب معاركك بالضربة القاضية، بل من الممكن أن تحقق ذلك بإحراز النقاط.

لكن سقف الطموحات في مخرجات الجولة الأولى من الحوار، سقط سقوطًا مدوّيًا فوق رؤوس أصحابه، فحتى سجناء الرأي لم يخرج منهم إلا أقل القليل، إلى درجة أن طارق العوضي عضو لجنة العفو، بعد أن كان قد وعد بغلق ملف سجناء الرأي برمته، شرع يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي بنبرة امتزج فيها الغضب بالسخرية، بما كان دليلًا على وجود نكوص عن وعود ما، أو ربما عدم وجود وعود من الأصل، لكن الذين صدقوا أرادوا أن يصدقوا.

في الجولة المنتظرة للحوار، يتكرر السيناريو ذاته.

التيار المدني يطرح المطالب ذاتها، والسلطة لا تعطيهم إلا أذنًا من طين، وأذنًا من عجين، بل إن هناك مقدمات لا تحمل بشائر لتغيير في الموقف السياسي، الذي تجمّد إثر سياسة “اسمعوني أنا بس”.

من هذه المقدمات مثلًا، أن النيابة حققت مع رئيسة تحرير “مدى مصر” لينا عطا الله، بتهمة فضفاضة؛ تشويه سمعة مصر، ومنها أيضًا استمرار حجب المواقع الإخبارية التي لا يروق للقامعين بأمرهم محتواها، في حين لا وعود حاسمة بشأن سجناء الرأي، رغم الاقتراب من الشهر الفضيل، ومنهم بالطبع الذين “خرب السجن بيوتهم”، إثر “بوست عبيط” على فيسبوك.

أي رأي آخر هذا الذي تقبله السلطة ولا تراه يفسد للوطن قضية؟

على كلٍ، فإنه في حال عدم مشاركة أحزاب التيار المدني، فإن الحوار سيقتصر حينئذٍ على مؤيدي السلطة، وهؤلاء انطلقوا قبل الحوار، فأخذوا ينطون من فضائية إلى صحيفة إلى موقع إلكتروني، للإشادة استباقيًا بالحوار، إلى درجة أن واحدًا منهم قال بالحرف الواحد: “إن مشاركة الحكومة في الحوار الوطني، تعكس جدية في مواجهة المشكلات الاقتصادية”.

هل كان صاحبنا ذاك يعتقد أن مشاركة الحكومة في حوار سيتطرق إلى الكوارث الاقتصادية التي حدثت في عهدها الميمون منةً تستوجب الشكر؟

هل منطقي أن يقام حوار وطني يقال إنه إصلاحي بغير مشاركة السلطة التي ستتولى مهمة الإصلاح إن صدقت النوايا؟

لا تسأل عن أشياء إن تبدو لك، تسوؤك فتصبح على ما فعلت من النادمين.

صاحبنا والذين معه من أهل الإشادة لا إراديًا، لا يستقصون منطقًا فيما يقولون، فالمهم أن يمدحوا، على غرار الشعراء المتسولين في العصر العباسي، الذين كان يريقون ماء وجوههم بامتهان الشعر، في بلاطات الحكام والأمراء، مقابل صُرر الفضة والذهب.

إذن إن الحوار حلو، والحوار جميل، وعسل وسكر، هذا رغم أزمة السكر.

وبعيدًا عن الشأن السياسي، ومسألة الحريات التي صارت في أسفل سافلين، فإن الملف الاقتصادي الذي يتصدر جدول أعمال الحوار، بحكم الأزمة المستحكمة، يمثل مسألة إشكالية بدوره، ذلك أن المشاركين في الجولة الأولى، تقدموا بمقترحات عاجلة لانتشال البلاد من دوامات أزماتها الاقتصادية، لكن أحدًا لم ينظر إليها، بل إن التعامل وإياها جرى على ذات الطريقة التي عوملت بها مخرجات المؤتمر الاقتصادي وتوصياته، قبل الحوار بنحو عام، وتحديدًا في أكتوبر عام 2022، إذ علَّق عليها رأس السلطة قائلًا: “كل المقترحات مع احترامي يعرفها طالب في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية”، وهو تعليق ينسف الجدوى من المؤتمر، وينفي بالتوازي إمكانية الأخذ بأي من الآراء التي أدلى بها أهل العلم والخبرة، والأخطر من ذلك أنها تكشف عن المنهج الذي يسير عليه الأمور.

هكذا يبدو الحوار الوطني في جولته المرتقبة تكرارًا ممجوجًا للجولة الأولى.

واللافت أنه إلى جوار تلك العوامل الموضوعية، وما يترتب عليها من تلاشي الآمال في أن يكون الحوار هذه المرة مختلفًا، هناك ملاحظة تتعلق بـ”الحوار والناس”، وهي أن الاهتمام الشعبي به، في حدوده الدنيا، وليست مبالغةً أن الشارع لا يعرف عنه شيئًا، وليس مهتمًا بأن يعرف في الأصل.

تعليل ذلك ربما يتصل بأن الغلاء طحن عظام الناس، فإذا بالحوار كشأن سياسي يغدو بالنسبة لهم ترفًا لا يلائم واقع حالهم، وانشغالًا بغير طائل بما لن يكون فيه جدوى، وقد يُعزى بالانصراف إلى أن القلوب مكلومة مجروحة جراء مأساة غزة، والعجز الشامل عن فعل أي شيء لنصرة أولي القربى والرحم، الذين تضغط المجاعة عليهم، وكلاهما سببان وجيهان.

لكن أغلب الظن، أن الشعب مشي وراء الحكومة في الحوار الأول، تمامًا مثل النخبة السياسية، لحد باب الدار، أو بالأحرى لحد نهاية جلسات الحوار، فلم يجد بعد ذلك شيئًا، إلا صفحات وبرامج إعلامية تمتدح المناقشات، وتشيد بالإنجازات، التي لم يعرفوا لها مكانًا على أرض الواقع.

قد يكون الحوار الوطني فرصة للسلطة أولًا، لتغيير بوصلتها السياسية والاقتصادية التي أوصلت البلاد والعباد إلى “الضنك” الذي لا ينكره أحد، لكن الظاهر من المقدمات يرجح أنه سيكون حوارًا بين السلطة والسلطة، كأنه “فرح على الضيق”، لا يحضره إلا المقربون.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة