رأي| رجل الشرطة الذي أتمناه

صُدمت من مشهد احتراق مديرية الأمن بالإسماعيلية وامتلئ قلبي بالحزن والألم من تصور مصير من كانوا بداخله، ولا، لم أفكر فقط في المحتجزين سياسيًا داخله، بل فكرت وحزنت على كل إنسان قضى نحبه في حريق كان يجب وفقًا لأي معايير حديثة للبناء والحماية المدنية أن يتم السيطرة عليه بشكل سريع، فضلًا عن إمكانية توفير تدريبات للخروج منه بشكل منظم في حالة الحريق أو الكوارث، كما يحدث في كل الدول الطبيعية ولا أقول المتقدمة، وأستغل تلك المساحة لأتقدم بعزائي لأهل كل متوفي ومصاب في ذلك الحادث الأليم.

ربما لا يعلم حتى أصدقائي أن جزء مؤثر من طفولتي قضيته داخل أسوار أكاديمية الشرطة. فوالدتي التي كانت تضطر أحيانًا إلى اصطحابي معها إلى محل عملها كموظفة مدنية بالأكاديمية لم تكن تتخيل أن تلك الزيارات سوف تشكل جزء من تصوري عن العالم، يكون فيه رجل الشرطة "إنسان" قبل أي صفة أخرى مكتسبة. إنسان يمكنني أن أتعاطف معه وأن أحبه حتى لو كان فرد في منظومة لا أرضى عن سياساتها. لقد نشأت على أن رجال الشرطة بمختلف أنواعهم (ضباط، أمناء، مجندين) أشخاص مثل غيرهم منهم الودود والمتجهم، السلس البسيط في تعاملاته والمعقد، مناصر الحق الأمين والفاسد الغشيم. ولكن لم أنظر إليهم على أنهم كائنات مختلفة عن باقي البشر.

وكان لذلك أثر كبير في تعاملي مع رجال الشرطة بعد ذلك، حيث لاحظت دومًا حالة من الرعب في تعامل زملائي من النشطاء السياسيين مع رجال الشرطة، أو حالة من التحفز المبالغ فيه – بالنسبة إلىّ -ضدهم، بينما كنت على العكس أتعامل على أساس أنهم مواطنون يرتدون زيًا رسميًا ويقومون بمهمة وطنية واجتماعية محددة حتى لو تجاوزها بعضهم في أحيان كثيرة، وكنت أعجب من تحامل البعض عليهم في مواقف والذعر من ذكرهم في مواقف أخرى.

وربما كان أكثر ما أثار غضبي في عهد الرئيس مبارك هو تسريبات التعذيب داخل مقرات الأجهزة الأمنية بيد رجال الشرطة، وهو التعذيب الذي كان يطال الجميع دون تمييز، كنت أتعاطف مع ضحايا التعذيب قطعًا وأشعر بآلامهم من ناحية ولكن من ناحية أخرى أشعر بالغضب لإهدار "العدل" حيث أنني أؤمن تماما أنه لا يمكن الوصول لاعتراف حقيقي وصحيح تحت التعذيب وكنت أرى التعذيب بجانب وحشيته وآلامه النفسية وسيلة لتدمير منظومة العدالة في مصر، ومن ناحية أخرى كنت أتعاطف – بشكل ما – مع الأفراد الواقع عليهم عبء تنفيذ تلك السياسات المدمرة والمتخلفة في التعامل مع المواطنين، أعلم أن البعض قد يهاجمني لذلك ولكنني لا أستطيع أن أتجاهل – عندما أعدد مساوئ ومفاسد التعذيب – أن جزء كبير من أضرار التعذيب تقع على الشخص المسئول عن التعذيب نفسه – هذا اذا كان شخص سوي ابتداءً – ليتحول تدريجيًا تحت ضغط مهامه لشخص متبلد الإحساس عاجز عن التعاطف مع الآخرين بل وتحاصره الأمراض والتشوهات النفسية لتكليفه بما لا يليق بالبشر. ثم ما ينعكس بعد ذلك على المجتمع الذي يتحول بالتدريج ليرى في تلك الصفات اللا-إنسانية سمات الرجولة والصلابة والقوة والفخر.

تعرضت خلال سنوات نشاطي السياسي إلى العديد من مواقف الاعتقال والاحتجاز حتى أنني لا يمكنني عد المرات التي وضعت الكلابشات في يدي قبل وبعد 2011، ومع ذلك لا أستطيع أن أتذكر رؤيتي لأفراد شرطة بدت عليهم السادية وحب الايذاء إلا في مرات محددة، بينما ظلت أغلب مرات تعاملي مع رجال الشرطة في تلك المواقف دليل على أن كل رجل شرطة هو في الأصل إنسان لديه من الجوانب الطيبة ما قد يعادل أو يتجاوز أحيانًا كثيرة الجوانب السيئة ولكن "المهمة" الموكلة إليه وفقًا للتعليمات الموجهة إليه هي التي يجب أن تتغلب على ميله الفطري للإنسانية وإلا تعرض للعقاب أو التهميش أو الطرد.

ولذلك أعتقد وبشدة أن إصلاح المنظومة السياسية وإتمام التحول الديمقراطي في الدولة يتبعه بالضرورة تغيير مهمة رجال الشرطة، ليصبح أمن المواطن – كل مواطن وليس المواطن صاحب النفوذ

والعلاقات – هي مهمة رجل الشرطة، ولكن لابد وأن الجميع يقول هذا الكلام فما الجديد؟

ما أتمناه أن يصبح رجل الشرطة هو منار الأمن والأمان بالفعل لكل الناس من كل الطبقات، أن يكون مركز الشرطة مركزا لتطبيق القانون وحماية الضعفاء، مكان يمكنني وبكل أريحية أن أدخله مع أطفالي دون أن أخشى تعرضهم لما يصدمهم من سوء معاملة الناس بداخله بل ويمكنني أن أدخله كمتهم دون أن أخشى على سلامتي الجسدية والنفسية فالمتهم برئ حتى تثبت إدانته. أتمنى أن يكون ضابط الشرطة مبادر بطل في أعين الناس بسبب وجوده وسطهم وخروجه من بينهم ودفاعه عن حقوقهم وتضحيته من أجل حمايتهم في الواقع وليس في الأفلام والمسلسلات فقط. أتمنى أن تكون أقسام الشرطة أماكن للدراسة والفهم للجريمة وأسبابها ودوافعها والتآمر ضد المجرمين والفاسدين وملاحقتهم وأن تكون إمكانيات الدولة الحديثة من تجسس وتتبع ومراقبة موجهة بالكامل ضد أصحاب الضمائر الخربة والجرائم المستترة، أتمنى أن يكون رجال الشرطة رجال حق ورجال قانون ورجال دولة ... أتمنى وأؤمن وليس ذلك على الله بعزيز.

.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة