نصف بدوية نصف مصرية..أصدقاء جدد ونظرة جديدة

هربت من ضيق احتمال لما كان يجري في القاهرة، دون نظرة وداع أخيرة لأصدقائي المقربين. لم أكن أبدًا أتخيل حياتي بعيدة عن أصدقائي ولكنني كنت دائمة التخيل لحياتي بعيدًا عن القاهرة. عند وصولي مدينة دهب وتخطيط إقامتي وإيجاد عمل مستقر، واستقرار الأساسيات بدأت مشاعر الحنين تهبط على أنفاسي كوقع حطام هابط من اللا شيء أو كهبوط نيزك يكون صادم التأثير وبلا تفسيرات. كانت نقاشاتي مع أصدقاء القاهرة مليئة بالنقاشات حول الأخلاق والحقوق والحريات ولكن في دهب لم أجد أي أرض مشتركة سوى في مواضيع قليلة معظمها ناتج تجارب شخصية.  

كان سندباد ومارين جاردن – مكان عملي- هما مركز استقراري معظم اليوم. في سندباد كنا أحيانًا نتناول مواضيع حول الدين والسياسة ووضعنا كنازحين مع بعض الفكاهة الطريفة والأحاديث البناءة. في مارين جاردن كنا نتناول الطعام النباتي الشهي وتدور ثرثرتنا حول حقوق الحيوان وحقوق المرأة وتجارب السفر وإنقاذ الحيوانات. كلا المكانين ساعداني على تبني نظرة جديدة في الحياة وفى مقابلة أشخاص أصبحوا أعوانًا في حياتي.

في سندباد كان هناك حسان وسلامة، ساعداني معنويًا وضماني لأسرهم وكان هناك محمود، ابن أخ حسان الذي اضطر إلى النزوح إلى دهب في سن صغيرة، كان لا يزال طفلًا وعانى من ويلات الحرب والفقد في شمال سيناء، وما إن وصل دهب حتى تحولت حياته إلى اهتمام وولع بالدراسة وكان يقتنص كل الفرص ليسألني ويسأل غيري عن كل ما يراوده من أسئلة في منهج دراسي. محمود شخص خفيف الظل محب للطعام وللدعابة فكنا نجلس في ليالي الصيفية على البحر نتبادل الطرائف والفكاهات وأحيانًا الطعام. يشغل محمود مكانة خاصة لديّ فقد اختبرت مشاعر الأخوة معه فكنا نسهر كثيرًا ونشاهد الأفلام والمسلسلات ونتبادل الحديث وأحيانًا نتشاجر كالإخوة الصغار ويحاول الجميع الإصلاح بيننا. في مرة من المرات طال خلافنا حتى شهر كامل ولما كان عيد الفطر ذهبت لزيارة أم فادى – زوجة حسان- وكان الجميع في المنزل وجلسنا نحتسي الشاي، فجاء محمود بجلابية بدوية بيضاء لمعايدة الجميع. كانت أول مرة أراه في الجلابية فضحكت كثيرًا حتى ضحك هو الآخر وجلسنا سويًا نأكل الحلوى ونشرب الشاي ونتحدث ونضحك ونأكل ونتحدث أكثر ونضحك أكثر وأكثر. رب أخ لم تلده أمك.

لدى معظم المصريين من ساكني القاهرة والدلتا والسواحل الشمالية صورة نمطية عن البدو فتصورهم السينما دائماََ بخونة الصراع العربي الإسرائيلي أو بتجار المخدرات أو بتجار السلاح فتتكون صورة في الأذهان بهذا النمط. الحقيقة أنهم كباقي شعوب البسيطة، فيهم الصالح وفيهم الطالح، العالم والجاهل، النبيل والخسيس، الغني والفقير.. إلخ. ولكن لترى هذه الحقيقة فعليك أن تقابل جمعة الذي يفضل أن يُنادى جمعة بكسر الجيم وتعطيشها، چِمعة. هو شاب هادئ، وسيم، رياضي ذو نظرة متأملة في الحياة ينتمي إلى عائلة ميسورة الحال إلى حد كبير. قرر والد جمعة أن يربيه هو وإخوته على الالتزام وعند التعامل معهم تلاحظ اختلافهم وتغيرهم فيسر الحال لم يفسدهم على الإطلاق، بل جميعهم ذو حس رفيع بالمسئولية. بعد حصول چِمعة على دبلوم التجارة ببضع سنوات قرر الالتحاق بالجامعة المفتوحة ودراسة الترجمة وفى خلال سنوات الدراسة، كان شغوفاًَ بالعلم نهماًَ للمعرفة. لم يتوقف عند تخرجه في ٢٠١٩ فظل مستمرًا في حضور ورش العمل عن الترجمة وعلم النفس والمواد التربوية وبعدها بدأ دراسة كل هذه المواضيع على حدة والحصول على المزيد من الشهادات والدبلومات. الآن چِمعة حاصل على لقب اختصاصي نفسي ولديه كارنيه لمزاولة مهنته. رقة مشاعره وبساطة شخصيته وتأملاته ظلوا مصدر إلهام في كل مرة تجاذبنا أطراف الحديث. چِمعة مؤمن بأن لكسر النمطية عن البدو لابد من مساعدتهم على الاندماج في المجتمع عن طريق إتاحة المزيد من المناهج التعليمية المناسبة لخصوصية نمط الحياة البدوية مما قد يساعدهم لاحقًا في الترقي لمناصب قيادية. أتمنى له دوام الطموح وأن يكلل طموحه وعمله بالنجاح.

هؤلاء كانوا رجالاً مميزين، ولكن في مارين جاردن قابلت نساء مميزات. فقابلت شيلا وندى. التقيت ندى في القاهرة بضع مرات فقد كانت نباتية وناشطة في مجال البيئة وكاتبة أيضًا. عندما انتقلت إلى دهب قابلتها مرة أخرى بالصدفة ومن وقتها أصبحنا كالإخوة حتى هاجرت إلى فرنسا في ٢٠٢٠. الغريب في ندى أننا نشبه بعضنا في المظهر كأنها أختي، وكلانا نباتيتان وكلانا نهتم بالحفاظ على البيئة والحقوق والحريات. كان الجميع في دهب يعتقد أننا شقيقتان بسبب الشبه الكبير بيننا. التحقت ندى بالعمل في مارين جاردن بعدي بحوالي ٧ شهور وكانت من أسعد أيام حياتي أن تكون هذه الإنسانة الرقيقة الداعمة إلى جواري معظم الأوقات. وكانت كلتانا محظوظتين بوجود شيلا – جرى الحديث عنها فيما سبق- ودومينيك فكلاهما من السيدات الرائعات يسبقهما الشغف والمعرفة في كل ما ينفذونه.

تظل من أكتر القصص إلهامًا لي، قصة دومينيك الفتاة السويسرية التي جاءت إلى دهب لتستعيد معطفها الذي فقدته أثناء حملة من حملات حماية الكائنات البحرية ووجدته شيلا فاقترحت أن تزورها في مصر. لم تكن تعلم دومينيك الكثير عن مصر ولكن عند زيارتها لدهب وقعت في حبها وجاءت بكل معاطفها وأغراضها إلى هنا. كانت في البداية تعمل في مركز ثقافي فجاءت منظمة sea shepherd لتنظيم حدث توعوي عن المحيطات والكائنات البحرية وهنا انتبهت دومينيك للكثير عن الحقائق المخفية عن الشعوب. في هذه الآونة كانت المنظمة تبحث عن شخص يجيد الفرنسية والألمانية لترجمة الإيميلات فكانت دومينيك. أثناء ترجمة دومينيك الإيميلات اكتشفت المزيد من الحقائق والمعلومات ووقتها قررت التوقف عن الاستمرار في أذى الحيوانات، لتصبج نباتية وكانت المأكولات البحرية هي أول ما توقفت عن تناوله. في دهب قامت دومينيك بالقيام بالكثير من الأعمال التي تخدم الحيوانات وساعدت في علاج وتعقيم أعداد كبيرة بل وساهمت في سفرهم إلى الخارج. أراءها الحقوقية لم تشمل الحيوانات فقط، بل تعاملاتها الإنسانية تتسم بالكثير من التفهم والتعاطف فترفض العنصرية وتبحث وراء الأسباب فترى الثقافة المصرية ثقافة غنية بالدفء والاجتماعات. ما يميز دومينيك دائماًَ قصصها اللامتناهية عن تجارب السفر والإنقاذ والأشخاص متعددي الثقافات الذين قابلتهم خلال مشوارها. تقول دومينيك أن جميع الحيوانات سواء بالنسبة لها ولكن في دهب القطط والكلاب هما مركز اهتمامها لأن هناك الكثير منهم حاليًا وأن كل ما تتمناه هو أن يعم التناغم عالمنا فيشمل البشر والحيوانات. وأنا أيضاً أتمنى أن يشهد جيلنا شيئً من التناغم والتعاطف ونبذ النمطية.

كل من قابلتهم ساعدوني على تنمية شيء ما بداخلي، كنت قد فقدته في طفولتي أو في قسوة الترحال. كلهم ساعدوني على الانتماء والشعور بالاستقرار. كنت شخصًا أكثر انطوائية ومزاجية ولكن إلهامهم المستمر جعلني أقابل شخصيتي الأكثر هدوءً

يتبع…

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة