على مدار خمسة أعوام من زواجها تعرضت "هدى عبدالله"، التي تسكن في نجع حمادي قريبًا من مدينة مصنع الألمونيوم في قنا بجنوب مصر، لإجهاض متتالي خسرت فيه ثلاثة أجنة قبل أن ترزق بابنها "علي"، لتكتشف لاحقًا أنه مثلها وقع ضحية للتلوث البيئي الذي تسبب في موت أشقائه الأجنة في رحم أمه.
لم تشك "هدى" للحظة في أن أمرًا غريبًا يعتريها. كانت تعاني من آلام متكررة بالمعدة، واضطرابات في الجهاز الهضمي، والأنيميا، ونوبات نسيان. لكنها، لم تكن تهتم كثيرًا لهذه الأعراض، حتى أتم طفلها "علي" عامه الأول وحاول المشي فلم يتمكن.
تم تشخيص إصابة الطفل بليونة العظام "الكساح"، وتضمن علاجه الحقن بمكملات الكالسيوم وفيتامين د. وبعد مرور عامه الثاني لوحظ عليه التأخر بالكلام، ليخضع لرحلة جلسات تخاطب دامت عامين، دون أن تحرز تقدمًا ملحوظًا؛ إذ بدا واضحًا للأخصائيين انخفاض مستوى ذكائه، وصعوبات التعلم لديه، حتى قررت الأسرة السفر إلى القاهرة لعرض حالة ابنهما على طبيب في المركز القومي للبحوث.
التسمم بالمعادن الثقيلة
"الدكتور خلانا عملنا تحليل المعادن الثقيلة وقال إن علي عنده تسمم ألومنيوم ورصاص، ولما عرف إننا ساكنين عند مدينة الألمونيوم قال إننا لازم نسيب المكان ده، وكتب لابني على زيت (المورينجا) ومكملات غذائية لسحب المعادن الثقيلة من جسمه".
اقرأ أيضًا: مصر في اتجاه الاقتصاد الأخضر
"هدى" التي تعرضت لأبخرة مصنع الألمونيوم اكتشفت أنها أيضًا مصابة وأن هذه الإصابة انتقلت لأجنتها عبر المشيمة متسببة في وفاتهم، مع ظهور خلل في الخلايا والنواقل العصبية عند طفلها "علي".
أخبرها الطبيب أن أي أطفال ستحاول إنجابهم في المستقبل سيكونون عرضة للإصابة نفسها.
يُعرف التسمم بالمعادن الثقيلة بأنه الحالة المرضية الناجمة عن التراكم السُمي للمعادن الثقيلة في الأنسجة الرخوة. ومن الأمثلة على هذا النمط من المعادن: الرصاص، الزئبق، الألومنيوم، النحاس. وتدخل فلزات هذه المعادن للجسم بتناول الغذاء أو الماء الملوثين بها، كما يتم استنشاقه من الهواء أو امتصاصه عن طريق الجلد.

التلوث بغازات المصانع
لم تكن "فرح" اجتازت عامها الأول حتى ظهرت عليها أعراض حساسية الصدر. ازدادت حدة سعالها بشكل حرمها من النوم الهادئ، وعانت من ضيق التنفس، وهو الأمر الذي أثار قلق والديها العشرينيين اللذين يعيشان في منطقة حلوان، جنوبي القاهرة، فقررا استشارة طبيب أمراض صدرية.
"كان عندها كحة ببلغم، افتكرناها نزلة برد لحد ما لاقيت صدرها بيزيء ومش قادرة تاخد نفسها، وديناها للدكتور قالنا إن فرح حصل لها التهاب عمل تورم وضيق بالممرات الهوائية، بسبب تلوث مصنع الإسمنت القريب من بيتنا"؛ تقول والدتها "منى".
خضعت الرضيعة "فرح" لجلسات علاج بالأكسجين، بينما نصح طبيبها الأبوين بنقل مكان سكنهما خارج حلوان.
يظهر موقع مؤشر جودة الهواء أن جودة الهواء في حلوان سيئة تبلغ 76 درجة، ما يجعلها غير صحية للمصابين بالحساسية.
ومؤخرًا حلت مصر في المرتبة التاسعة بلائحة الدول الأكثر تلوثًا في العالم، والرابعة عربيًا، بحسب تقرير "آي كيو اير" الجديد، الذي يقيس جودة الهواء، والذي يحذر من ازدياد حالات الإصابة بالأمراض المزمنة والأمراض التنفسية والآثار الخطيرة على الصحة العامة للإنسان ولا سيما الأطفال.
وسبق أن أظهر مؤشر تلوث الهواء خلال العام 2021، أن مصر تحتل المركز الـ 27 من بين 117 دولة، بعدما قُدّرت القراءة السنوية لمؤشر كثافة الجسيمات الدقيقة والخطرة المحمولة جوًا والمعروفة باسم PM2.5 نحو 29.1 ميكروجرام في كل متر مكعب من الهواء، بحسب البيانات التي جمعتها شركة آي كيو أير السويسرية لتكنولوجيا مراقبة التلوث وجودة الهواء، وهو ما يؤكد ازدياد معدلات التلوث في مصر على نحو مخيف خلال عامين.
الأطفال والتلوث البيئي
وبحسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في 2018، فإن حوالي 93% من أطفال العالم دون سن 15 عامًا (1.8 مليار طفل) يتنفسون كل يوم هواءً ملوثًا إلى حد يعرض صحتهم ونموهم لخطر جسيم.
وتقدر منظمة الصحة العالمية أنه في عام 2016، توفي 600 ألف طفل بسبب التهابات الجهاز التنفسي السفلي الحادة الناجمة عن الهواء الملوث.
كما يزيد الهواء الملوث خطر الإصابة بالربو والأورام الخبيثة لدى الأطفال، فضلًا عن الأمراض المزمنة كأمراض القلب والأوعية الدموية وضعف وظائف الرئة والالتهاب الرئوي والتقزٌم بين الأطفال. كما يتأثر النمو العصبي للأطفال وقدراتهم المعرفية بالسلب. بينما يؤدي تعرض الحوامل إلى الهواء الملوث لزيادة احتمالية الولادة المبكرة ونقص وزن المواليد، ونسبة 20% من وفيات حديثي الولادة.
اقرأ أيضًا: التغيرات المناخية والاقتصاد الأخضر وأثرهما على مظاهر الحياة المختلفة
ويعد الأطفال وكبار السن وأولئك الذين يعانون من أمراض الرئة أو القلب معرضون بشكل خاص لتأثيرات الجزيئات الدقيقة في الهواء.
وبشكل عام، فإن الأجنة والأطفال والمراهقون الأكثر عرضة لخطر التلوث لأن أجسامهم وأعضائهم وجهازهم المناعي لا يزال قيد التطور.
ووفقًا للتقديرات، فإن هناك أكثر من 1200 حالة وفاة بين الأطفال دون الـ18 عامًا كل عام ناتجة عن تلوث الهواء في المنطقة الاقتصادية الأوروبية والدول المتعاونة وحدها، ويتسبب تلوث الهواء كذلك في انخفاض الوزن عند الولادة، والربو، وانخفاض وظائف الرئة، والتهابات الجهاز التنفسي والحساسية لدى الأطفال والمراهقين.
كما تتأثر الصحة العقلية سلبًا بين الأطفال الذين يتعرضون لكميات كبيرة من الهواء الملوث، إلى جانب الصحة العضوية، بحسب ما خلصت إليه دراسة علمية أجراها باحثون من جامعة ديوك بالولايات المتحدة، منشورة في مجلة الرابطة الطبية الأميركية "جاما نيتورك".
أضرار عقلية خطيرة
في حديثه لـ"فكّر تاني"، يؤكد الدكتور محمود محمد عمرو، أستاذ الطب المهني والبيئي واستشاري الأمراض الصدرية بكلية طب قصر العيني، أن السموم الناتجة عن التلوث البيئي تؤثر على الأطفال منذ مرحلة تكون الجنين.
ويضيف "عمرو" وهو مؤسس المركز القومي للسموم في مصر، أن الضرر الذي يلحق بالأجنة يشمل الجهاز العصبي، وبالتالي تزداد نسبة أعداد الأطفال المصابين بالتخلف العقلي أو التقزٌم أو العيوب الخلقية الأخرى، ومنها عيوب صمامات القلب والأمراض الجينية، فضلًا عن الاضطرابات مثل طيف التوحد، ومتلازمة بيكا أو شهوة الغرائب والتشنجات والصرع.
بينما يتضرر في الكبار الجهاز التنفسي والعصبي والمناعة والكبد والجلد والعيون، وفق "عمرو" الذي يلفت إلى أن النسبة الآمنة لوجود الرصاص في الهواء تكون أقل من 1 ميكرون، لكنها موجودة في مصانع مصر بنحو 55 ميكرون أو أكثر.
الكل مصاب بالتلوث البيئي
يُعرف الدكتور أحمد ممدوح، استشاري التغذية العلاجية وتغذية التوحد والاضطرابات النمائية والمُدرس بكلية العلاج الطبيعي، تلوث البيئة بأنه يشمل أي تغيير في طبيعة الماء أو الهواء أو التربة. وهذا التلوث يتسبب في تغيير سلوك الجينات ويضعف عملها، ما يؤثر سلبًا على تطور الأطفال.
ويقول "ممدوح"، في حديثه لـ"فكر تاني": "ليس سكان المناطق الصناعية وحدهم الأكثر عرضة لملوثات الهواء بل سكان المدن والأحياء التي تخدمها شبكات ضخ مياه شرب متهالكة. وليس هناك دليل أفضل من لحام وصلات مواسير المياه النحاسية الموصلة للمنازل بواسطة الرصاص. تخيل أن تحدث تشققات داخلية بالمواسير. وقتها، تتسرب جزيئات من الرصاص في مياه الشرب فتلوثها، ويزيد تسخين المياه من هذه الترسبات. وكذلك الأمر مع دهانات الأثاث والحوائط القديمة المشتقة من أحد مصادر الرصاص وتنقل جزيئاته باللمس أو من خلال الاستنشاق"، مُحذرًا من ألعاب الأطفال المعدنية والصلصال، لأن كليهما من مسببات تسمم الرصاص.