كونها أنثى.. عن ذنب ليس لها يد فيه

في موعدها تمامًا حضرت.. جلست أمامي.. عشرينية ذات ملامح رقيقة تُجذبك عيناها اللوزيتان من أول لقاء. ترتدي ملابس محافظة متوسطة المستوى، ولكنها تنم عن ذوق راقي وهادئ.. شعرها الأسود المنسدل دون قصد من حجابها على جبينها الأبيض يعطيها جاذبية من نوع فريد.

سددت نظراتها المباشرة لعينيً، متسائلة

– “تحبي تعرفي ايه؟”

أربكتني جرأتها وفاجأتني، وقد كنت أخشى من الغوص في مناطق شائكة تشق على فتاة في مقتبل عمرها، عانت من ألم الفقد وفقدان المعنى في الحياة، بعدما فشلت حياتها الزوجية للمرة الثانية.

عرفت عنها أثناء بحثي في بيانات وإحصاءات عن الجريمة التي لاحقتنا كأرقام تحت مشرط “جزار يرتدي زيًا أبيض”. تشجعت وراسلتها: “أنا مجرد مهمومة بموضوع الختان. ينفع نتقابل؟”.

سريعًا، ردت بالموافقة

مركز الإحصاء المصري، ذكر سابقًا، أن عدد حالات الطلاق في مصر سجل 269.8 ألف حالة عام 2022، وبلغ متوسط عدد حالات الطلاق في الشهر 22.5 ألف حالة عام 2022، وفي اليوم 739 حالة، وفي الساعة 31 حالة، وحالة واحدة كل 117 ثانية، أي أقل من دقيقتين.

كل ما قلته لها: “حابة اسمعك..”.

“ولدتُ في قرية صغيرة تابعة لمحافظة بني سويف، كنت الابنة الكبرى والفرحة الأولى لوالدي.. ابتسمت متهكمة لثواني ثم تابعت.. بالمناسبة والديَّ كانا من ذوي المؤهلات العليا.. تلاني في الترتيب ابنان، يفصلني بينهما سنوات معدودات”.

ترتشف من فنجان القهوة وتكمل..

“تتوه من ذاكرتي الكثير من التفاصيل عن حادث ختاني.. أخبرتني طبيبتي النفسية أنها من الآثار المعتادة للتروما، حيث تحاول ذاكرتنا التخفيف من أثر الصدمة بأن تجعلنا ننسى لنستمر في الحياة.. لكنني أذكر لقطات غير متصلة كصور فتوغرافية واضحة”.

بقيت صامتة، كدعوة مني لها بأن تكمل ما تذكرته توًا.

“أتذكر وجه أمي الفزع وعينيها المفتوحتين، شهقتها المتبوعة بصرخة: البت بتروح مني.. دماء وجسد مسجى بعري فج.. وجه سيدة لا أذكر من هي ممتلئ بالتجاعيد الغائرة تقبض على صدري واضعة خرقة بالية على فمي لأعض عليها من الألم.. مروحة السقف القديمة وصوت أزيزها الشبيه بالأنين مختلطًا بصوت سن السكين”.

أسرح قليلًا متذكرة بعض مما قرأت عن هذه الأزمة التي لا تزال تعاني منها طفلات بريئات، بينما غاصت هي في ذكريات لا أعلم هل تنوي مشاركتي بها أم لا..

ولتأكيد قبح الأزمة، فمنظمة الصحة العالمية ذكرت أن تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية يشمل جميع الممارسات التي تنطوي على إزالة الأعضاء التناسلية الخارجية بشكل جزئي أو تام، أو إلحاق إصابات أخرى بتلك الأعضاء بدواع لا تستهدف العلاج.

وتم الإقرار دوليًا بأنّ تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية يشكّل انتهاكًا لحقوق الفتيات والنساء الأساسية. وتعكس هذه الممارسة عميقة الجذور عدم المساواة بين الجنسين، وتٌعد شكلًا وخيمًا من أشكال التمييز ضد المرأة. ويتم إجراؤها على قاصرات في جميع الحالات تقريبًا، وهي تشكّل بالتالي انتهاكًا لحقوق الطفل.

كما تنتهك هذه الممارسة حقوق الفرد في الصحة والأمن والسلامة الجسدية والحق في السلامة من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، والحق في العيش عندما تؤدي هذه الممارسة إلى الوفاة.

أفيق من شرودي على صوتها تكمل..

“أذكر ما سبق هذه الليلة من وعود أبي بأنه سيأخذني للملاهي والألعاب.. أذكر فستانًا أبيض جميل أتت به أمي هدية.. أذكر صنعها لأطباق الأرز باللبن والملهبية وتوزيعها على الجيران.. أذكر بالرغم من كل هذا وجهها الحزين”.

“كنتُ في التاسعة من عمري تقريبًا عندما أخبرتني أنني أصبحت عروسة وأن جارتنا الخالة أم عصام الممرضة بالوحدة الصحية ستأتي لتجري لي عملية بسيطة.. ساورني القلق، هل أنا مريضة فضمتني بقوة، وقالت: لا يا نور عيني عشان كبرتي ومفيش حاجه تخوف.. هيجرى عليك كل اللي جرى وبيجرى للبنات”.

تذكرت رفيقات المدرسة والجيران، فهمت بعض أحاديثهن الآن، والآن فقط فهمت لما كان لكل واحدة منهن يومًا لم يعدن كسابق عهدهن بعده..

تصمت هي، فتلح المعلومات على عقلي..

تعرضت 92% من النساء والفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و49 سنة لشكل من أشكال ختان الإناث – 72% منهن من قبل الأطباء.

يمكن أن تسبب هذه العمليات نزيفًا حادًا ومشكلات في التبول، وبعد ذلك تكيسات وعدوى وعقم بالإضافة إلى مضاعفات الولادة وزيادة خطر وفيات الأطفال حديثي الولادة.

يُنفذ ختان الإناث في الغالب على الفتيات الصغيرات في ما بين الطفولة وسن 15 سنة.

تفضيلات الأزواج للنساء المختونات ومنع الزنا من بين الأسباب الأكثر ذكرًا من قبل النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و49 عامًا لدعم هذه الممارسة!

“اااااه.. اتقال لي إني لو ما اتختنتش هيتقال عليا ماشية على حل شعري ومش هلاقي حد يتجوزني.. ياريته ما كان حد اتجوزني”؛ قالتها وابتسامتها الساخرة من الحياة لم تزل تظهر بين الحين والآخر.

أكملت..

“تسببت مضاعفات النزيف في هذه الليلة والتقطيب الخاطئ من الطبيب الذي استنجدت به الممرضة لوقف حمام الدماء المنفجر إلى حرماني من الأمومة.. تكررت المحاولات وتكرر الإجهاض.. أعضائي التناسلية المتهتكة لم تتحمل وزوجي أيضًا لم يتحمل وتم الطلاق”.

“دي الزيجة الأولى.. مش كده؟”؛ سألتها.

“اااه التاني بقى ما كنش عايز عيال كان عايز ينبسط.. كان متجوز وعياله طولي.. اتجوزنا شهرين ورماني بس بقرشين كويسين”.

“ليه؟”

ردت منفعلة: “باردة.. تصدقي قال لي إني باردة.. طب هو أنتوا عايزين ايه.. عايزني أحس بإيه.. عايزني أحس ولا ما أحسش أصلًا.. طب ايه الكتالوج اللي يرضيكوا”.

تحشرج صوتها وهي تمسك بهاتفها وحقيبتها كعلامة على الرغبة في الرحيل: “حياتنا اللي بتروح، أحلامنا اللي بتتهد، دمنا اللى بيسيل مش كفاية.. طب ايه احنا ليه أصلًا ما توأدونا وتدفنونا أول ما نتولد ونرتاح ونريحكم”.

غابت ابتسامتها الساخرة، وغادرت وفيضان من الدموع بدأ في الانهمار.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة