مريم أبو دقة ما بين المنفى والوطن.. تقاطعات الرحلة وحلم التحرر (حوار)

"يقولون في الروايات أن الأحلام لا تتحقق ولكنها تخفف من آلام الواقع المُر. تزيل شعور العجز والمستحيل الذي تحمله إلى صاحب الحلم، بما يريد ليهرب من الواقع المرير. ولكن حلمي كان فوق المستحيل، فمنذ أن اقتُلعت من وطني فلسطين على أيدي الصهاينة بعد خروجي من السجن المقيت بأربع وعشرين ساعة. لم يغب الوطن عن فكري مطلقًا وبقي 30 عامًا يحلق في شوارعنا ومدرستي وبيتي وحارتي بين أصدقائي وبين رفاقي وما يتعرضون له. بين أزمة الحارات التي طاردنا بها المحتل أيام الصبا اليافعة، بين ذراعي أمي وأبي بين أخواتي وإخواني، بين ذكرياتي الجميلة منها والصعبة".

في سردية تغريبتها عن وطنها تحكي المناضلة الفلسطينية مريم أبو دقة عن نفسها، عن أسرّتها، وعن تلك الفتاة في السابعة عشر من عمرها، والتي خرجت للتو من سجون الاحتلال، مُرحلّة إلى الأردن، عن امرأة في العقد السابع من عمرها مُرحلّة من فرنسا إلى القاهرة.

مريم أبو دقة.. ذاكرة فلسطينية للنضال

ولدت مريم أبو دقة في يوليو من العام 1952، في أحد منازل بلدة عبسان الكبيرة في محافظة خان يونس بقطاع غزة. أطلقت أولى صرخاتها بالتزامن مع الأحداث التي تلت حركة الضباط الأحرار ضد الملكية والاستعمار البريطاني لمصر. ما بين محتلَين كانت مريم وأمها تخوضان لحظاتهما الأولى في الحياة سويًا؛ أمها المصرية التي جاءت من دولة حدودية يسيطر عليها احتلال إنجليزي وملّكية مستبدة، وهي الفلسطينية التي ولدت في ظل احتلال إسرائيلي يحرق الأرض والتاريخ.

مريم أبو دقة في المنفى
مريم أبو دقة في المنفى

في حي عين شمس من قلب القاهرة، التقتها منصة "فكر تاني". ذاقت الترحيل مرة أخرى، لكن إلى مكان تحبه هذه المرة.

"مُرحّلة أنا ومتعبة لكن هذه المرة إلى وطني"، افتتاحية أرادت بها أن تبرهن على انتمائها إلى مصر بقدر انتمائها إلى وطنها الأول فلسطين. حيث عادت من رحلة طويلة مثقلة بهموم الوطن والحرب والمقاومة في فرنسا. جاءت لتمثّل كل نساء فلسطين المقاومات دومًا وأبدًا، حسبما تصف.

اقرأ أيضًا: النساء في الحرب.. غزة ما زالت تنزف

مريم محمود محمد أبو دقة، فلسطينية من غزة، درستُ المرحلة الأساسية في مدرسة أبو نويرة التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ومدرسة العودة الحكومية في بلدة عبسان، ثم المرحلة الثانوية في مدينة غزة، قبل أن أغادر إلى اليمن وأحصل على شهادة الثانوية العامة في العام 1971.

بعد النفي القسري، سافرت "مريم" إلى بلغاريا ونالت البكالوريوس والماجستير والدكتوراة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية بين العامين 1983 و1991. تقول: "التحصيل الدراسي والتعليم أحد أبرز وسائل المقاومة التي أدعو كل شاب وفتاة فلسطينية إلى انتهاجها، مقاوم متعلم أفضل من مقاوم أُميّ. على كل امرأة فلسطينية أن تعمل على تثقيف نفسها لانتزاع حقوقها ضد المحتل، وضد ذكورية المجتمع المحافظ الذي ننتمي إليه، هي حرب أخرى تخوضها نساء فلسطين وتناضل من أجل كسبها، عمري النضالي خمس وخمسين عامًا وقد عاصرت كل المعارك والحروب التي دارت خلال تلك الفترة، وبالنسبة إلىّ فإن معركة التعليم على قائمة أولوياتي".

مزج أول.. مريم والشتات

- كيف تصفين رحلتك؟

أنا فلسطينية نشأت في ظل الاحتلال، واعتقلت بعد حرب العام 1967 وكان عمري خمسة عشر عامًا. وبعد عامين من الاحتجاز تم نفيي في عمر السابعة عشر عامًا إلى الأردن. خرجت من فلسطين بلا بطاقة هوية. حينها علقت على الحدود بين فلسطين والأردن مدة إحدى عشر شهرًا قبل أن يتمكن رفاقي في الجبهة الشعبية من إدخالي إلى المملكة الهاشمية خِلسة، على أمل العودة إلى وطني، وهو الأمل الذي طالما حلمت بتحقيقه رغم وضعي على رأس قائمة المبعدين.

تقول مريم: "كثيرًا كنت أضغط على جفوني لأستيقظ على كابوس الغربة على حقيقة اللجوء القسري، فكيف بي طفلة تتحمل هذا العذاب وهذه الرحلة القاسية جدًا بعيدًا عن الأهل والوطن والأحبة وتهيم على وجهها في بلاد لا تعرفها وأهل جدد وأصدقاء لابد من صناعتهم. سارت الأحداث على عجل وكأنني على موعد مع المستحيل".

استقرت "مريم" في الأردن حتى أيلول الأسود (الحرب الأهلية الأردنية - سبتمبر 1970)، ثم غادرت إلى لبنان، مُرحلّة ثانية في عمر التاسعة عشر.

وماذا بعد مغادرة الأردن؟

"طوال حياتي عملت من أجل الدفاع عن الثورة الفلسطينية الحرة وعن البندقية الفلسطينية التي ترمز إلى مقاومة الاحتلال الغاشم. تنقلت بين عدد من الدول حتى اللحظة، ممارسة دوري النضالي بكل أشكاله وأماكنه".

في البداية انتسبت للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية منذ العام 1965 وأنا ما أزال في وطني غزة. ثم انتميت إلى الجبهة الشعبية في العام 1967 وهو عام اعتقالي. وبعد خروجي من المعتقل نزحت إلى الأردن ثم إلى لبنان في العام 1972".

في لبنان تطورت الأوضاع وأصبحت "مريم" مسؤولة عن فصيل عسكري، وشاركت ضمن وفد فلسطيني في مهرجان الشبيّبة العالمي في كوبا في العام 1981، وكانت من مؤسسي منظمة الشبيبة التابعة للجبهة. ثم في العام 1981، شاركت في تأسيس اتحاد لجان المرأة الفلسطينية التابعة للجبهة الشعبية والذي يضم كل نساء فلسطين.

حوار مريم أبو دقة
حوار مريم أبو دقة

وبعدها انتقلت إلى سوريا في العام 1982، وكانت إحدى قيادات الجبهة الشعبية هناك. ومن بعدها العراق ثم ليبيا والتي أصبحت فيها أمين سر الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في العام 1983. "لكنني لم أستمر هناك كثيرًا حيث انتقلت إلى بلغاريا للدراسة، وهناك أسست (منظمة المرأة الأممية) في العام 1984، وقد كُرمت على أعمالي لأحصل على العضوية الفخرية من الاتحاد الديمقراطي النسائي البلغاري"؛ تقول "مريم".

تتحدثين عن كونك امرأة قائدة في صفوف المقاومة الفلسطينية وهو الأمر الذي ربما كان مستهجنًا حينها، حيث كانت المرأة تشارك دون أن يكون لها قرار سيادي.. كيف حدث ذلك؟

لم يكن طريقي مفروشاً بالورود، فالحق ينتزع ولا يُطلب. لابد من فرض وجودك كامرأة، بالعمل على زيادة الوعي الخاص بالقضايا والثقافة العامة، وبالتزامن مع المشاركة الفعّالة في كل الميادين.

لقد أصبحت أول فتاة تتعرض للمطاردة والاعتقال وأول منفيّة إلى الخارج من قريتي. كان ذلك غريبًا في فترة الستينيات. كوّن المجتمع وجهتيّ نظر حولي؛ الأولى يقولون إني "أخت رجال- بنت رجال" وكأني لن أصبح قوية إلا إذا ارتبط اسمي برجل، ثم تطور الأمر مع مرور الوقت إلى الاعتراف بكوني إمرأة مناضلة ولست منتمية لرجل أو عائلة أحمل اسمها فقط، فالفروقات الشخصية هي من تصنفنا وليس نوعنا البيولوجي.

كأي مجتمع عربي، يبقى المجتمع الفلسطيني في الأساس محافظًا وينطوي على كثير من العادات التي تحمل طابع ذكوري؛ لذا عملت "مريم" على أن تصبح في العام 1992 عضوًا في اللجنة المركزية، ثم في العام 1995 عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني. وفي العام 2000 تم اختيارها عضوة في المكتب السياسي للجبهة، وكانت مسؤولة اللجنة العليا لدعم الانتفاضة الثانية وتجمع القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية.

"الناس تتعامل بشكل استثنائي معي كامرأة كوني مناضلة، ولكن لم يتعودوا بعد على الدور الذي أمارسه. أن أكون بين الرجال، بين القيادات الوطنية، أخطب في المهرجانات أخاطب النساء والشباب والرجال. هم يقرؤون عن النساء ودورهم، يؤلفون شعرا عن نضالهن، ولكن لأول مرة يلتقون مع مناضلة سمعوا عنها كثيرا في تجربة العمل العسكرية لمجموعات الجبهة الشعبية (جيفارا غزة) فترة العام 1969، وعن شريط تواصلها في قواعد العمل الفدائي في الأردن ولبنان وفي كل ساحات النضال الوطني. واستقبلني الجميع خاصة النساء حين عودتي إلى وطني بحفاوة حيث وجدوا لهم سندا يحرر إرادتهم القوية من ظلم الاحتلال وتميز المجتمع".

"لا ضمانة لتحرير فلسطين وبناء مجتمع ديمقراطي إلا بمشاركة المرأة مشاركة حقيقية"؛ تضيف مريم.

لكن حسب وصفك فالنساء في فلسطين يعانين الأمّرين بالفعل.. هل تتفقين؟

"قلت لك، مثلنا مثل أي مجتمع محافظ، الفارق أننا نتعرض لاحتلال يستهدف الجميع. وقد درج الاحتلال على اعتقال النساء كنوع من الترهيب والتأديب للأسرة الفلسطينية. لكننا قلبنا السحر على الساحر وصارت كل فتاة تتعرض للاعتقال بطلة وتعامل بتميز".

تتميز النساء الفلسطينيات بنضالهن المزدوج، لتعرضهن لاضطهاد مزدوج؛ اجتماعي لكونهن نساء في مجتمع محافظ، والآخر من الاحتلال لأنهن فلسطينيات.

وقد ساهمت عمليات الاحتلال في السنوات الأخيرة في تسريع عملية دمج المرأة الفلسطينية كفاعل رئيسي وسط عناصر المقاومة في محاولة لكسر النمط السائد. وأصبحت النساء في الصفوف الأولى من المعركة. وهذا هو الحال في كل البلدان التي تحدث فيها ثورات، كما تقول "مريم" وهي تشير إلى المرأة الجزائرية التي تقدمت صفوف الثورة من أجل الاستقلال، وكذلك المرأة المصرية في نضالها لسنوات طوال.

تؤمن مريم وتحارب لأجل أن "تلعب النساء دور هام باعتبارهن جزء أصيل من الحركة الوطنية، أرادت سلطات الاحتلال استهدافه بالاستبعاد والاعتقال والتهديد لإضعاف الكل. كل المقاومة".

مزج ثان.. مريم والعودة

تتحدثين عن العودة.. كيف عدتِ إلى فلسطين بعد ثلاثين عامًا؟

"صار اتفاق أوسلو سيئ الصيت والسمعة، وحينها عاد فلسطينيون إلى الداخل، لكني لم أعد. كنت مستبعدة، وبعد محاولات عدة استطعت الحصول على تصريح زيارة لقريتي بعد ثلاثين عامًا في المنفى".

مريم أبو دقة
مريم أبو دقة

حين عادت مريم وجدت أن ملامح الأمكنة قد بهتت وتغيرت. لم تتعرف حتى على منزلها. مات والدها وكذلك رحلت شقيقتها، وتبدلت الأحوال، وكبر الصغار.

"عدتُ ولم أعد كقائدة نسوية بل قائدة وطنية، وهو ما يعد إنجازًا في مجتمع محافظ كالمجتمع الفلسطيني. كانت عودتي إلى وطني بمثابة نشاط جديد فتح لي الطريق أمام العمل المجتمعي والسياسي".

احتفظت مريم برمال غزة في قنينة حملتها معها في كل مواقع حياتها. "هكذا كنت أحمل الوطن معي".

استقرت مريم بعد عامين من عودتها من رحلة الدراسة في بلغاريا لبعض الوقت في سوريا. هناك كانت تتساءل: "هل ستتحقق المعجزة، هل سأعود؟. كان الأرق يغزو نومي والكوابيس تلاحقني. ثم في أحد الأيام وأنا في الخامسة والثلاثين من عمري، وأمام باب شقتي سمعت جارتي أم علي وهي من عائلة سورية مهجرة من الجولان، تنادي بصوت مضطرب: مريم جاءك تليفون من الأردن. ذهبت معها وأجريت مكالمة ليأتيني الخبر، سأذهب إلى فلسطين".

لم تكن رحلة العودة سهلة. كل رحلة للعودة لا تكون سهلة، لكنها المقاومة فقط التي تحقق المستحيل.

اتخذت مريم تدابيرها مع بعض الرفاق. ذهبت إلى الأردن تحت غطاء المشاركة في مؤتمر، ثم غادرت إلى جسر الأردن مع صديقتين من فلسطين "حتى يدلوني على بيتي، فلم أعد أعرف أين يقع".

تصف طريق عودتها إلى منزلها للمرة الأولى منذ ثلاثين عامًا، فتقول: "انتظرتني صديقتي ماجدة لتدلني على بيت أهلي الذي لم أتعرف عليه وحدي بعد ثلاثين عامًا من الغربة. أخبرت السائق أن نسلك طريق يمر عبر البحر ومن جوار سجن السرايا، لأتذكر أيام سجني، ومن أمام مدرستي (مدرسة العودة) التي خرّجت مجموعات الفدائيين الأوائل، وبعدها للبيت".

بعد العودة.. ماذا قدمت مريم أبو دقة للقضية الفلسطينية والنساء؟

وصلت إلى عضو مكتب سياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي جزء من منظمة التحرير الفلسطينية. وأنشأت مؤسسات وشاركت في أنشطة مؤسسة للدفاع عن عودة الأرض الفلسطينية والمطالبة بحقوق الفلسطينيين خاصة النساء. وأيضًا ساهمت في أوراق عمل مع جامعات ومؤسسات نسوية وحقوقية لدعم حقوق المرأة الفلسطينية، ومثلت التنظيم في محافل عدة.

كانت قضيتي الرئيسية بعد العودة قضية المحررات والأسيرات، وعملت على إعادة تهيئة وتدريب النساء المحررات من سجون الاحتلال، نفسيا واجتماعيًا، بعد الانتهاكات العميقة اللاتي تعرضن لها، حيث عملت مع 17 ألف إمرأة محررة. وأيضًا أعمل على ملف النساء الأسيرات اللاتي وصل عددهن إلى 37 ألف أسيرة من الأمهات والشابات. أيضًا عملت على ست وثلاثين قصة مصوّرة لنساء أسيرات بالتعاون مع اتحاد لجان المرأة الفلسطينية وجامعة بيرزيت، في نوع من التوثيق لمعاناة النساء في ظل الاحتلال. إضافة إلى النشاط الداعم لملف الأسرى بوجه عام مع كل القوى والمؤسسات.

وماذا عن تجربتك في سجون الاحتلال؟

"تجربة الاعتقال علمتنا جميعًا معنى الحرية، فمن لم يكبل بالحديد لا يعرف معنى الحرية".

قبل اعتقال مريم وهي في سن صغيرة كان لدى أسرتها أبقار وأغنام وكانت تواظب على حبسها، وكثيرًا ما عنفها أباها ومنعها.

بعد تجربة الاعتقال، أدركت معنى الحرية جيدًا وعرفت لماذا كان تعنيف الأب. "قلت: ندر علي حين أخرج لن أحبس هذه البقرات مرة أخرى أبدًا. لم أتحمل الحبس، اعتدت الحرية. حتى أثناء دراستي كنت أدرس تحت الشجرة أمام منزلنا لا تستهويني فكرة الجدران.. كل الجدران".

كانت تجربة السجن في ذاكرة مريم مريرة وفريدة في آن واحد. أثقلت شخصيتها وقدراتها، وعلمتها كيف أن الطريق إلى الحرية مقترن بالمقاومة وتحرير الأرض، وألا تتنازل عن حقوقها. "تعلمت العمل الجماعي والتعاون بين النساء. فقد مررنا بكثير من الانتهاكات التي لا يمكن وصفها، كثير من الأسيرات وضعن أطفالهن في سجون الاحتلال بدون تدخل طبيب، كما أنه في بعض الحالات عمدت شرطة السجون إلى انتزاع الأطفال الرضع من بين أيدي أمهاتهم، تنكيلًا بهن"؛ تقول مريم.

"أتذكر سيدة مصرية مناضلة كانت زوجة فلسطيني، اعتقلت هي وكل عائلتها. نزعوا عنها طفلتها (زينات). لكنها كانت قوية تقول لهم: تريدون كسر إرادتي لكني لن أنكسر أنا ابنة الجمهورية العربية المتحدة. بالطبع كانت تتألم أشد الألم وهي ترى طفلتها تلعب مع شرطة الاحتلال لكنها قاومت".

مجتمع الأسيرات مجتمع نموذجي ومتوحد تحت وطأة الاحتلال، كما تروي مريم: "هناك حيث لا يوجد فتح أو حماس هم يعلمون أن الاستهداف لكل شعب فلسطين. ويعين جيدًا معنى مقولة أكلت يوم أكل الثور الأبيض، فالاحتلال الإسرائيلي يستهدف الأمة العربية كلها وليس فلسطين فقط. ونحن جزء من تلك الشعوب، ودفاعنا عن أنفسنا هو دفاع عن كامل الأمة العربية".

"زينات كانت في عمر الأربعين يومًا حين اعتقلت مع والدتها، طفلة جميلة بملامح مصرية فلسطينية، كنت صغيرة في عمر الخمسة عشر عامًا حين رأيتها أول مرة، وكنت أحب اللعب معها كثيرًا، وقد أحببناها جميعًا وتناقلتها أيادينا بحنان، حتى أننا كتبنا اسمها على حائط الزنزانة.. زينات المصري. وبعد ثلاثين عامًا عدت وقد وجدتها شابة يافعة وأم وزوجة مناضلة، التقيت معها في اجتماعات عدة خاصة بلجان المرأة والمقاومة".

كيف استقبلك المجتمع الغزاوي بعد العودة؟ ماذا عن العادات والتقاليد؟

"كنت مميزة. حاولت أمي الانسجام مع شخصيتي الجديدة. كانت لا تزال مترددة من كوني أصبحت امرأة قوية وقائدة وأنا لا أزال بنت".

اقرأ أيضًا: غزة.. عربيًا وإفريقيًا

عاشت والدة مريم عقدة المجتمع، وأن الرجل هو الحماية. وقد كانت أمًا لثمانية فتيات وولد واحد يعيش مغتربًا لم تره منذ سنوات. "لكنني سعيتُ لأبحث عن مفتاح أشق به مجرى طريق للنساء والتمرد على الواقع الذي كبلهن كثيرًا. كان الجميع سعيد بعودتي لكنهم لم يفكروا سوى في أنني لم أغط رأسي. لدرجة أن عمي أرسل مطالبًا بوضع حطّة فلسطينية على رأسي في مقابلات الرجال المهنئين بالعودة"؛ تقول مريم.

تعملين على قضايا النساء إلى جانب نضالك الوطني الموسع، لكنك لم تحظي بأسرة، فهل كان هذا اختيارًا؟

"في الحقيقة، اخترت طريق النضال والكفاح ولم أتمكن من تكوين أسرة. همي. كل همي فلسطين والقضية. ونساء فلسطين تقوم بدور عظيم ومزدوج، هن مصانع الرجال والمناضلات، ولهذا تستهدفهم قوات الاحتلال بالدرجة الأولى، والشاهد الأكبر حرب غزة الجارية والتي أخرجت أكبر عدد من الشهداء من النساء والأطفال. كل نساء فلسطين مسيسات وثائرات بالفطرة. هن يعملن منذ الولادة على تأهيل أطفالهن كمقاومين محتملين، وكما قال الرئيس عرفات: شعبنا سابق قيادته، والسبب هو المرأة الفلسطينية".

"مريم" التي في عقدها السابع تقول إن أمها المصرية شكلت وجدانها ودفعتها دفعًا على انتهاج المقاومة كأسلوب حياة، وأنها ووالدها كانا يتنافسان على تعليمها، يخبراها كل صباح عن قصص الفدائيين في مصر وفلسطين، لأن من فلسطين ومصر تبدأ المقاومة. ولأن مصر وفلسطين واحد، رغم الحدود، والاحتلال، وغيرهما.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة