نهاية ديسمبر 2022، سحبت فرنسا آخر جنودها من دولة أفريقيا الوسطى، وفي الشهر نفسه من 2023 سحبت آخر جندي فرنسي في النيجر، وما بين وقبل التاريخين، تقلبت منطقة الساحل الإفريقي في تحولات عدة، عززتها انقلابات عسكرية، صعّدت قوى تسعى لتحالفات مختلفة عن سوابقها الموالية للغرب، مدعومة بتزايد النفوذ الروسي وتوسع ذراعها العسكرية “فاجنر”، على حساب المستعمر والحليف التقليدي الغربي.
وإلى جانب تردي النفوذ الغربي البادي في أقوى مظاهره بالانسحابات الفرنسية الأخيرة من إفريقيا، ليس أدل على التغير في دول الساحل وغرب إفريقيا من فشل تكتل “إيكواس” -المتهم بموالاة الغرب- الذي فشل في إعادة الرئيس محمد بازوم -ذي الأصول الليبية المقرب من باريس- في النيجر، حتى مع التهديد بالتدخل العسكري، في مقابل منفذي انقلاب يوليو 2023 الذي أرضخوا في النهاية التكتل ومعه فرنسا التي أعلنت انسحابها أخيرًا.
انهيار تحالفات الغرب
وعلى العكس، فقد شكلت الضغوط المستمرة على دول حزام الانقلابات لا سيما النيجر، تصعيدًا من دول حزام الانقلابات الإفريقية، فأعلنت بوركينا فاسو والنيجر الخروج من مجموعة الساحل الخمس واللحاق بمالي التي سبقتهم إلى الانسحاب في مايو 2022.

يشكل انسحاب بوركينا فاسو والنيجر وقبلهما مالي، من مجموعة الساحل الإفريقي، نهاية هذه المنظمة الإقليمية، التي تأسست قبل تسع سنوات، وضمت: موريتانيا، وتشاد، وبوركينا فاسو، والنيجر ومالي، برغبة فرنسية ولهدف مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية بمنطقة الساحل الإفريقي.
“المجموعة لم تحقق أهدافها بعد مرور حوالي 9 سنوات على تأسيسها”؛ هكذا أعلنت بوركينا فاسو والنيجر، في بيان مشترك، انسحابهما، من المجموعة، وقد حملاها “إحباط الطموحات المشروعة لجعل الساحل منطقة أمن وتنمية، يتم إحباطها وذلك بسبب العبء المؤسسي”.
وشدد البلدان على أن “المجموعة لا يمكن أن تخدم المصالح الأجنبية على حساب مصالح شعوب الساحل، ناهيك عن قبول إملاءات أي قوة مهما كانت باسم شراكة مضللة وطفولية تنكر حق سيادة شعوبنا ودولنا، ولذلك، فقد تحملت بوركينا فاسو والنيجر بكل وضوح المسؤولية التاريخية بالانسحاب من هذه المنظمة”.
مجموعة الساحل.. 3 انسحابات كافية
وهو ما يعلق عليه الباحث السياسي البوركيني، ألفا كوندي، بأن “مجموعة الساحل الخمس انتهت بإعلان النيجر وبوركينا فاسو المشترك، بعد أن كانت تشهد موتًا سريريًا بسبب انسحاب مالي، ذلك الانسحاب الذي عطل أي حضور لها على كامل منطقة الساحل”.
وحتى وإن كانت موريتانيا تتمسك بالمجموعة التي ترأسها حاليًا، يبقى أن هذا التمسك لا يلغي حقيقة أن هذه المجموعة باتت من الماضي، وفق ما يعتقده “كوندي”، الذي صرح لـ”اندبندنت عربية“، بأن “نواكشوط ليس لديها أي أدوات لمنع الانهيار التام لمجموعة الخمس بعد انسحاب واغادوغو ونيامي وباماكو، وهي عواصم تشكل غالبية داخل المجموعة”.

وذد اعترف الناطق الرسمي باسم الحكومة الموريتانية، محمد عالي سيدي محمد، بهذا الانهيار في مؤتمر صحفي، فقال إن “المجموعة لم تعد موجودة بعد انسحاب ثلاث من دولها”، مضيفًا أنه “يمكن القول إن مجموعة الخمس في الساحل لم تعد موجودة على النحو الذي كانت عليه”.
وتنص المادة 20 من الاتفاقية المؤسسة للمجموعة، على إمكانية حلها بطلب من 3 أعضاء، أو من العضوين المتبقيين وهما في هذه الحالة موريتانيا وتشاد.
ويقول الباحث الموريتاني المتخصص في الشؤون الإفريقية، أحمد ولد محمد المصطفى، إن شرارة الشمعة الأخيرة لمجموعة الساحل اندلعت بـ”رفض تشاد والنيجر تسليم الرئاسة الدورية للمجموعة لدولة مالي عند استحقاقها لذلك قبل أكثر من سنة”، ويفسر بذلك انسحاب مالي، قبل أن تنسحب معها بوركينا فاسو والنيجر، لتكون النتيجة في النهاية هي تفكك هذه الهيئة الإقليمية.
ويتجاوز “المصطفى” ذلك إلى الاعتقاد بأن تفكك مجموعة الساحل “سيفتح الباب أمام خيارات أخرى، ظهر أحدها مبكرًا بإعلان التحالف بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، والذي قد يظهر غيره خلال الفترات المقبلة”.
الساحل إلى تحالفات جديدة.. ميثاق ليبتاكو-جورمافي
أقرت مالي وبوركينا فاسو والنيجر في 16 سبتمبر 2023 إقامة حلف دفاعي أمني أطلقت عليه “ميثاق ليبتاكو-غورما”، إشارة إلى المنطقة الحدودية التي تربط البلدان الثلاثة، والمرجح أن يتضاعف عدد دوله الأعضاء خلال الفترة المقبلة.
كانت تلك رسالة واضحة إلى كل من “إيكواس” -التحالف الموالي للغرب الذي لا يزال صامدًا رغم غياب النفوذ بإصرار دول حزام الانقلابات على الاستغناء عن الغرب وعلى رأسه فرنسا، خاصة مع دخول موسكو كحليف جديد على خط المواجهة يسعى إلى تحجيم الدور الفرنسي في المنطقة.
وقد نص ميثاق ليبتاكو-جورمافي على نقاط أساسية، هي:
ينص الميثاق في ديباجته على الاستناد إلى الشرعية الدولية والإقليمية، وبالخصوص إلى ميثاق الأمم المتحدة ودستور الاتحاد الإفريقي واتفاقية الإيكواس.
تنص المادة 2 من الميثاق على أن الغرض منه هو إقامة منظومة دفاع مشتركة بين البلدان المتحالفة.
تنص المادة 3 من الميثاق على أن الآليات المؤسسية المنبثقة عن الحلف ستُحدَّد لاحقًا.
تنص المادة 4 من الميثاق على التزام الدول الثلاث محاربة كل أشكال الإرهاب والجريمة المنظمة في المنطقة التي يغطيها التحالف.
تلتزم الدول الموقعة على الميثاق في المادة 5 بالمواجهة الاستباقية لكل أنواع التمرد المسلح أو الخروج العنيف على الدولة، مع تحبيذ الخيارات السلمية واستخدام القوة عند الاقتضاء.
تنص المادة 6 من الميثاق على أن كل استهداف لسيادة وأمن أحد البلدان الثلاثة هو اعتداء على جميعها، بما يفرض اللجوء إلى كل الأساليب بما فيها الحرب للدفاع عن البلد الذي يتعرض للاعتداء.
وتنص المادة 11 من الميثاق على أن الحلف مفتوح لكل دولة تشترك مع البلدان الثلاث في نفس الحقائق الجغرافية والسياسية والاجتماعية الثقافية وتقبل أهداف الحلف.
ويقول العقيد عاصمي غويتا، رئيس السلطة العسكرية الانتقالية في مالي، إن مشروع الحلف هدفه الرئيسي بناء “خطة دفاع مشترك وتعاون متبادل لصالح السكان”.

الساحل.. محاولة التحرر والسيطرة
في عام 2017، شهدت هذه الدول بداية تعاونها من خلال إنشاء قوة مشتركة لحماية والدفاع عن مجالاتها الإقليمية في مواجهة التحديات الإرهابية. ورغم ذلك، تم تعليق المشروع بعد قرار مجموعة دول الساحل الخمس إنشاء قوات تدخل مشتركة بدعم أوروبي وأمريكي، لكنها أيضًا لم تحقق النجاح المتوقع.
وفي يوليو 2017، قدمت فرنسا وألمانيا فكرة إنشاء “تحالف الساحل”، بهدف تنسيق الجهود الدولية لدعم دول الساحل الخمس في استراتيجياتها الأمنية والتنموية. وضم هذا التحالف 26 عضوًا، بينهم فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية وغيرهم. وتمت الموافقة على ألف مشروع بميزانية تبلغ 22 مليار دولار لتحسين مجالات التربية وتشغيل الشباب والزراعة والطاقة والأمن الداخلي.
ومع ذلك، لم يحقق هذا المشروع الطموح النتائج المأمولة، حيث توقف عمله تقريبًا بسبب الانقلابات العسكرية في مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر.
وعلى الرغم من استخدام مصطلح “التحالف” في الميثاق الجديد، إلا أن الاتفاق الثلاثي الأخير يختلف في الأهداف والسياسات عن فكرة “تحالف الساحل” التي كانت في أصلها فكرة فرنسية تم تسويقها دوليًا على نطاق واسع
التحديات التي تواجه التحالف الجديد
يعتبر الخبير في الشؤون الأمنية بمنطقة الساحل، أديب ساني، أن التحالف الأمني الجديد بين الدول الثلاث ليس لديه أي مقومات تسمح له بتحقيق النجاح. ويصعب على هذا التحالف تحقيق أي نتائج ملموسة، خاصة في ظل الضغوط التي تواجهها الدول الثلاث من تنامي نشاط الجماعات الإرهابية.
وفي مقابلة مع “دوتشه فيله” الألمانية، أشار ساني إلى غياب أي معايير تمكن التحالف الجديد من تقديم إسهامات كبيرة في مواجهة التهديدات المتزايدة من الجماعات المتطرفة.
ويؤكد ساني أن حكومات الدول الثلاث تواجه تحديات متعددة على الصعيدين الأمني والاقتصادي، ما يجعل من صعوبة تحقيق نتائج إيجابية أمرًا واردًا.
مسلحو الشمال يستأنفون الحرب
وفي سياق ذي صلة، أصدرت تنسيقية حركة أزواد، التي تضم أهم الجماعات المسلحة شمال مالي، بيانًا يعلن استئناف الحرب مع القوات الحكومية، مع تصاعد العمليات الإرهابية في مناطق متفرقة من المنطقة.
ويحمل الصحفي الخبير في شؤون غرب إفريقيا، برام بوستهوموس، الحكومات التي تولت السلطة بعد موجة الانقلابات الأخيرة، مسؤولية تردي الوضع الأمني في منطقة الساحل، معبرًا عن قلقه إزاء تصاعد نفوذ الجماعات المعادية للحكومات والمسلحين غير النظاميين في المناطق التي تخضع لسيطرتها.
كما يواجه التحالف الجديد تحديات إضافية؛ فمع زيادة معاداة الدول الانقلابية الثلاث للغرب بشكل واضح وخاصة فرنسا، أنهت النيجر سريان الاتفاقيات الأمنية مع دول غربية ووجهت بوصلتها صوب روسيا. وقالت وزارة الشؤون الخارجية في النيجر إن الحكومة قررت “سحب الامتيازات والحصانات” الممنوحة بموجب اتفاق الشراكة العسكرية مع الاتحاد الأوروبي.
الساحل.. من فرنسا إلى روسيا
وانسحب الجيش الفرنسي من مالي وكذلك فعل في بوركينا فاسو ثم مؤخرًا في النيجر. ومن المتوقع إعاقة الغرب وفرنسا للتوسع المحتمل للتحالف الجديد في الساحل، من خلال ممارسة المزيد من الضغوط على دول المنطقة، بما في ذلك حرمانها من الشرعية الدولية، واستمرار الرفض الدولي للانقلاب الأخير في النيجر، وتعليق المساعدات الأمنية والاقتصادية لبعض دول حزام الانقلابات.
ولا يبدو أن هذا الحلف قادر على النجاح إلا في حال حصوله على دعم إقليمي ودولي في إطار استراتيجية محاربة الإرهاب الراديكالي العنيف. ومن المقرر أن يعتمد في هذا الصدد على الدعم الروسي المتمثل في “فاجنر”، وهو ما يعني توسيع دائرة النفوذ الروسي في الساحل، بما يدعم فكرة إعادة صياغة جيوسياسية جديدة للتحالفات الإقليمية والدولية في منطقة الساحل.
وكان الرئيس المالي عاصمي غويتا استقبل في 15 سبتمبر الماضي، في جلسة مغلقة، وزير الدفاع النيجري المعيَّن من السلطات الانقلابية ونائب وزير الدفاع الروسي. ما نظرت إليه الخبراء بأنه تكريس للخطوات الأولى للتعاون العسكري بين روسيا والنيجر في سياق منظومة التحالف الساحلية الجديدة، الذي لا يزال ينتظر فرص نجاحه التي ستختبرها التحديات الموروثة والجديدة.
