في سبتمبر من العام 2021، وبعد عثرات عديدة في ملف حقوق الإنسان في مصر خلال السنوات السابقة، أطلقت مصر "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان"، بهدف تعزيز الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية داخل البلاد، حيث شهدت البلاد انفراجة بدأت بإطلاق سراح عدد من سجناء المعارضة، والتقى الرئيس بعض رموزها، ثم أعلن إنهاء حالة الطوارئ، ودعا إلى إطلاق الحوار الوطني الذي بدأت جلساته منذ مايو الماضي وتمتد إلى الآن.
ومع ذلك، فإنه رغم ما وصفت به هذه الاستراتيجية من كونها أول استراتيجية ذاتية متكاملة وطويلة الأمد في مجال حقوق الإنسان في مصر، بما تتضمنه من تطوير سياسات وتوجهات للدولة في التعامل مع عدد من الملفات ذات الصلة بحقوق الإنسان، لا تزال مصر تعاني آثار أزمتها في هذا الملف، كما أشار عدد من التقارير التي أصدرتها مؤسسات حقوقية غير حكومية محلية ودولية.
أحد أوجه هذه الأزمة تجلى في آخر جلسات الحوار الوطني التي عقدتها لجنة حقوق الإنسان والحريات العامة للمحور السياسي، والتي خصصت لمناقشة "دعم وتشجيع حرية الرأي والتعبير". حيث لم تخلو الجلسة من السجال والهجوم الذي شنه البعض ممن يدعمون موقف مؤسسات الدولة آخرين من المشاركين المحسوبين على المعارضة، المطالبين بضرورة إطلاق سراح السجناء السياسيين وفتح المجال العام، في محاولة لتجميل وضع ملف حقوق الإنسان في البلاد، الأمر الذي يبدو منافيًا لأساس الدعوة للحوار، والتي تعترف ضمنيًا بالأزمة.
ما لم يتحقق في الاستراتيجية
تتضمن الاستراتيجية المصرية 4 محاور رئيسية، هيّ: الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحقوق المرأة والطفل وذوي الإعاقة والشباب وكبار السن، والتثقيف وبناء القدرات في حقوق الإنسان.
1-الحقوق المدنية والسياسية:
لم يساهم إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في تقديم تقدم ملحوظ في محور "الحقوق المدنية والسياسية". فعلى مدار العاميين الماضيين، استمرت الملاحقات الأمنية للمعارضين والصحفيين والباحثين.
كما استمرت الملاحقات الأمنية أيضًا لأسرهم. إلى جانب استمرار الإهمال الطبي في السجون، ما نتج عنه تزايد حالات الوفاة داخل أماكن الاحتجاز. وكذلك تزايد حالات الوفاة داخل أقسام الشرطة، دون الوقوف على الأسباب الحقيقة.
اقرأ أيضًا: انتهاكات وعنف وحقوق ضائعة.. تقرير جديد للعفو الدولية يرصد واقع حقوق الإنسان في مصر
استمرار الملاحقات الأمنية للنشطاء وأسرهم:
منذ إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي، في أبريل2022، أخلي سبيل المئات من المعارضين والنشطاء. لكن في المقابل، استمرت حالات القبض على آخرين.
فعلى سبيل المثال، ألقت قوات الأمن القبض على الناشط "أحمد جيكا"، الذي ظهر في النيابة في 12 أغسطس الماضي بعد مرور 58 يومًا من القبض عليه. وما يزال "جيكا" قيد الاحتجاز على رغم قرار النيابة العامة بإخلاء سبيله بضمان محل الإقامة.
كما ألقت قوات الأمن القبض في 30 أغسطس الماضي، القبض على محمود محمد، المعروف باسم "معتقل التيشيرت" في 2014، لارتدائه تيشيرت مدونًا عليه "وطن بلا تعذيب" في ذكرى أحداث الثورة المصرية.
استمر احتجاز محمود حتى 5 سبتمبر الجاري، ليظهر في نيابة أمن الدولة بزعم أن عليه حكمًا غيابيًا في القضية السابقة، والتي ظل على إثرها على ذمة التحقيق لأكثر من عامين.
إلى جانب استمرار الملاحقات الأمنية للمعارضين والنشطاء، عانت أسر بعض المعارضين والنشطاء أيضًا من الملاحقات الأمنية التي وصلت أحيانًا إلى القبض عليهم.
فعلى سبيل المثال، ألقت قوات الأمن القبض على والد الصحفي أحمد جمال زيادة في 22 أغسطس 2023، من منطقة ناهيا البلد في محافظة الجيزة، على يد مجموعة ترتدي زيًا مدنيًا- بحسب ما أعلنه نجله الصحفي.
اقرأ أيضًا: عام على الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.. ولكن
ووجهت إليه النيابة اتهامات الانضمام إلى جماعة إثارية ونشر أخبار كاذبة وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي.
وأوضح زيادة -الأب- أثناء جلسة التحقيق أنه خلال الفترة التي تم التحفظ عليها فيها، قبل عرضه على النيابة، تم سؤاله أكثر من مرة عن ابنه باعتباره هاربًا. بينما أكد أن ابنه ليس هاربًا، ولكنه يدرس للحصول على درجة الماجستير.
وخلال التحقيق، أكد الأب أنه لا يعرف تفاصيل عن عمل ابنه سوى أنه صحفي يعمل في العديد من المواقع من بينها "مدى مصر".
هذا ما أشارت إليه مؤسسة الفكر والتعبير في تقريرها: السجن والملاحقة.. ميراث أُسر وأقارب المعارضين المصريين في الخارج والداخل. إذ وثق التقرير تعرض عدد من أسر وأقارب المعارضين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في مصر لأنماط متعددة من التضييقات والانتهاكات، سواء كان ذويهم محبوسين أو مقيمين في الخارج.
ووفق تقارير حقوقية، تنوعت تلك الانتهاكات بداية من المراقبة والملاحقة والتتبع أو استهداف لأهالي البعض بعد مغادرة ذويهم البلاد، مرورًا بالترهيب والقبض، ووصولًا إلى الحبس عقابًا على نشاط الأقارب المعارضين.
استمرار الانتهاكات في أماكن الاحتجاز:
في يوليو الماضي، رصد مركز النديم لمناهضة العنف والتعذيب، 546 انتهاكًا داخل مراكز الشرطة والاحتجاز والسجون المصرية، خلال الربع الثاني من العام الجاري.
وتنوعت الانتهاكات بحسب التقرير بين والوفاة في مكان الاحتجاز، والتعذيب، والتكدير الفردي، والتكدير الجماعي، والتدوير، والإهمال الطبي المتعمد، والإخفاء قسري، وظهور بعد الإخفاء، وعنف دولة.
ومؤخرًا، طالبت 9 منظمات حقوقية، السلطات المصرية، بالإفصاح عن أعداد الأشخاص الذين احتُجزوا في السنوات الأخيرة، وزيادة الشفافية عبر نشر أعداد المحتجزين والسجناء في البلاد.
وقالت المنظمات، ومن بينها "هيومن رايتس ووتش" و"كوميتي فور جاستس"، و"حرية الفكر والتعبير"، إن آخر تقرير سنوي بشأن عدد السجناء أصدره "قطاع مصلحة السجون" التابع لوزارة الداخلية يعود إلى تسعينيات القرن الماضي، معتبرة أن "القمع أدى إلى اكتظاظ خطير في مراكز الاحتجاز ومفاقمة ظروفها، التي هي أصلا غير إنسانية".
أزمة الحق في التعبير:
ظلت الانتهاكات الأمنية تلاحق الحق في التعبير خلال العاميين الماضيين، ومؤخرًا ألقي القبض على بعض المعارضين وأعضاء الأحزاب، الذي استخدموا مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن أرائهم السياسية والاقتصادية، وذلك على الرغم من استمرار جلسات الحوار الوطني بين الموالاة والمعارضة.
اقرأ أيضًا: حصاد ملف حقوق الإنسان بمصر 2022.. علاء عبد الفتاح وأيمن هدهود ومطالبات بوقف الانتهاكات
وعلى سبيل المثال، ألقت قوات الأمن القبض على الدكتور أحمد الطباخ، الذي يبلغ 45 عامًا ويعمل أستاذًا بكلية طب الأسنان جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، في 22 فبراير 2023. على أثر منشورات على "فيسبوك" تتناول أزمة تصاعد الأسعار.
وقد ظهر الطباخ أمام نيابة الشيخ زايد فى 19 إبريل 2023. وأمرت النيابة بحبسه 4 أيام على ذمة القضية رقم 1266 لسنة 2023 جنح زايد ثانٍ. ووجهت إليه تهمًا، منها: الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة. وقد تم التحقيق معه من دون محامٍ وذلك بعد أن تعرض للإخفاء حوالي شهرين - وفقًا لما رصدته مؤسسة حرية الفكر والتعبير.
2-الحقوق الاقتصادية والاجتماعية:
تهدف الاستراتيجية إلى احترام حقوق الأفراد في الصحة والسكن اللائق وحقوق العمال، في الوقت نفسه استمر الاستهداف الأمني للاحتجاجات العمالية على مدار العاميين الماضيين، فعلى سبيل المثال، تدخلت قوات الأمن بفض اعتصام أكثر من 800 عامل في مصنع شركة النصر للمسبوكات لعدة أيام، وإغلاق المصنع حتى إشعار آخر؛ احتجاجا على بيعها وتسريح أكثر من 2200 عامل.
كما سلطت الاستراتيجية الضوء بإعطاء أولوية الإنفاق لقطاع الصحة، في المقابل لم تلتزم السلطات المصرية بالحد الأدنى الإلزامي المنصوص عليه في الدستور لنسبة الناتج المحلي الإجمالي المخصصة للإنفاق على الصحة والتي تبلغ 3%في موازناتها الوطنية السابقة، بما في ذلك خلال انتشار وباء كوفيد- 19 - بحسب ما نشرته منظمة العفو الدولية.
3- حقوق الإنسان للمرأة والطفل:
تحدثت الاستراتيجية عن حقوق المرأة وأهمية حمايتها من كل أشكال العنف. ورغم مرور عاميين على إطلاق الاستراتيجية لم يتم إقرار القانون الموحد للعنف ضد المرأة، رغم تزايد حالات العنف ضد المرأة المصرية سواء على مستوى محيط الأسرة أو خارجها.
وفي دراسة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية والمجلس القومي للمرأة؛ نُشرت في يناير 2022، بعنوان العنف ضد المرأة "الأبعاد وآليات المواجهة"، رصدت الباحثة أن 75% من النساء يتعرضن للعنف و80% يتعرضن للتحرش في مصر.
وتوصلت الدراسة إلى عدة نتائج أهمها أن ما يقرب من ثلاثة أرباع العينة في الدراسة أقروا أن المرأة تتعرض للعنف في المجتمع المصري، وكان العنف في الشارع هو الأكثر بروزا لديهم، وجاء العنف المنزلي في المرتبة الثانية، كما ظهر العنف في أماكن الدراسة أو العمل في مراتب متأخرة.
وأوضحت الدراسة أن التباطؤ في إقرار قانون شامل للعنف ضد المرأة يتيح المجال أمام المعنفين لتكرار وقائعهم في ظل غياب وسائل الردع.
إلى جانب هذا، تحدثت الاستراتيجية عن تعــزيز حقــوق المرأة، وضمان المصلحــة الفضــلى للطفــل، وتيــسر حصــول المرأة علــى جميع حقوقهــا وحقــوق أطفالهــا كاملــة دون تأخــر.
في المقابل لم يصدر قانون الأحوال الشخصية الجديد إلى الآن، فيما تجاهلت جلسات الحوار الوطني في المحور المجتمعي الحديث عن القانون، وهو ما أثار استياء عدد من المنظمات والأحزاب المعارضة.
وفي أغسطس الماضي، أصدرت الحركة المدنية الديمقراطية، بيانًا أكدت فيه على أن التوصيات التي رفعتها إدارة الحوار الوطني إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي لم تتضمن المطالب الرئيسية للحركة في المحاور الثلاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وأشارت في بيانها إلى أنه لم يؤخذ في الاعتبار مشروعان قدمتهما الحركة المدنية، الأول يتعلق بقانون أحوال شخصية عادل قامت الجمعيات النسوية المصرية باستخلاصه بعد مشاورات واسعة مع كل الجهات المعنية، والثاني يتعلق بالقضاء على أشكال العنف ضد النساء.