ثقافة السكن في مصر واختفاء البراح

 

بيت جدي القديم بأحد قرى القليوبية، كان يتكون من عشر غرف بالإضافة لمساحة كبيرة للحيوانات. المندرة هي الغرفة الرئيسية لتجمع العائلة واستقبال الضيوف، تليها غرفة الخبيز التي تعد مصدر الدفيء بالشتاء، وغرف أخرى للنساء، والرجال، وغرف لتخزين المحاصيل. كان بيت جدي لا يختلف عن أغلب بيوت القرى المصرية، فالمساحة الكبيرة سمة أساسية، وتقترب تلك البيوت من مثيلتها بالمناطق الصحراوية مع اختلاف التكوين، فالبيت السيناوي مثلا كان يضم ” الدوار ” وهي غرفة كبيرة لاستقبال الضيوف، وتقبع غرفة الحيوانات بالخلف، وكانت لأغلب البيوت مدخلين الأول للبشر، والثاني للحيوانات.

أما مساكن المدن فكانت تختلف من حيث التكوين، وعدم وجود حيوانات، لكنها تحتفظ بالمساحة الكبيرة نسبيا، فالغرف الأساسية هي ” الجلوس ” حيث تجتمع الأسرة، والصالة الكبيرة، وغرف نوم بعيدة عن مكان استقبال الضيوف، وكانت أغلب البيوت تحتوي علي غرفة ” المسافرين ” وتخصص لاستقبال الضيوف للمبيت. كانت ثقافة البراح تحكم البيوت المصرية، الأسقف المرتفعة، والمناور الكبيرة التي تدفع الهواء للمنازل، لكن تلك الثقافة كادت تندثر إلا من بقايا المساكن القديمة ببعض المناطق مثل وسط القاهرة، والمدن القديمة بالمحافظات، أما أغلب البيوت فصارت صغيرة المساحة بأسقف منخفضة، وتقلصت المساحة الخاصة لأقصى درجة، فأين ذهب البراح؟

ثقافة السكن بأي بلد، ترتبط بتطور المجتمع وعلاقته بالاقتصاد، والبيئة، والمناخ، وغيرها من عوامل، وتلعب السياسة الرسمية دور كبير في نشر ثقافة معينة للسكن، ففي مصر الملكية احتفظت البيوت بالمساحة الكبيرة، وتميزت بإضافة عناصر جمالية من ثقافات مختلفة، فتبنى المعماريون النمط الأوروبي للمدن، بجانب إحياء المعمار التاريخي الفرعوني، والقبطي، والإسلامي. أما مصر الجمهورية من بعد 1952. فقد عملت علي نشر نماذج مختلفة تحت شعارات ثورية، فقد اهتمت بحجم البناء بالأساس، وزيادة عدد الوحدات السكنية، وأخذت بالنموذج الصيني أو ما عرف وقتها بعلب الكبريت، حيث كانت العمارات تشبه علبة الكبريت، حيث تأوي أكبر عدد من البشر في أقل حيز مكاني، وارتبط ذلك بالطبع بإنشاء عدد كبير من المصانع الضخمة، والحاجة لتوفير مساكن لأعداد كبيرة من العمال بالقرب من المصانع، فكانت أغلب المساكن ترتبط بصناعة معينة مثل مساكن الحديد والصلب بحلوان، ومساكن أسكو بشبرا الخيمة، ولأن المساكن غالبا لا تكفي كل العمال، فنشأت المساكن الخاصة في محيطها، بيوت بمساحات صغيرة، وعلي أطرافها بدأت العشوائيات.

ظل النموذج الصيني سائدا حتي السبعينات تقريبا، ليبدأ نموذج جديد وهو الأبراج السكنية، تلك العمارات الشاهقة التي تحوي مئات الوحدات السكنية، بمساحات أكبر نسبيا، وبأماكن مميزة، خصصت تلك الأبراج التي انتشرت بالمدن للشريحة العليا من الطبقة الوسطى التي تبحث عن قدر من الرفاهية، وعلي الأطراف بدأ الأغنياء بالرحيل من قلب المدن، وبناء تجمعات خاصة بهم في عملية إقصاء اجتماعي إرادي، حيث يعيشون علي أطراف المدن في ظل منظومة خدمية خاصة خارج منظومة المجتمع، فلهم مدارسهم، ومستشفياتهم، وحتي جامعاتهم الخاصة.

أما الفقراء، فقد زاد وضعهم سوء، فالمتاح وحدات بمساحات صغيرة جدا لا تزد عن 70 م. وبتكلفة تفوق قدرات أغلبهم، وبشروط صعبة أيضًا، وأصبحت العشوائيات تأوي ملايين في ظل مستوى خدمات ضعيف جدا، ومساحات ضيقة، وأيضًا تكلفة ليست قليلة.

نتيجة غياب رؤية عمرانية موحدة لمصر، وللتغير المستمر في سياسة الإسكان الرسمي، تشوهت ثقافة السكن في مصر، اقتصر البراح علي الأغنياء، وساد القبح أغلب المدن، وكادت تختفي المساحات الخضراء من المدن، وحتى الريف فقد تخلى عن البيوت القديمة الواسعة، وحلت محلها المساكن التي تشبه مساكن المدن، فكادت تختفي روح الريف المصري لصالح زحام المدن المشوهة.

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة