تعمقت صداقتي بنوال زوجة حسان وكأنها تعويض إلهي عن علاقتي بشقيقتي. نوال التي يناديها الجميع بأم فادي تفاجئني كل يوم بمدى الرضا والتسامح والتفهم وبدعمها الذي لم ألقاه من شقيقتي الحقيقية حتى ساهمت في تغيير الكثير من نظرتي في الحياة. لعل اصطحابها لي لزيارة الأصدقاء وحضور الأفراح البدوية فتح باباً ينظر منه وعيي على واقع المرأة البدوية وتعايشها داخل المجتمع القبلي الذي يزخر بالأصالة والإخاء ويتطلب احترام عاداته وتقاليده.
عند ذكر المجتمع البدوي يتخيل الناس قمع النساء وإحاطتهن بالأعراف، ولكن على النقيض رأيت المجتمع البدوي كأي مجتمع آخر فيه كل شيء ونقيضه ففي النهاية هو مجتمع بشري يحدد فيه كل فرد ماهيته. في هذا المجتمع العريق رأيت نساء في غاية الروعة من الذكاء والمثابرة ولمعظمهن رؤية ثاقبة في البشر وأمور الحياة، قد يكن بسيطات متواضعات الثقافة ولكنهن على دراية واضحة بكل ما يجري حولهن. هناك الفتيات الصغيرات اللواتي تعلمن كسب الرزق منذ سن صغير فبدأن ببيع المشغولات اليدوية البسيطة كالحظاظات حتى كبرن ليمارسن التجارة حتى ولو من المنزل وهناك من رأت أن العلم سيزيد من حيزها في المجتمع.
هناك العجوز البدوية التي تقطن أعالي الجبال ولكنها أسست لنفسها كياناً منفصلاً عما يجري حتى صار الجميع يقصدها للاستفادة من تجربتها وهناك من قررت أن تكون أول دليل بدوي بعد تجاوزها منتصف عقدها الرابع وهناك الشابة اليافعة التي قررت دعم الفتيات.
في النهاية تتغير الأزمنة ويتغير البشر ولكن يظل الإنسان يستمد قيمه من هويته.
اقرأ أيضًا:العاملات في المنازل.. مهمشات خارج ترسانة القوانين المصرية
المرأة البدوية في المجال العام
قررت الكثيرات التغيير من شخصياتهن بالعمل أو بالعلم ولكن لحسن الحظ هناك من قررت تغيير واقعها مع الكثير من المحاولات لتغيير واقع الباقين فكانت أول فتاة بدوية تعمل كطبيبة أسنان في دهب. دكتورة اسراء ناصر ابنة الشيخ ناصر أحد عواقل قبيلة المزينة الذي يعتبر من أكثر الناس حرصًا على المناداة بتعليم الأجيال الجديدة ولاسيما الفتيات. تبلغ الدكتورة اسراء من العمر 26 عاماً وقد تخرجت في عام 2019 بعد مجابهة العقبات، ففي النهاية دهب قرية ذات إمكانيات متواضعة مقارنة بطموحها الذي لم ينطفئ بعد. التحقت اسراء بمدرسة أزهرية مما حصر اختياراتها عند الالتحاق بالجامعة فكان طموحها منذ البداية أن تصبح طبيبة أسنان ولكنها اضطرت إلى الالتحاق بكلية الهندسة في البداية فلم تعترض على عطية الله لها بل ودرست الهندسة لبضعة أشهر حتى استطاعت التسجيل في كلية طب الأسنان بشكل قدري. درست اسراء في جامعة سيناء بالعريش. كان سفراً طويلاً ومسافة أبعد عن منزلها مما أثار حفيظة بعض الرجال من قبيلتها حيث رأوا أن مصلحة الفتاة ليست في الدراسة والاغتراب بل في الاستقرار بالمنزل. تقول اسراء أن هذا النوع من العقبات كان يزعجها أحياناً وقد تبكي أحياناً أخرى ولكن ثقة والديها وتشجيعهما لها كان ما دفعها للاستمرار فهي لا تنسى كل مرة قالت لها والدتها " ذاكرى كويس عشان تشرفينى". ترى اسراء أن حفيظة الرجال تجاه تعليم وعمل المرأة قد يكون بدافع الخوف على ذويهم من النساء ولكنه على الأغلب الغلاف الإيجابي للغيرة من نجاح المرأة الذى غذته الذكورية لعقود طويلة فهناك الكثير من الرجال الذين لا يحبذون تفوق المرأة عليهم.
بينما كانت تأخذ اسراء خطوات واسعة نحو حلمها كان هناك أخريات يتحررن من الكثير من قيود العادات والتقاليد فهناك أم ياسر التى تعيش فى إحدى أودية أبو زنيمة التى قررت أن تكون أول امرأة تدل السياح فى الجبال -دليل بدوي- وعندما علم شيوخ القبائل بهذا الأمر فقد استنكروا أن تخرج امرأة وسط السياح الأجانب لاصطحابهم إلى الصحراء بينما كان رأيها أنها تفضل اصطحاب السائحات دون الرجال إلا إذا كان الرجال من الصحافة ولكنها لا تستطيع أن تكون بمفردها وسطهم على أى حال كما ترى أن العادات والتقاليد البدوية لا تحرم أحد من القيام بمهام يبرع بها. بفضل إصرار أم ياسر وشغفها بالجبال تقبلت قبيلتها عملها كمرشدة سياحية أو كدليل صحراء. كانت أم ياسر تبلغ من العمر 47 عاماً عند قيامها بأولى رحلاتها كدليل صحراء عام 2019. على غرار فتيات المشغولات البدوية، فكانت تخرج أم ياسر باستمرار لرعي أغنامها وسط الأودية مما أكسبها خبرة ومهارة فى التجول بينها فكان ما فكرت به العمل كمرشدة سياحية لإعانة أسرتها مادياً. تميزت أم ياسر بملابسها البدوية الأصيلة وتمسكها بهويتها إلا أن هذا لم يكن عقبة لها فى تعلم اللغات الأجنبية للتواصل مع من دون جنسية عربية.
المرأة البدوية فى المجال الخاص
يتميز المنزل فى الثقافة البدوية بأنه مساحة رحبة للنساء. فالمنزل والدواب تحت تصرف المرأة دون التضييق عليها فيهم. هناك ثقافة المقعد العام الذي يكون مكان ملاقاة الرجال لبعضهم وهو خارج المنزل ولكل شارع/حي مقعده وذلك لترك مساحة حيوية للنساء في المنزل. على صعيد أكثر عمومية فخروج النساء إلى الأودية أو الشواطىء أمر محبب لقلوبهن فيذهبن كبضعة أصدقاء إلى الأودية شتاءاً وإلى الشواطىء النائية صيفاً للترفيه وتغيير أجواء المنزل وقد يقضين بضعة أيام هناك. ما لمسته فى البدويات هو حبهن للحياة وشغفهن بالحديث والتعرف على الغير، هن نساء يتميزن بالجود وحب الخير فلا تسعى إحداهن للأذى أو مضايقة أحد. أصدقائي البدويات على رغم اختلاف خلفياتهن الثقافية إلا أن كلهن يقدرن الحياة ومظاهرها فيرحبن بالضيوف وحضور الأفراح والضحك والفكاهة وكلهن على استعداد دائماً لدعم من يستحق فلا يتركن جارتهن بمفردها بل يحرصن على استمرار السؤال والزيارة والاستضافة ومشاركة الطعام. كثيراً ما كنت أذهب للتسوق مع أم فادي وهى منتقبة وكنت أسير بجوارها بملابسى القصيرة وعلى العكس كانت تستاء من استغراب الناس لنا، دائماً تقول " انا بنى ادمة وسمر بنى ادمة مش من المريخ هى عشان الناس تستغرب اننا اصحاب". لولا أم فادي ما كنت تعرفت على العوالم الرائعة وراء حياة البدويات وما كنت لأدرى القيم الإنسانية الرائعة التى تجعل القبيلة متماسكة كما جعلتنى أنا أكثر نضجاً وتفهماً.
فى أعالى جبال سانت كاترين تقطن أم السعد في حي الزواتين وهناك تقيم فى حديقتها وتعيش بطابع قديم فهي تهتم بحديقتها وبإعداد كل متطلباتها بنفسها. رغم أسلوب حياتها البدائي إلا أنها ألهمت الكثير فعند زيارتك لسانت كاترين لابد وأن يصادفك اسمها حيث يقصد حديقتها في أعالى الجبال الكثير من الزوار. تعيش أم السعد في منأى عن الناس إلا أنها تتفهم حياة وأفكار كل من يزورها وبالرغم من كون طريقتها في الحياة منحصرة على حديقتهاإالا أن حيزها الخاص الصغير تحول إلى مساحة ترحب بالجميع.
على غرار أم السعد، تحكى د.اسراء تجربتها عن حيزها الخاص داخل المنزل فتقول أنها أصبحت أكثر حرية وتحرراً بعد عملها كطبيبة فمتطلبات مهنتها نالت رضا والدها وأقاربها فأصبح مجتمعها أكثر تقبلاً واعتياداً لخروجها المتكرر وساعات دوامها التى قد تطول أحياناً. تحكى اسراء أن تم تعيينها فى مستشفى دهب العام فى 2021 واستمرت فى التدريب والعمل هناك وكان والدها طوال الوقت داعماً لحلمها فى افتتاح عيادتها الخاصة إلا أن والدتها توفيت فى يوليو 2022 حتى قررت افتتاح عيادتها بدعم والدها فى ذكرى وفاتها الأولى فى يوليو 2023 وأطلقت اسم Green Dental Clinic على عيادتها تيمناً باسم والدتها المرحومة خضرا. أصبح نساء البدو يشعرن بالأريحية عند زيارة طبيبة الأسنان الوحيدة فى دهب فالباقي رجال مما عزز شعور الألفة لديهن فأصبحن كثيرات التردد عليها. تقول د.اسراء " فى واحدة قالت لي انا حاسة انى فى عريشة-خيمة- بيتى عندك" وتضيف أنها لا تفرق بين المرضى كرجال او نساء ولكنها تشعر بالالفة والراحة مع النساء وخاصةً البدويات. تغيرت نظرة المجتمع بعد أن اصبحت اسراء طبيبة معروفة فاصبح الكبار والصغار ينظرون اليها أنها الطبيبة التى تمثلهم امام العالم مما دفعها لدعم الفتيات الصغار وتشجيعهن على الدراسة فتقدم لهم الهدايا عند نجاحهن.
مشاركة الرجال والنساء فى المجتمع
كما قالت د. اسراء أن السر وراء غيرة الرجال من نجاح النساء هو عدم رغبتهم فى الشعور بتفوق النساء عليهم ولكن قد تختلف نظرة الأب للأمر كما تغيرت نظرة الشيخ ناصر للتعليم فهو والد أول طبيبة أسنان فى دهب وأخيها أول نقيب للمحامين فى جنوب سيناء وأخيهم الثالث هو أول نقيب شرطة من جنوب سيناء ومن بين باقي الأخوة من تدرس فى كلية العلوم والبقية درسوا فى كلية التربية ومنهم من قررن الاهتمام بالمنزل دون ممارسة مهنة. لم يكن ليقوم الشيخ ناصر بتنشئة أبنائه على أهمية التعليم لولا أن اتسع إدراكه وأخذه بنصيحة مستثمر بأن يبدأ استثماره فى ابنائه بالتعليم ، حينها تأمل الشيخ ناصر فى هذه الحكمة مراراً حتى أخذ بها وصار ينفذها واصبحت قضيته فى كل الندوات التى يحضرها هى توفير تعليم يلائم الابناء وخاصةً الفتيات لتوفير سلاح يعينهم على الحياة. هذه الايام صار الاتجاه نحو التعليم بين عائلات البدو مجالاً للتنافس فبعضهم يتباهى بارتفاع نسبة التعليم بينهم كعائلة حسان التى يظهر فيها اخوته المثقفات العاملات . لازالت د. اسراء تلوم المجتمع البدوي الذي عاش لأزمنة ينشأ فيها الفتيات على السعي فقط نحو الزواج والاهتمام بالمنزل دون تسليحهن بعلم ينتفعن به عند الازمات. تضيف د.اسراء أن الزواج امر مفروغ منه فالجميع يحصل على فرصة الزواج ولكن يجب اولاً فهم متطلبات الحياة والسعى لتحقيق الذات.
هل تتغير الهوية بعمل النساء؟
حجة الرجل في رفض عمل المرأة غالباً هى تغيير شكل الأسرة وطبيعة المرأة مما قد يؤدي إلى دمار الهوية. هوية الإنسان هى ما يقررها نتيجة ما يتلقاه من دعم وثقافة من محيطه الأسري والمجتمعي. فمدى دعم المجتمع للفرد هو ما يشكل انتماؤه وهويته. اليوم تضرب المرأة البدوية عرض الحائط بالقول التقليدى بتعارض عملها مع هويتها فأم ياسر قررت خوض طريقها كدليل بدوي بكامل هويتها كمرأة بدوية بزيها وقيمها البدوية وحتى أم السعد التى أصبحت مصدر الهام للجميع فهى تلهمهم بطبيعتها البدوية فقط دون مؤثرات أخرى. ترى أيضاً د. اسراء أن هويتها البدوية هى أول ما تهتم به فتسعى لممارسة قيمها عن طريق عملها ليرى المرضى والزملاء ما تعكسه من ثقافتها من حق وأمانة وعدم الطعن فى الغير ومحاولة الإصلاح بين المتخاصمين وإرضاء الجميع بالإضافة إلى الحفاظ على حدودها فى التعامل فيحترم الجميع أمانتها ووضوحها وإصرارها عليهم. خبرة د.اسراء في الحياة جعلتها أكثر فطنة بالأدوار الاجتماعية فهي تعي أن العصر الحديث أصبح يزيد من أدوار المرأة فهى حالياً تفوق الرجل في المهام فالرجل لايزال مكلفاً بالعمل والإنفاق إلا أن المرأة تخرج اليوم للعمل وتعود لممارسة أدوارها كأم وزوجة وربة منزل وعند غياب الرجل تستطيع المرأة تحقيق نفس الأدوار إلا أن عند غياب المرأة لا يستطيع الرجل تعويض الأدوار فيضطر غالباً إلى الزواج مرة أخرى. هذه المقارنة تجعل د. اسراء أكثر ثقة بقدرة المرأة على التحمل والاستمرار فى كسر المزيد من القيود. دعم الأسرة وفخر المجتمع المحيطين باسراء جعلها اليوم توجه الشكر لوالدتها التي ربتها على هذا الوعي بالسعي والمثابرة لتنفيذ الأهداف كما تظل توجه الشكر لوالدها على حمايتها لها من مجتمع لا يدعم المرأة وتتمنى تعويض هذا الدين بأي شكل. فى النهاية جددت تمنيها لمجتمعنا البدوي بشكل خاص بالمزيد من الرقي والتطور وللمرأة بشكل عام بالنجاح والوصول إلى المزيد من العلم.