النساء المستقلات.. وحيدات في مواجهة الإيجار والأجر والتعنيف

“بعد 6 سنين دخلي بقى كبير آه بس مش مكفي الغلا اللي ضرب كل حاجة.. حتى التعويم اللي عانينا منه في 2016 ما كنش بالشراسة دي.. أنا بشتغل ومش قادرة أوفر الإيجار اللي كل سنة بيزيد أكتر.. وصل دلوقتي لـ 7 آلاف جنيه”.

منذ الربع الأول من العام الماضي، واجه الجنيه المصري خسائر قياسية بلغت في السوق الرسمية نحو 50%، فيما يجري تداوله في السوق الموازية بما يتجاوز الأسعار الرسمية بما يقرب من 60%.

انخفاضات الجنيه أمام الدولار فاقمت أزمة الوضع الاقتصادي لمصر في السنوات الأخيرة
انخفاضات الجنيه أمام الدولار فاقمت أزمة الوضع الاقتصادي لمصر في السنوات الأخيرة

وفي الوقت نفسه، واصلت مبيعات الوحدات السكنية النمو رغم رفع المطورين للأسعار، بسبب المخاوف من استمرار تراجع قيمة الجنيه، بحسب التقرير ربع السنوي لشركة الاستشارات العقارية العالمية “جيه إل إل”.

وأدى ارتفاع الطلب والتضخم إلى قفزة في أسعار العقارات في القاهرة الكبرى، حيث صعد متوسط الأسعار في مدينة السادس من أكتوبر، غرب القاهرة 40% في الربع الثالث من هذا العام وبنسبة 45% في القاهرة الجديدة، حسبما أظهر التقرير. وارتفعت الأسعار في كلا المنطقتين بنسبة 38% مقارنة بالربع الثاني من 2023.

وبالتبعية، رفع أصحاب العقارات ممن يوفرون عقود إيجار للوحدات السكنية بمقابل شهري يجدد بمدد محددة (إيجار جديد) النسب الإيجارية لوحداتهم.

نساء الأقاليم ومركزية القاهرة

هذا الوضع أثر على حركة التنقل بين السكان في مصر، خاصة بين النساء اللاتي استفدن من فترة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وانتشار مفهوم الاستقلال السكني لهن، إما سعيًا خلف حلمهن بعالم خالي من العنف الأسري، أو رغبة في الاستقلال عن وصاية الذكور من العائلة أو بحثًا عن الاستقلال الوظيفي بأجر ملائم.

اقرأ أيضًا: العنف السيبراني ضد النساء والفتيات.. ليس نهاية الحياة

من بين هؤلاء “أسماء منصور – 29 عامًا”، قررت الاستقلال عن عائلتها القاطنة في محافظة الغربية (شمال غرب القاهرة) من أجل الحصول على عمل ملائم يساعدها في الاستقلال المادي والسكني. “جيت للقاهرة هنا مغتربة من عشر سنين، تقريبًا أول ما اتخرجت من الجامعة، واشتغلت في شركة برمجة.. في البداية عانيت من السكن المشترك، كنا 6 فتيات في شقة بمنطقة فيصل.. تحملت شهور طويلة من انعدام الخصوصية وأحيانًا الأمان عشان الشغل.. منا مش هلاقي شغل مناسب في محافظتي”.

كانت “أسماء” تلمس واقع أن القاهرة تحظى بمركزية شديدة كونها عاصمة البلاد، التي تتمتع بتنوع الوظائف وتوافر فرص العمل بإمكانات أفضل من باقي المحافظات باستثناء محدود للإسكندرية شمال البلاد.

النساء المستقلات في مصر لا يجدن سكنًا ملائمًا

تقول “أسماء” في حديثها لـ”فكر تاني”: “بعد سنتين من الشغل المتواصل عرفت استقل بشقة صغيرة لوحدي في منطقة هادية وبقيت مطمنة على خصوصيتي أكتر.. كنت بشتغل فترتين عشان أوفر الإيجار اللي كان 3 آلاف جنيه شهريًا.. وبعد ما كسبت خبرات كبيرة في شغلي وبقى دخلي كبير كان برضه مش مكفي.. كل أزمة بتحصل في بلد تانية بنكون أول اللي بيتأثروا بيها.. صاحب العمارة عايز يخرجني عشان يسكن سودانيين بأسعار مضاعفة أو أقبل برفع الإيجار اللي ارتفع لـ 5 آلاف ووصل دلوقتي لـ 7 آلاف جنيه اللي هو كل مرتبي.. طب هاكل واركب مواصلات منين”.

في أواخر أبريل الماضي، أعلنت الخارجية المصرية تسهيل عبور أكثر من 16 ألف من غير المصريين إلى داخل مصر، من بينهم أكثر من 15 ألف سوداني ونحو ألفي أجنبي من 50 دولة و6 منظمات دولية.
في أواخر أبريل الماضي، أعلنت الخارجية المصرية تسهيل عبور أكثر من 16 ألف من غير المصريين إلى داخل مصر، من بينهم أكثر من 15 ألف سوداني ونحو ألفي أجنبي من 50 دولة و6 منظمات دولية.

فاقم أزمة الإيجارات السكنية في بعض مناطق المحافظات الحيوية في القاهرة الكبرى والإسكندرية استقبال مصر أعدادًا من المهجرين من ليبيا المتوترة بأوضاع سياسية وعسكرية صعبة منذ 2011، ثم السودان الذي يشهد حربًا مشتعلة منذ أبريل الماضي بين الجيش وقوات شبه عسكرية تحمل اسم “الدعم السريع” منذ عدة شهور.

“اضطريت أرجع للسكن المشترك بعد سنوات طويلة من الاستقلال لوحدي.. كنت عايزة أخفض تكاليف المعيشة شوية.. مهو أنا يا أعمل كده يا أستغنى عن الشغل وارجع لأهلي وأمد لهم إيدي.. أنا مشكلتي مع كبرها صغيرة قصاد البنات اللي هربوا من عنف أهلهن وبيواجهوا دلوقتي أزمة أكبر”.

فجوة الأجور والوظائف.. لا مكان للنساء

في أكتوبر الماضي، أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بيانًا رسميًا بمناسبة اليوم العالمي للعمل اللائق (7 أكتوبر من كل عام)، أشار فيه إلى أوضاع وظروف العمل والعمال في جمهورية مصر العربية من واقع بحث القوى العاملة لعام 2022.

وقد لفت هذا البحث إلى أن معدل التشغيل (عدد المشتغلين منسوبًا إلى عدد السكان 15 سنة فأكثر) سجل في العام 2022 للذكور نسبة 65.7% مقابل 12.2% للإناث.

اقرأ أيضًا: رسائل خفية ضد النساء

ووفق بيانات الجهاز المركزي في نوفمبر الجاري، سجل تقدير حجم قوة العمل في مصر خلال الربع الثالث للعام الجاري 31,956 مليون فرد مقابل 30,969 مليون فرد خلال الربع السابق، بنسبة ارتفاع مقدارها 3.2%، بينما بلغت قوة العمل في الحضر 13,928 مليون فرد، وفي الريف 18.028 مليون فرد.

وعلى مستوى النوع، بلغ حجم قوة العمل 26.103 مليون فرد للذكور، بينما بلغ عدد الإناث 5,853 مليون فرد.

لا تزال النظرة لعمل المرأة في مصر قاصرة وبحاجة إلى معالجة واستيعاب ومواجهة للتمييز الواضح في الأجور وفرص العمل
لا تزال النظرة لعمل المرأة في مصر قاصرة وبحاجة إلى معالجة واستيعاب ومواجهة للتمييز الواضح في الأجور وفرص العمل

النساء أكثر المتأثرين بالوضع الاقتصادي

لمياء لطفي
لمياء لطفي

تقول لمياء لطفي، الناشطة في مجال حقوق المرأة ومديرة البرامج بـ”مؤسسة المرأة الجديدة”: “لقد تأثر الجميع في مصر بالوضع الاقتصادي الراهن الصعب والحديث مستمر عن هبوط أسر من طبقات اجتماعية لأخرى. لكن كالعادة هناك فئة هي الأكثر عٌرضة للتمييز والتهميش والضغط الاقتصادي المتزايد، فئة تدفع ثمن أي تردي للأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية، وهنا تأتي النساء المستقلات على رأس القائمة. معظمهن مستقل في سن صغيرة، وحجم خبراتهن ليس كبير وأجورهن قليلة ويتم استغلالهن من أصحاب العمل، فيعملن عدد ساعات أكبر بأجر أقل لا يراعي الأعباء الاقتصادية”.

وتضيف “لمياء” في حديثها لـ”فكر تاني”: “هؤلاء الفتيات لم يجدن الدعم الأسري الذي يحتجن إليه، ونسبة منهن أجبروا على مغادرة منازل أسرهن تحت واقع العنف الأسري (هاربات) أو رغبة في استقلال وظيفي هن بحاجة إليه.. في القاهرة هن مطالبات بتوفير أجر السكن والمواصلات والمأكل والملبس ثم بعد كل ذلك ضرورة الادخار. كيف ذلك والغالبية منهن يعملن بعقود مؤقتة؟ هذا وضع قاسي جدًا”.

العودة إلى العنف والتحكم

“بعد دراستي سافرت أشتغل في واحدة من المدن الساحلية.. كنت شغالة في فندق سياحي لفترة في مجال الخدمات الغذائية، بس بعد الحرب الروسية الأوكرانية تأثرت السياحة والفندق استغنى عني.. ماكنش قدامي إلا إني أدور على شغل تاني.. خمس شهور بدور وبصرف من الفلوس اللي حوشتها في إيجار سكن وأكل وشرب ومواصلات.. حتى الأعمال الإضافية مكفتش.. الإيجار ارتفع والمعيشة بقت أصعب من الأول”.

بعد فترة من البحث دون طائل، تركت “آلاء” المدينة الساحلية وعادت إلى أسرتها: “الفترة اللي قعدتها بدور على شغل كنت باكل كل يوم عيش وجبنة وفول. اتنازلت عن كل الرفاهيات والأساسيات كمان، بس ما قدرتش أتحمل”.

فشلت “آلاء” في الاستقلال وتحقيق ذاتها، ليس لانخفاض إمكاناتها، بل لأن ظروف مجتمعها الذي يضحي بالنساء في أوقات الأزمات لأنهن الطرف الأضعف في سوق العمل لا تزال باقية، ولأن الأعباء الاقتصادية التي فُرضت عليها بواقع حال مصر هذه السنوات كانت أكبر من قدرتها على التحمل.

آية منير
آية منير

“بعد ما رجعت بقى ماليش حق في أي حاجة.. أخويا أصله بيتعامل معايا بمنطق إني في حاجة دايمه له.. كنت عارفة إن رجوعي معناه تنازلي عن كل حقوقي والسكوت عن العنف المستمر بس ما كانش في إيدي حاجة تانية أعملها”.

تقول آية منير، مؤسسة مبادرة “سوبر وومن”: “آلاء ليست الوحيدة، هناك عدد كبير من الفتيات اتخذن قرار العودة الصغرى أو الكبرى؛ العودة للسكن المشترك وتحمل ضياع الخصوصية أو العودة الكبرى لأسرهن وتحمل العنف الأسري والتحكم في الحياة الشخصية مقابل الإعالة”.

وتؤكد “آية” أن النساء في أزمة فعلية حقيقية تأثرًا بالوضع الاقتصادي للبلاد، وهن غير قادرات على تلبية احتياجاتهن الأساسية، وتتفاقم أزماتهن باختلاف أوضاعهن، فالنساء المعيلات مثلًا أمام عقبة مالية مضاعفة مع تراجع دعم الأهل والزوج. “هذه الفئة مطالبة بتحمل أعباءهن المالية وأعباء من يعُلْن دون تمكين اقتصادي حقيقي للنساء، وهن في هذا الوضع متساويات”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة