سجالات عبد الباسط وفلسفة الست

يصعد الحكمدار المسرح “بقُصته” اللامعة المميزة التي هي معيار أصيل وأساسي لمظهره وأداءه وأغانيه، فلا يغيرها أبدًا، تحدث ثورات وتتفشى أوبئة وتذهب حكومات وتأتي أخرى ويتغير العالم بينما هذه “الأوصه” ثابتة لا تتغير، حتى أن لأيقونيه تلك التفصيلة، صديقًا ذات مرة قال لي: أنه يحضّر فيلمًا قصيرًا بعنوان “أوصة عبد الباسط حمودة”.

 يغني ما تيسر من كلاسيكياته ثم ينتقل إلى الأحدث شيئًا فشيئًا، ومن ثم يغني مزيجًا قصيرًا من التراث لوردة وماهر العطار وعبد الحليم، وهنا يضفي خلطته الشعبية “النبطشية” حيث يحيي جمهوره عشرات المرات ويذكر أسماء المدن والأحياء والمحافظات والمناطق والأماكن كتحية خاصة لكل فرد في الحفل، وينتقل إلى أم كلثوم كفقرة استثنائية، لينعي أهل الحب فيقول على لسان الست:

“فات من عمري سنين وسنين.. شفت كتير وقليل عاشقين.. اللي بيشكي حاله لحاله.. واللي بيبكي على مواله.. أهل الحب صحيح مساكين”.

أهل الحب

يشرح عبد الباسط ماهية العلاقات العاطفية الصحية باختزال غير مخل، في إطار تأسيسي لنظرية التبادل العاطفي، في كلاسيكيته الشهيرة “الجو هادي خالص” فيقول “اديني حبك وخد حناني”، وهي مقايضة عادلة تمامًا، وعلاقة شرطية صحية، يقول أيضًا “اديني حب اكتر.. أديك الشوق يا سكر”.

في البدء تجده طرحًا عاديًا تمامًا، فمن الطبيعي أن يتبادل الناس الحب والشوق، ومن الطبيعي أيضًا أن يكون الحب مقابل الحنان أو العكس، بينما أن الحقيقة ليست كذلك، لأن العلاقات العاطفية أعقد من ذلك بكثير، وهو ما تدركه أم كلثوم تمامًا، فتشرح هي ماهية العلاقات “التوكسيك” في أغنيتها الجنائزية الشهيرة “اسأل روحك” على ألحان الموجي ومن كلمات عبد الوهاب محمد، فتقول: “هو حناني عليك قساك حتى عليا”.

تبدو جملة عادية في ظاهرها فنسمعها “وندندنها” دائمًا، بينما تحمل في طياتها فلسفة عميقة لتفنيد سيكولوجية الإنسان، حيث أنك لو أمعنت النظر أو السمع أيهما أقرب، ستسأل نفسك سؤالًا: كيف أن القسوة مقابل الحنان؟ ليس فقط، بل استرسلت أم كلثوم لتقول: “ولا رضايا كمان خلاك تلعب بيا.. ولا تسامح روحي معاك غرك بيا”.

كيف أن كل هذا التضاد يكون مقابلًا لبعضه، كيف أن الحنان والرضا والتسامح، يقابلهم القسوة واللعب والغرور؟

اختصرت أم كلثوم في ثلاث جمل فقط سمة أساسية لدى طرفي العلاقة “التوكسيك” حيث شرحت سيكولوجية الإنسان عندما يكون الطرف الأكثر حماسة وحبًا وتمسكًا فيفرط في العطاء، فيقابله الطرف الآخر بالضد دائمًا فيسحقه تمامًا ليعطيه القسوة مقابل الحنان وهذا هو الجحيم ذاته.

في رأيي أن العلاقات الإنسانية بشكل عام بما فيها العلاقات العاطفية، تدور في معادلة من أربعة أشكال، طرف أكثر حماسة يهتم بنا دائمًا، نكون نحن الطرف الأكثر حماسة ودأب فنهتم نحن بالطرف الآخر، وطرفان يصلان إلى نهاية المدى حيث لا أحد يهتم، وطرفان يتبادلان الاهتمام والحب والحماسة بنفس القدر أو على الأقل بتوازن لا يفسد الأمور، والأخيرة هي دائمًا ما نسعى إليه.

وهذا ما أسميه نظرية التبادل العاطفي الصحي، ومؤكد أن هذه الأشكال ليست ثابتة، فهي من الممكن أن تحدث كلها في علاقة واحدة، أو في مراحل متعددة من العلاقة بتبادل الأدوار، حتى نصل لتلك العلاقة التكاملية- او ما يُدعى بتحقيق العدالة نحو الجهد البديهي في العطاء والتلقي.

يكمل عبد الباسط فلسفته البسيطة للعلاقة الصحية، فيقول: “مادام مفيش مضايقة… تبقى الغزالة رايقة”، المضايقة هنا هو اختزال جامع مانع لكل ما يشوب العلاقات العاطفية من شوائب ويعكر صفوها، تتضمن أتفه الأسباب وأهمها.

بمعنى أنه إذا أردت أن تحافظ على العلاقة سليمة وغير مؤذية فعليك بشيء واحد فقط وهو إحباط أكبر عدد من محاولات المضايقة الممكنة، بالاحتواء تارة، والتغافل تارة، ولو كان من المضايقة بُد، فلا يصبح عليك الصباح حتى تقضي على تلك المضايقة في ليلتها.

تسترسل ثوما في شرح العلاقة غير الصحية فتقول “واهي غلطة ومش هتعود ولو إن الشوق موجود وحنيني إليك موجود.. إنما للصبر حدود”

تصل هنا ثوما لنهاية سرد كلاسيكي ومنطقي تمامًا، فمقدمة ووسط ونهايتها البديهية “إنما للصبر حدود”.

كم مرة أعطيت عذرًا لحبيب على خطأ ما وغفرت له، وتم استحقاق ذلك الغفران، فيعيد الكرة مرة أخرى، يعيدها لأنه ببساطة يضمن وجودك، يعرف تمامًا أنك ستغفر لأجل بقاءه أو بقاء تلك العلاقة وهذا عين الأذى حتى ولو تم بشكل لا واعِي، أيضًا ربما يفسر غفرانك ضعفًا، لكنه لا يعرف أن كل هذه التكرارات تُراكم غضبًا بداخلك ليس له حدود، يجعلك تأخذ قرار الذهاب في لحظة، “علشان للصبر حدود، رغم حبك الكبير وشوقك اللي ملوش نهاية”.  أم كلثوم قتلت تلك الإشكالية بحثًا من عقود وفسرت الخط الزمني الطبيعي والمأساوي وحتي الحالم لشكل من أشكال العلاقات.

هذا ما ننتهي إليه، قطعًا سيقتلك الحنين، لكن لن يكون شفيعًا للعودة، ستمضي دون أن تلتفت للوراء، لأنه في لحظة ما من قبضك على الجمر، ستدرك أنك لابد أن تختار نفسك، نفسك فقط لا شيء آخر، هذه اللحظة لابد أن تأتي، بعد شهر أو ربما بعد سنوات كضرورة حتمية للعيش.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة