في مؤتمره الصحفي الثاني، مضى فريد زهران المرشح لانتخابات الرئاسة خطوة أبعد في خطابه السياسي. يتميز زهران، كسياسي مخضرم برؤية شديدة الواقعية، مدفوعة بتصور محدد لتغيير الواقع من خلال الاشتباك واتخاذ مواقف نضالية. ويتميز أيضًا بامتلاكه رؤية تحليلية تعينه على رسم ملامح لوضع شديد التعقيد محليًا وإقليميًا في غيبة تامة للمعلومات التي قد تنير الطريق، مما يجعله قادرًا على تلمس خطواته بحذر شديد وسط طرقات مليئة بالمنحدرات والمنعطفات والصخور المتناثرة، تنتهي إلى طرق مسدودة بإحكام.
كل الحسابات تؤكد أنه يخوض معركة انتخابية خاسرة وتدعوه إلى الانسحاب من الانتخابات. واقعية فريد قد تقوده إلى التسليم بهذه النتيجة المقررة سلفًا في ظل معركة انتخابية غير متكافئة تمامًا في مواجهة رئيس يملك كل الصلاحيات يجلس على قمة هرم مؤسسات أمنية عتيدة قادرة على التلاعب بمصير أي شخص بأسانيد قانونية أو بدونها، لكن روحه النضالية تدفعه إلى مواصلة المعركة والاشتباك من أجل الفوز في الانتخابات بالرغم من كل هذه الظروف أو انتزاع ما يمكن انتزاعه من مكاسب صغيرة قد تحسن من شروط العمل السياسي في بلد السياسة فيه غائبة إن لم تكن قد ماتت بالفعل.
اقرأ أيضًا:"الصحفيين" تحتفي بمبادرة "فكر تاني" لإعادة المصريين العالقين في غزة
يحمل فريد زهران المحلل السياسي رسالة تحذير أطلقها في مؤتمره الصحفي الأول من أن استمرار النهج الذي تسير عليها السلطة الحاكمة في مصر سيؤدي إلى انفجار لن يستطيع أحد أن يحتويه، علاوة على أن القوى السياسية التي تمكنت من احتواء الموقف في ثورة 25 يناير لم تعد موجودة بعد عقد من التجريف السياسي، وهي الرسالة التي كررها في مؤتمره الصحفي الثاني مع إشارة إلى استنتاج من خلال تحليل المواقف لا تدعمه معلومات عن وجود دوائر في أجهزة الدولة ترى الوضع هكذا وتضغط من أجل تغيير السياسات إذا تعذر تغيير الأشخاص. لكن فريد في مؤتمره الصحفي الثاني أشار إلى أنه قد يكون مرشح التغيير السلمي والآمن المنشود للحيلولة دون حدوث انفجار يؤدي إلى الفوضى في منطقة مضطربة، ملوحًا إلى إيمان أو ربما بالأمل في فوز يكاد يكون مستحيلًا في ظل الأوضاع الداخلية والإقليمية.
ويكشف تحليل كلمة فريد زهران وكلمات بعض الشخصيات العامة الداعمة لترشيحه في المؤتمر الصحفي الذي عقد مساء الخميس في القاهرة فجوة أخرى كبيرة بين حلم استعادة السياسة المسلوبة لمصر والمصريين وبين واقع ينضح كل ما فيه بغيابها بعد عقود من التجريف. ولم يكن خطاب فريد موجهًا للسلطة وحدها وإنما كان موجهًا للمعارضة والنخبة السياسية أيضًا.
الرسالة وصلت وهذا ردنا عليها
في بداية كلمته، أشار فريد زهران إلى أنه رأى في قرار النيابة إحالة المرشح الرئاسي المحتمل أحمد الطنطاوي وأعضاء من حملته للمحاكمة، رسالة موجهة له شخصيًا، مؤكدًا أن الرسالة وصلت وأن رده هو مواصلة معركته الانتخابية أملًا في تغيير يفتح الطريق أمام تغيير للسياسات ترسمه القرارات العشرة الأولى التي سيتخذها كرئيس للجمهورية بعد فوزه في الانتخابات والتي تشير إلى وجود بدائل عملية وقابلة للتحقق للسياسات الراهنة. وتضمنت كلمة زهران وكلمات شخصيات أخرى تحدثت، تنديدًا واضحًا للإصرار على سجن نشطاء بسبب آرائهم السياسية معتقلين دون محاكمة، مطالبين بضرورة العمل والضغط من أجل إنهاء هذا الوضع.
وقال فريد إن من حق الطنطاوي ومن حقه ومن حق أي شخص يتقدم للترشح لمنصب رئيس الجمهورية وأن هذا المنصب ليس حكرًا على أحد أو على فئة وأن في مصر كثيرون يستطيعون شغل هذا المنصب والوفاء بأعبائه والتزاماته على خير وجه. فما بالنا إذا كان المرشح لهذا المنصب رئيس حزب سياسي وينتمي لتجمع أحزاب الحركة المدنية المعارض.
وردا على بعض الآراء التي دعته لعدم الترشح أو للانسحاب من الانتخابات لعدم توفر شروط تضمن نزاهة الانتخابات، تساءل زهران متى كانت هناك نزاهة للانتخابات في مصر، مستعرضًا تاريخ الانتخابات المصرية عبر العصور الحديثة المختلفة مؤكدًا أن مصر لم تعرف في أي مرحلة من مراحل تاريخها السياسي نزاهة الانتخابات، لكن هذا لا يعني أن نقول ذلك ونجلس نتابع وننتظر إلى أن تتحقق نزاهة الانتخابات، ذلك أن تحقيق هذا الهدف عمل نضالي مستمر ومتواصل وأن الإصرار على الترشح وخوض الانتخابات على كل المستويات أساسي في هذا النضال من أجل تغيير هذا الوضع، فنزاهة الانتخابات لن تتحقق لأن السلطة راجعت موقفها ورأت أن من الأفضل لها أن تكون هناك شروطًا تضمن نزاهة الانتخابات، مشيرًا إلى أن قرار ترشيحه يوجه رسالة بأن هناك بدائل للوجوه وبدائل للسياسات الكارثية الراهنة.
وفي معرض حديثه عن الحرب في غزة والمجازر التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني الذي أعلن انحيازه الكامل له في كفاحه من أجل الحصول على حقوقه المشروعة وفي معركته لتحرير فلسطين، رد فريد على بعض من يرددون من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أن الحرب والأوضاع الإقليمية والتحديات الأمنية الراهنة تتطلب رئيسًا له خلفية عسكرية، وقال إن رئيس الجمهورية منصب سياسي مدني في المقام الأول وهو ليس حكرًا على العسكريين أو على مرشح يدعمه الجيش، وإنه كرئيس قادر على التعامل مع الجيش ومع مؤسسات الدولة الأخرى في حدود الصلاحيات التي يخولها الدستور لرئيس الجمهورية وقادر على إدارة الحرب، مشيرًا إلى أن هذا هو الوضع الطبيعي في أي بلد في العالم، وأن ما يردده البعض هو أمر غير طبيعي ومستغرب، وأن الرئيس السيسي لم يعد شخصية عسكرية منذ اليوم الأول لترشحه.
وتساءل ما الذي يحول دون التعاون بين رئيس مدني وبين القوات المسلحة المصرية وقادة الجيش، مؤكدًا أن الجيش المصري يحترم الشرعية والدستور ويعمل في إطارهما. وتضمن برنامجه الانتخابي المكتوب تصورات محددة وعملية للتعامل مع التحديات الإقليمية ومن بينها وفي مقدمتها تحدي الوضع في غزة وملف سد النهضة، مؤكدا ضرورة وأهمية أن تستعيد مصر ريادتها الإقليمية والعالمية.
بعث السياسة
الحديث عن غياب السياسة وما قد يترتب عليه كان حاضرًا بقوة في كلمة فريد زهران وكلمات بعض المتحدثين، وخصوصًا كلمة إسراء عبد الفتاح، من مؤسسي حركة 6 إبريل والكاتبة الصحفية، التي أعلنت تأييدها لترشح زهران، أملًا في أن يعيد هذا الترشح السياسة التي غيبت وغابت عن المجتمع. وأشار زهران إلى أن الإصرار على تغييب السياسة وسجن السياسيين والنشطاء هو الذي سيتسبب في الفوضى التي يخشاها الناس وتحذر السلطة من حدوثها، مؤكدًا أن البلاد التي يُشار إليها كنماذج للفوضى مثل السودان وليبيا وسوريا تدهورت فيها الأوضاع التي أوصلتها إلى الفوضى نتيجة لغياب السياسة والممارسات الاستبدادية، وأن مصر ليست استثناء إذا استمر تغييب السياسة ومصادرة العمل السياسي وتأميمه.
غير أن الفجوة كبيرة بين الهدف الذي أعلنه المرشح الرئاسي والواقع الذي يعكس تدهورًا شديدًا على مستوى الخطاب السياسي وعلى مستوى الممارسة أيضًا، ويتجلى هذا الوضع في البرنامج الانتخابي المكتوب الذي خلا تماما من أي صياغة سياسية محترفة تدل على أن من كتبه كوادر سياسية في حزب سياسي.
اقرأ أيضًا:الإعاقة والحرب..الصدمة المركبة
فالبرنامج على مستوى الأفكار والصياغة أقرب إلى إنتاج منظمة مجتمع مدني أو مركز أبحاث ولا ينم عن أي مستوى من مستويات الكادر الحزبي المدرب. قد تكون تجربة أن يتولى شبان كتابة البرنامج الانتخابي لمرشح رئاسي مبادرة محمودة وتستحق التحية لكن أن يوكل الأمر كله للشباب فهو أمر يتطلب المراجعة، خصوصًا أن من الدوائر المحيطة بالمرشح الرئاسي فريد زهران من يمتلكون الأهلية والجدارة لصياغة البرنامج الصياغة السياسية الأمثل، وأن يوضع برنامج سياسي أكثر تمثيلاً للقوى السياسية المختلفة وتطلعاتها ومعبرًا عن أولويات تستقطب أغلبية الناخبين. وأعتقد أن كتيب البرنامج السياسي الذي وزع في المؤتمر الصحفي وقرأته بالكامل يحتاج إلى إعادة صياغة جذرية بل يحتاج إلى أن يكون ثمرة تعبر عن التحالفات والتوازنات السياسية الأوسع من الأحزاب الداعمة بشكل رئيسي لترشح زهران.
أعتقد أن مهمة بعث السياسة لا تزال بيد زهران كرئيس لحزب سياسي هو الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وأن الخطوة الأولى على هذا الطريق هي تقريب الفجوة بين خطاب رئيس الحزب وخطاب أعضاء الحزب الذين تحدثوا بحكم دورهم في إعداد هذا الكتيب. وأعتقد أن في الحزب كوادر قادرة على التحدث بشكل أفضل، وقد تحدث القليل منهم بالأمس، خصوصًا في الملف الحقوقي وملف الحريات، ومن واقع خبرتهم المباشرة.
إن الأحزاب هي الركن الأساسي في بناء المجال السياسي العام وفي بناء المجتمع السياسي، وهو مختلف تمامًا من حيث الفلسفة والرؤية والمنهج عن المجتمع المدني ومنظماته. والأحزاب في مصر بحاجة ماسة لعملية شاملة للانتقال من مرحلة تشكيل أو إنشاء الحزب إلى مرحلة بناء الحزب بناء مؤسسيًا وقاعديًا وأن يتحول الحزب لمدرسة للممارسة السياسية والقدرة على إنتاج خطابات سياسية، تعبر عن معرفة ووعي بما تعنيه السياسة قولاً وفعلاً.
إن مهمة بعث السياسية ليس ميدانها معركة انتخابات الرئاسة وإنما ميدانها الحقيقي العمل الحزبي المؤسسي الهادف وهو مقدمة وشرط للولوج إلى ميادين السياسة الأخرى والتنافس على المناصب العامة، وألا يكون الأمر رهنًا بملكات وقدرات ومهارات فردية خاصة قد يتمتع بها البعض، كموهبة واستعداد فطري أو نتيجة للخبرة المتراكمة.
أتمنى أن تعكس الطبعات الأخرى للبرنامج الانتخابي لفريد زهران هذا التضافر بين الجيل الأكبر المخضرم الذي تمرس في العمل السياسي والنقابي والنضال في حركات وأحزاب مختلفة وجيل الشباب، فهكذا تنتقل الخبرات من خلال الممارسة العملية وهكذا تبعث السياسة في هذا المجتمع.
أيضًا، أتمنى أن تكون المؤتمرات الصحفية والمؤتمرات العامة القادمة مناسبة لأن يقدم فريد زهران فريقه الرئاسي كما نرى في الحملات الانتخابية في الدول التي لديها ممارسات ديمقراطية راسخة وأن تضيق الفجوة بين مستوى أدائه الخطابي والسياسي وبين مستوى أداء أعضاء فريقه الذين من المفترض أن يتولوا مسؤولية ملفات محددة كالدفاع والخارجية والأمن والتعليم والصحة والاقتصاد والمالية، ففي هذا إشارة واضحة على الانتقال من أسلوب الزعامة إلى أسلوب العمل السياسي المؤسسي الذي يعكس رغبة صادقة وجادة في إحداث تغيير في أساليب العمل وفي ممارسة الحكم.
إن أحد المشكلات الكبرى وربما العيوب التي عطلت التطور السياسي في مصر هو إصرار من يتصدرون العمل السياسي على أسلوب الخطابة وأساليب الزعامة، الأمر الذي يؤدي غالبًا إلى خطاب مفارق للواقع ومفرط في الخيال ولا يؤدي إلى سياسات واقعية وقابلة للتنفيذ.
إن الطريق لإعادة بناء المجال السياسي في مصر طريق طويل وشاق، وهو الجوهر الحقيقي لنضالنا من أجل حرية الاجتماع والتنظيم، وإعادة بعث السياسة في مصر مهمة وطنية، ذلك أن التجريف الحادث وحرمان المجتمع من قدراته التنظيمية ومهاراته السياسية يحرم المجتمع من قدرته على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
لتكن انتخابات الرئاسة فرصة لفتح هذا الملف.