“زي الحكـ ومة”.. المصريون يواجهون الفلس بالسلف

“جوزي عامل باليومية.. معندناش دخل ثابت يكفي مصاريف بيتنا، وده اللي خلاني أروح لطريق القروض مع الشركات دي.. أخد القرض اسد شوية من طلبات البيت وأرجع أخد قرض أسد الأقساط اللي عليا لحد ما اتحول الموضوع لكارثة وتهديد بالسجن.. عارفة إنها قفلت معايا وإني مصيري قريب السجن بس هعمل ايه هو أنا أحسن من الحكومة”.

مثل الحكومة، تعتمد “صابرين” وهي أم لثلاثة أطفال تعمل في وزارة الصحة، على الاستدانة لسداد ديون أخرى. فالإيرادات تغطي المصروفات دون دين، ولا سبيل لسداد عجز الموازنة إلا بالاستدانة، هكذا قال الوزير محمد معيط قبل 4 سنوات، وتقول “صابرين” متحدثة لـ “فكر تاني” عن أزمتها وسياسة تعاملها مع ما تحصل عليه من أجر في مقابل ما عليها من أقساط وديون، وإن كانت مخاطر هذه السياسة قد تصل بها إلى السجن مع التعثر في سداد فوائد دينها.

شركات القروض.. إجراءات ميسرة وفوائد مرتفعة

“فيه بنوك -شركات مقرضة- كثيرة كلها بتدي القروض بنفس الطريقة”؛ تقول صابرين، التي تكشف عن تفاصيل بعض هذه الإجراءات للحصول على قروض تلك الشركات التي تعمل تحت غطاء تمويل المشروعات متناهية الصغر، فتضيف: “لازم نكون مجموعة من خمسة كل واحدة فينا بتضمن التانية، عشان لو اتأخرت واحدة الباقي يتحمل باقي الأقساط، ولازم يكون واحدة مننا على الأقل موظفة واتنين على الأقل قرايب”.

تجري الشركة المقرضة استعلامًا عن الضامنين بشكل صوري في محال سكنهم لإثبات أن هناك مشروع قائم بالفعل، سيصرف القرض بضمانه
تجري الشركة المقرضة استعلامًا عن الضامنين بشكل صوري في محال سكنهم لإثبات أن هناك مشروع قائم بالفعل، سيصرف القرض بضمانه

ينقسم القرض الذي تحصل عليه المجموعة إلى نوعين؛ إما قرض بقسط أسبوعي ـ8 آلاف جنيه، تسدد على أقساط قيمة الواحد منها 400 جنيه، أو قرض بقسط شهري يبدأ من 10 آلاف جنيه، بأقساط شهرية يبلغ الواحد منها 1250 جنيهًا.

وتجري الشركة المقرضة استعلامًا عن الضامنين بشكل صوري في محال سكنهم لإثبات أن هناك مشروع قائم بالفعل، سيصرف القرض بضمانه.

اقرأ أيضًا: رغم الضرائب والقروض.. كيف التهمت فوائد الديون 60% من مصروفات الموازنة؟

“في الغالب بنعرف نخلص من الإجراء ده بإكرامية (رشوة) للموظف/ة المسؤول عن تيسير القرض، والأوراق المطلوبة ما بتتجاوزش صورة البطاقة وإيصال مرافق حديث، وبيتم السداد على فترة من 6 شهور لسنة”؛ تقول “صابرين”.

وتضيف: “بعد كده بنستلم احنا الخمسة الفلوس مخصوم منها قسطين مقدم، ونمضي كلنا على شيكات على بياض أو إيصال أمانة باسم شركة أخرى، بنستلمه مرة تانية مع آخر سداد قسط في القرض.. ما بنحسش باللي عملناه في نفسنا غير لما بنوصل للتهديد بالسجن والفضايح اللي بتحصل من الشركة لو تأخرنا على الأقساط بس هنعمل ايه ما باليد حيلة”.

5 آلاف غارم/ة سنويًا.. مآلات القروض الصورية

في مارس الماضي، كشف المستشار محمد القماري المستشار القانوني لوزيرة التضامن الاجتماعي ورئيس اللجنة الوطنية للغارمين والغارمات، أن عدد الغارمين/ات في مصر تجاوز الظاهرة بأعداد تصل إلى نحو 5 آلاف غارم/غارمة سنويًا، بينما أشار إلى جهود تُبذل في هذا الملف بتوجيهات رئاسية للحد من تفاقمه.

أرشيفية
أرشيفية

وأضاف “القماري” أنه تم إعداد خطة إعلامية للتعامل مع ملف الغارمين والتوعية بخطورته تحت اسم “على بياض”، لافتًا إلى موافقة رئيس الجمهورية عليها، ضمن استراتيجية اللجنة الوطنية للغارمين والغارمات، تعتمد على توفير الحماية الاجتماعية والتمكين الاقتصادي مع الاهتمام بالتوجيه المجتمعي، وتحديث قاعدة البيانات دوريًا وتوفير برامج توعية مع تعديل السلوك الاستهلاكي.

بينما أكد الدكتور صلاح هاشم، مستشار وزيرة التضامن الاجتماعي للسياسات الاجتماعية، أنه لا يمكن أن ننجح في الحد من الغرم إلا إذا كانت لدينا استراتيجية للحد من الفقر، مشيرًا إلى أنه كلما ارتفعت معدلات الفقر يترتب عليها قضايا الغُرم.

تسييل التقسيط.. التحايل على الأوضاع الاقتصادية

على مدى الأعوام الثمانية الماضية، تواجه مصر أزمة اقتصادية عنيفة، وارتفاعات كبيرة في معدل التضخم مع نقص حاد بالعملة الأجنبية، إضافة إلى ارتفاع مستويات الاقتراض، التي أدت بأسعار السلع الاستهلاكية في البلاد إلى مستويات قياسية من الارتفاعات.

ومع هذا الوضع زادت الأعباء على الأسر محدودة ومتوسطة الدخل في مصر، والتي زاد عدد المستجيرين منها إلى عمليات شراء الاحتياجات بالتقسيط، مع تنامي شركات البيع بالتقسيط وانتشارها في السنوات الأخيرة.

“عطيات” العاملة في وزارة التربية والتعليم واحدة من هؤلاء الذين جذبتهم الفكرة للتحايل على ظروفها المعيشية. تقول: “معارف اقترحوا عليا إني أشتري أجهزة إلكترونية ومنزلية من شركات البيع بالتقسيط وبعدين أرجع أبيع المنتج مرة تانية لأي محل يكون هو متعاون معاه شرط عدم فتح الجهاز -يفضل بالكرتونة- بسعر أقل أسد بيه أزمتي المالية وبعد كده أسد أنا الأقساط عادي”.

حصول “عطيات” على المنتج بالتقسيط لم يكن بالأمر العسير، فالإجراءات لا تتجاوز استعلامًا عن محل السكن، ومفردات مرتب، وبطاقة رقم قومي وضامن، اشترت بعدها “شاشة تلفزيون” ثم حولت المنتج إلى سيولة مالية ببيع الجهاز لمحل آخر بسعر أقل بكثير من القيمة الحقيقية للمنتج.

بشكل دوري تبادر الدولة بمبادرات للإفراج عن الغارمين والغارمات
بشكل دوري تبادر الدولة بمبادرات للإفراج عن الغارمين والغارمات

السجن.. تكلفة باهظة لتدبير الدين

هكذا اعتمدت “عطيات” طريقة باهظة التكلفة لسداد ديونها المالية، إلا أن الأمر تفاقم وبات كابوسًا يطاردها. “دخلت في دوامة أقساط وفوائد لا تنتهي.. في وقت مصاريف المعيشة بقت أكبر من دخلي”.

“عطيات” أرملة في عمر 45 سنة لديها من الأطفال 3 في مراحل دراسية مختلفة، ليس لها مصدر دخل إلا وظيفتها  براتب 3200 جنيه شهريًا. وهو ما أوصلها إلى التعسر في سداد أقساط المنتج الذي اشترته سلفًا لتسييله -إعادة بيعه- وسداد ديونها، حتى قدمت الشركة الأوراق إلى المحكمة بمبلغ 4 آلاف جنيه قيمة آخر قسطين٬ ولم يتم إبلاغها حتى علمت بالأمر أثناء الكشف على بطاقتها في أحد الكمائن الشرطية بمحافظة الدقهلية.

صدر ضد “عطيات” حكمًا غيابيًا بالحبس بـ6 أشهر وغرامة 20 ألف جنيه، وسددت مبلغ كفالة لتنجو من الحبس مؤقتًا، حتى سددت آخر قسطين للشركة عليها، وتحملت أتعاب محامي الشركة ليوافقوا على التنازل ومنحي مخالصة مالية.

اقرأ أيضًا: “بنحوش خضار بدل الفلوس”.. أزمة الأسعار تُغيب “طبق السلطة” عن موائد المصريين

تأثيرات الأزمة الاقتصادية على الطبقة المتوسطة

في أكتوبر الماضي، أشار تقرير صادر عن مؤسسة “فيتش سوليوشنز”، إلى أن الأسر التي كانت تتمتع بدخل متاح للاستهلاك يتجاوز 5000 دولار سنويًا، مثلت 39% من إجمالي عدد الأسر في مصر في 2021، ما يجعلها تقع في مكانة الطبقة الوسطى، وانخفضت هذه النسبة إلى نحو 12% في 2023.

قسمت “فيتش سوليوشنز” الأسر بحسب الدخل المتاح للاستهلاك سنويًا، إلى أربع طبقات رئيسية؛ تلك التي ينخفض دخلها السنوي عن 5000 دولار، والتي يزيد عن 5000 دولار، والطبقة الثالثة هي التي يزيد دخلها عن نحو 10 آلاف دولار، ثم الطبقة العليا التي يزيد دخلها عن 50 ألف دولار.

ووفق التقرير، كانت الأسر التي يزيد دخلها عما يساوي 5000 دولار ركيزة أساسية للطبقة الوسطى، حيث كانت تمثل ما يتراوح بين 33.5 و39% من إجمالي عدد الأسر في الفترة بين 2020و2022، بينما كانت الطبقة الأعلى، أي التي يزيد دخلها عن 10 آلاف دولار تتراوح بين 4.5 و5.5% من الأسر، والطبقة التي يزيد دخلها عن 50 ألف دولار  موجودة بنسب هامشية.

لكن سرعان ما انهارت الطبقة الوسطى، بالحسابات الدولارية، لتتقلص نسبة من يتجاوز دخلهم 5000 دولار إلى 12.1% في 2023، كما تراجعت نسبة الأسر التي يتجاوز دخلها 10 آلاف دولار  إلى 1.2% مقابل 4.5% 2022.

وأكدت تقديرات فيتش أن حجم ما تنفقه الأسر المصرية، مقوّم بالدولار، انخفض خلال الفترة الأخيرة من 337.7 مليار دولار في 2021 إلى 262.3 مليار دولار في 2023.

الأزمة وثقافة الاستدانة

يقول الدكتور وليد مدبولي، الخبير الاقتصادي: “أصل المشكلة هو ضعف موارد الأسر. إذ لم يعد هناك مورد كافي يلبي احتياجات الأسرة اليومية على مدار العام. وبالتالي، أصبح هناك ضيق مالي كبير وبدأت الأسر تتجه للحلول الأخرى لأنها لم تجد حل من المسؤولين المتعثرين أيضًا، رغم الجهود المبذولة. ومن ضمن هذه الحلول للأسر ذات الثقافة المحدودة هو الاقتراض من شركات مجهولة، فظهرت كيانات تعمل على التربح من الأسر الفقيرة. وهي كيانات تمنح قروض ذات فائدة عالية جدًا يكون صعب دفعها على مدار مدة القرض”.

ويضيف مدبولي، في تصريحاته لـ”فكر تاني”: “هذه القروض يتم صرفها في تلبية الاحتياجات اليومية وليس لتنمية مشروعات مثالًا. وبالتالي، هذه الكيانات زادت من الأزمة، وعرقلتها، وهذا له ضرر أكبر حتى على الاقتصاد القومي للبلد، لأن الأسر لا تلجأ للبنوك الرسمية ذات الفائدة المعقولة”، لافتًا إلى أن عقود هذه القروض مجحفة لا تتحملها حتى الأسر الغنية.

ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن هذه الكيانات وإن كانت قانونية على الورق فهي تلعب دور الوسيط أو السمسار بين البنك والعميل. ويكون ذلك بإعداد ملف للأسرة يُقدم للبنك بمبرر أن هناك زبائن جاهزة للاقتراض حتى ولو بفائدة 20% من البنك، يضيف الوسيط عليها فائدة مضاعفة ربحًا له، وهكذا يتفاقم الأمر، والمخاطرة التي تقبلها الأسر في ظل احتياجها.

يضيف مدبولي أن الأزمة سببها من الأساس منح مثل هذه الكيانات تصاريح عمل، هذا خطأ اجتماعي واقتصادي فادح، لأن هذه شركات على الورق فقط، دون أصول، تربح من أزمات المصريين.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة