أن تغرق في سوائل رئتيك.. الموت بالفسفور في غزة

هل جربت إحساس الغرق؟ هل قذفك أحدهم يومًا إلى البحر كي يعلمك كيف تعوم، فأحسست بالاختناق والماء يملأ رئتيك تقاوم كي تعود إلى السطح لتأخذ جرعة من الأكسجين، لكنك لا تستطيع؟

ربما جربت هذا الإحساس.

تخيل الآن أن قذيفة تصيب بيتك.. فتصارع الوقت والأنفاس كي تلملم شتات نفسك من الصدمة.. تحاول الخروج وحماية عائلتك، ثم فجأة.. مع محاولتك التقاط نفس آخر تشعر بالاحتراق!.. تكشف عن صدرك، ربما أصابتك شظية ما، لكن لا توجد أي إصابة واضحة.. ينزف أنفك.. وتكح دمًا.. تكتشف أن ما يحدث هو ذوبان شعيراتك الدموية.. قصبتك الهوائية ورئتيك.. أنت الآن تغرق في سوائلك.. تموت بالفسفور.

هذا ما اختبره الفلسطينيون في غزة مؤخرًا مع قنابل الفسفور الأبيض (المحرمة دوليًا) التي ألقتها قوات الاحتلال في الحرب على القطاع، مضيفةً جريمة حرب جديدة إلى سجلها.

القانون الدولي الإنساني

يعُرف القانون الدولي الإنساني بأنه مجموعة من القواعد التي ترمي إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة لدوافع إنسانية. ويحمي هذا القانون الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة أو بشكل فعال في الأعمال العدائية أو الذين كفوا عن المشاركة فيها مباشرة أو بشكل فعال، كما أنه يفرض قيودًا على وسائل الحرب وأساليبها، ضمن ما يُعرف أيضًا بـ”قانون الحرب” أو “قانون النزاعات المسلحة”.

بدأ القانون في التشكل منذ القرن التاسع عشر بتحديد الأفعال التي يمكن إجراؤها أو من المحرم إجراؤها في زمن الحرب، في محاولة للحد من آثار النزاعات المسلحة لاعتبارات إنسانية، وتتكون النواة الرئيسية للقانون الدولي الإنساني من اتفاقيات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها الإضافية، ذلك بالإضافة إلى أكثر من عشر اتفاقيات ومعاهدات تحظر استخدام وسائل وأساليب معينة للحرب وتحمي فئات إنسانية بعينها من آثار الأعمال العدائية.

ولكى تتحقق العدالة العمياء، فإن القانون الدولي الإنساني يتم تطبيقه على أطراف النزاع بالتساوي، بغض النظر عن الطرف الذي بدء القتال، وبغض النظر عن دوافعه.

غزة

تقع منطقة قطاع غزة برمتها تحت سيطرة سلطة حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) منذ عام 2006 حين فازت (حماس) بمقاعد الأغلبية في الانتخابات التشريعية الفلسطينية وكونت – وقتها – حكومة السلطة الفلسطينية قبل أن يتقاتل طرفا هذه السلطة نفسها وتنقسم الفصائل بسيطرة (فتح) على الضفة الغربية ممثلة للحكومة الفلسطينية، وسيطرة (حماس) على قطاع غزة ممثلة نوعًا من الحكم الذاتي، لكن المليوني نسمة الذين يكونون سكان القطاع ليس كلهم أعضاء لحركة المقاومة الفلسطينية (حماس)؛ فأكثرهم مدنين عُزل لا ناقة لهم ولا جمل فيها سوى أنهم محاصرون في ذاك القطاع منذ عام 2008 مع سلطتهم من قبل الاحتلال الإسرائيلي.

في السابع من أكتوبر، بدأت حركة (حماس) عملية نوعية هي الأولى من نوعها على الحدود الفاصلة بينها وبين الأراضي الفلسطينية المحتلة، نتج عنها قرابة 1400 قتيل إسرائيلي، وأسر أكثر 150 من الجنود والمستوطنين وإصابة ما يزيد عن 2500 شخص بإصابات متنوعة.

ردًا على ذلك، قررت قوات الاحتلال الإسرائيلي الانتقام للصفعة التي لحقت بغطرسة أجهزة مخابراتها الأمنية على حين غرة، فأطلقت حربًا بغارات جوية عنيفة على كل القطاع.. انتقام لغفلتها، ولمجرد تصور الفلسطينيون أن لديهم القدرة على تكبديها كل هذه الخسائر.

فكيف انتقمت! بارتكاب كل جريمة حرب نص عليها الكتاب.

أعلنت قوات الاحتلال الإسرائيلي حالة الحرب والاستنفار العام، وفي التاسع من أكتوبر -بعد ثلاثة أيام من العملية- فرضت إسرائيل الحصار الكامل على قطاع غزة، بل وأعلن وزير الدفاع الإسرائيلي في مؤتمر صحفي “نحن نقاتل حيوانات وسوف نتصرف وفقًا لذلك”… تمنع إسرائيل منذ التاسع من أكتوبر، وحتى وقت كتابة هذه السطور، الماء والكهرباء والغذاء والغاز عن قطاع غزة بالكامل في انتهاك لقواعد القانون الدولي الإنساني بحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال.[1]

وفي يومي العاشر والحادي عشر من أكتوبر على التوالي، أكدت منظمات حقوقية دولية تحققها من استخدام قوات الاحتلال الإسرائيلي لقنابل الفسفور الأبيض على تجمعات المدنيين في غزة.

تعتبر قنابل الفسفور الأبيض من القنابل الدخانية التي تستخدم عادة لتمويه العمليات العسكرية البرية، لكنها أيضا – وهو الأهم – قنابل حارقة يكفي أن تؤثر في 10% فقط من جسم الانسان لتكون نجاته مستحيلة، وهو أيضا استخدام مجرم بموجب القانون الدولي الإنساني إذ يحظر القانون في أي حالة أو ظرف جعل المدنيين عرضة لهجوم بالأسلحة المحرقة.[2]

هذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها إسرائيل قذائف الفسفور الأبيض في قصف غزة، بل استخدمتها أيضًا في اجتياح 2008، وسبقتها إلى استخدمها القوات الأمريكية في الفلوجة بالعراق عام 2004.

أكثر من 4 آلاف قتيل فلسطيني هم حصيلة القصف الإسرائيلي المجنون على قطاع غزة؛ نصف هؤلاء من الأطفال والنساء العُزل. عقاب جماعي قررت إسرائيل إنزاله على المدنيين في القطاع لإجبار (حماس) على الاستسلام.

مرة أخرى لا يترك القانون الدولي الإنساني جريمة كهذه دون تعريف، فهو عقاب تمارسه القوة المحتلة ضد الجميع دون تمييز، بمن فيهم المحميين بموجب القانون الدولي في حالة الحرب نتيجة أفعال قام بها بعض الأفراد أو الجماعات أثناء الصراع المسلح[3].

ولا تكتفي إسرائيل بذلك، بل إنها تمارس قصفًا وممنهجًا وتكتيكيًا على منطقة شمال القطاع وسط دعوات من سياسييها وقادة القوات لسكان شمال القطاع بالاتجاه نحو جنوبه، وهو ما يشكل وفقًا للقانون الدولي ليس فقط جريمة حرب، بل أنها جريمة ضد الإنسانية وفقًا لتعريفات المحكمة الجنائية الدولية، وهو محظور بموجب اتفاقية جينف الرابعة.[4]

واستمرارًا في القهر، في 18 من أكتوبر قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلية مستشفى المعمداني المدنية، ما أسفر عن مقتل ما يزيد عن 500 من الجرحى والمرضي، والجثث التي قتلت مرتين، في انتهاك صارخ ليس فقط للقانون الدولي، بل لكل المعاني التي أوجدتها الإنسانية منذ بداية الخليقة.

تحظر المادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة[5] قصف المستشفيات المدنية بأي حال من الأحوال.

وعلى الرغم من ارتكاب إسرائيل والعصابات الصهيونية لجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية التي تصل إلى حد الإبادة الجماعية منذ احتلال الأراضي الفلسطينية، وليس فقط إبان عملية طوفان الأقصى، فإن المجتمع الدولي لم يحرك ساكنًا تجاه إحالة هذه الجرائم ومرتكبيها إلى المحاكمة الجنائية الدولية أو حتى فرض عقوبات دولية على إسرائيل.

يمتلك مجلس الأمن الدولي، بصفته الجهاز التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة -والذي يقع على عاتقه سلطة إنفاذ مبادئها وقوانينها فيما يصدره من قرارات- يمتلك اتخاذ الإجراءات المناسبة وبطريقة حاسمة في حالة عجز السلطات الوطنية البين عن حماية سكانها من جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي- وهو ما يتضح جليًا في مسألة القضية الفلسطينية بشكل عام وفي قطاع غزة على وجه الخصوص. بل أن المجلس لزامًا عليه بنص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أن يحيل إلى نظر المحكمة الجنائية الدولية الحالات التي يبدو فيها أن واحدة أو أكثر من تلك الجرائم قد ارتكبت.

لكن العدالة العمياء لا تصيب الفلسطينيين أبدًا، فالمصالح الدولية والسياسية والاقتصادية التي يغض مجلس الأمن الطرف عنها، إذا تعلقت المسألة بدولة بيضاء – لأنه لا يصح أن يكون الرجل الأبيض مثل غيره من البشر – يضعها مجلس الأمن صوب عينيه مباشرة قبل النظر إلى بشر العالم الثالث وإنسانيتهم وأطفالهم القتلى ونسائهم المستباحة.

تفتقد الشرعة الدولية شرعيتها بما يسمى “حق الفيتو” الذي يمتلكه فقط الدول الخمس دائمة العضوية في الأمم المتحدة- الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية وشكلت وفق ذلك النظام العالمي الجديد وقتها.

يمنع “حق الفيتو” هذا أي مشروع قرار يضر بمصلحة إسرائيل المباشرة، إذ يقول رئيس الولايات المتحدة علنًا، ودون مواربة في مؤتمر صحفي “لو لم تكن هناك إسرائيل لأوجدناها” في انحياز مباشر وغير مبالي، يعرف رئيس الولايات المتحدة أنه وعالمه الجديد يستطيع فرض أي سياسة وأي قرار على الدول الأضعف حظًا، بل إن الولايات المتحدة نفسها لم تحاسب عندما ارتكبت جرائم الحرب في العراق ومن قبلها أفغانستان.. فكيف يحاسب المرء نفسه!

لا يستطيع أحد غير الفلسطينيين أنفسهم أن يحاسبوا قوات الاحتلال على ما ترتكبه ضدهم من جرائم، هم وحدهم القادرون على رد الصاع بمقاومتهم المستمرة بكل الطرق والسبل المتاحة لهم، الشعوب وحدها هي التي يمكنها التحرك نحو القدس لتحريره إذا امتلكوا الإرادة، إلا أن الحال غير ذلك.. فكل الشعوب العربية محتلة من قبل حكوماتها، وكل الحكومات العربية خاضعة لأمريكا لا تمتلك قرار نفسها.

على كل حال، سيكتب التاريخ أنه في السابع من أكتوبر لعام 2023، بدأت مرحلة جديدة في القضية الفلسطينية وستضع المقاومة قواعد جديدة للعبة من شأنها أن تعيير الكثير.

[1] نص المادة (14) من البروتوكول الثاني الإضافي إلى اتفاقيات جنيف المعقودة في 12 آب / أغسطس 1949 المتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية: “يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال. ومن ثم يحظر, توصلاً لذلك, مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري.”

[2] المادة (2) من البروتوكول الثالث بشأن حظر أو تقييد استعمال الأسلحة المحرقة: “يحظر في جميع الظروف جعل السكان المدنيين بصفتهم هذه، أو المدنيين فرادى، أو الأعيان المدنية، محل هجوم بالأسلحة المحرقة.
يحظر في جميع الظروف جعل أي هدف عسكري يقع داخل تجمع مدنيين هدفاً لهجوم أسلحة محرقة تطلق من الجو….”

[3] المادة (33) من اتفاقية جنيف الرابعة: “لا يجوز معاقبة أي شخص محمي عن مخالفة لم يقترفها هو شخصيًا. تحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الإرهاب.”

[4] المادة (49): “يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه.”

[5] المادة (18): “لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية المنظمة لتقديم الرعاية للجرحى والمرضى والعجزة والنساء النفاس، وعلى أطراف النزاع احترامها وحمايتها في جميع الأوقات.”

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة