تبدأ الحكاية التى سوف نسردها قبل أكثر من سبعين عامًا، قبل حتى النزوح الفلسطيني الأول (أو ما سمى بالنكبة) عام 1948. تبدأ من عكا، ويافا، والخليل، وكل المدن الفلسطينية التى اغتصبها المحتلون. تبدأ من تلك الأزقة والشوارع والبيوت ومزارع الزيتون.
لم تكن الحياة في الداخل الفلسطيني كحياة المدن كما نعيشها الآن. أغلب هذه المدن كانت تجمعات لقرى صغيرة تعدادها السكاني قليل، ترتبط أوصارها باللحمة والنسب والقربى، لا تستطيع فصلها عن بعضها البعض. يقول أحدهم: "أنت مش بس بتعرف الحارة وأهلها، أنت بتكون حافظ شوارع وبيوت المدينة متل الكف..".
عكا - على شاطئ البحر المتوسط.. إذا قمت بحثت عنها على محرك البحث "جوجل" ستُظهر لك النتائج: عكا.. مدينة في إسرائيل!
هذه المدينة التى يعود تاريخ نشأتها في ذات البقعة من الأرض إلى ما قبل حتى ظهور الديانة اليهودية - فما بالك بالإسرائليين - تعتبر الآن جزء من دولة الاحتلال، التي دخل وجودها عقده الثامن للتو.
تعود أصول عائلتي لأمي إلى أحمد باشا الجزار والي عكا - كما روى لي جدي - هذا الوالي العثماني الذي استبسل في مقاومة الغزو الفرنسي للمدينة القديمة صاحبة الميناء الهام الرابط بين مصر والشام. بعد حصار شهرين نجح أحمد باشا الجزار والحامية العسكرية للمدينة في إفشال الحصار الذي فرضه نابليون بونابرت عليها، وأجبره في النهاية على الانسحاب إلى مصر.
مقاومة المحتل الفرنسي بالبنادق والمدافع والصمود على أسوار المدينة لم يطلق عليها أحد وقتها إرهابًا. إذ لم يكن المصطلح قد تم صكه بعد من قبل الإمبراطوريات الاستعمارية.
الدم على الأرض خريطة
في الأردن، ومفتاح بيته معلق برقبته، يقبع عجوز فلسطينى جاوز التسعين من عمره، نزحت عائلته ضمن من هجروا قسرا من أراضيهم في عكا، يرسم خريطة كروكي لمنزل عائلته بالشوارع والبيوت التى حوله - يحفظ الطريق إلى المنزل عن ظهر قلب حتى بعد 70 عاما - يسلم الخريطة إلى ابن أخيه الراغب في البحث عن بيت العائلة وأصوله فى عكا التي لم يزورها قط في حياته.. البيت فى فلسطين القديمة، التاريخية التي لن تنمحي آثرها مهما حاولوا جعلها في طي الكتمان.
"فكرنا أنه أسبوع وبنرجع ع بيوتنا.. أبوي ضل بصعوبة حتى يدير باله ع بيوت العيلة.. وبالآخر راح كلشي"؛ تقول سيدة عجوز - إحدى أقارب هذا الشاب ممن ظلوا في عكا إبان النكبة - راح كل شي ما عدا البيت و24 شجرة من أشجار السرو التى زرعوها سكانه لتحيط به.. بقى البيت شاهدا على كل الأحداث التى جرت منذ ذلك الزمن البعيد، حيث قاومت العائلة وبقى أفرادها لحماية منازلهم حتى أخذوا بالقوة المسلحة!
الانتفاضة
عاش فلسطنيو الداخل حياة مريرة يصارعون الاحتلال يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة، فاض بهم الكيل فألتقطوا أول ما التقطوا حجارة بيوتهم التى أزالها الصهيونيين ورشقوهم بها.. فكانت الانتفاضة الأولى، قاوم الفلسطنيون الدبابات والمدافع الأسرائيلية بالحجارة والنبال والبنادق التي ورثوها عن أجدادهم.. مقاومة لنيل الحق في الاعتراف بالوجود، والانتماء إلى هذه الأرض، ولمحاولة لم شمل قادتهم الذين فرقوا في أنحاء الأرض.
المقاومة.. هذا الحق غير المعترف به للشعوب المتحلة من قبل الإمبرياليات الحديثة، ففي ظل الأفكار التي يصدرونها، كل من يرفع السلاح ضد محتل لبلاده فهو إرهابي، فأصبح الإرهاب هو منفذهم الوحيد لدحض فكرة المقاومة.. إلا - طبعا - إذا كانت هذه المقاومة صادرة عن الإنسان الأبيض الذي له كل الحقوق الموكلة في القانون الدولي وليس لسواه!
وأنا هنا لا أتجنى على المجتمع الدولي ومن يتحكمون فيه، ولكن هل رأيتم تصريح لأى مسؤول أمريكي أو أوروبي يصف المقاومة الأوكرانية للمحتل الروسي بالإرهاب! هل أدانت فرنسا مواطنيها الذين حملوا السلاح في وجه المغتصب النازى؟! .. فلماذا إذا ندين الفلسطنيين.
يعترف القانون الدولي عن طريق اتفاقية جينف بحق الشعوب في مقاومة المعتدى، ويعترف مجلس الأمن في قراره رقم 242 أن إسرائيل هي دولة احتلال، وأن كافة الأراضي التى احتلها الكيان الصهيوني عام 1967 في نظر المجتمع الدولي هي أراض مستقلة، لشعبها الحق في تقرير مصيره بكافة الوسائل المناسبة.. والتي من ضمنها المقاومة المسلحة.
إن المقاومة المسلحة ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي تمتلك الشرعية الدولية بنص الاتفاقيات والمواثيق الدولية، وكذلك بقرارات مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة، وقد أوردت اتفاقية جينف وملحقاتها التوصيف والتعريف والاعتراف كذلك بحق الشعوب فى المقاومة المسلحة واسترداد الأرض، وما يستحقونه من حماية ودعم خلال ممارستهم لهذا الحق، واعتبارهم أسري حرب لدى المعاملات الدولية وليس إرهابيين أو مسجونين لدى دولة الاحتلال.
إن مقاومة الفصائل الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، لا تمثل اعتداء على الكيان الصهيوني الذي يمارس منذ ما يقارب العشرين عاما حصارا على هذه الأراضي وفصلا عنصريا لأهلها.. إن ما بدأه الفلسطنيون بهذه الانتفاضة الجديدة هو بكل بساطة حق.. ونحن يجب علينا ألا ننسى ذلك.