المجلس الأطلسي: مصر تقتل تاريخ مدينة الموتى

لا ينظر المصريون إلى إزالة جبّانات القاهرة التاريخية باعتبارها تطويرًا في سبيل المنفعة العامة، وهم يعارضون ما تروج له الحكومة، فلا يرون في مد محور جديد أو تطوير طريق أو تشييد كوبري أي داع للمساس بمنطقة المقابر الشاسعة التي تعود إلى العصر الإسلامي وتقع عند سفح تلال المقطم، على بعد مسافة قصيرة سيرًا على الأقدام من قلعة القاهرة.

بعض مسؤولي الحكومة نفسها اتفقوا مع نظرة المصريين لتاريخ هذه المقابر، فتقدم الدكتور أيمن ونس، في 31 أغسطس، باستقالته من رئاسة اللجنة الدائمة لحصر المباني والمنشآت ذات الطراز المعماري المتميز - شرق القاهرة، احتجاجًا على ما اعتبره تدميرًا تتعرض له مقابر القاهرة التاريخية، وإهدارًا لنسيج عمراني تاريخي ذا قيمة متفردة عالميًا، قبل أن يتراجع عن استقالته حادة اللهجة، مشيرًا عبر صفحته على "فيسبوك" إلى أن النقاد استخدموها "لمهاجمة جهود الدولة الحثيثة والمستمرة لتطوير وتحسين البنية التحتية وحياة المواطنين، وهو ما لم يكن هدفي ولا نيتي".

نشر المجلس الأطلسي -منظمة بحثية أمريكية مقرها واشنطن- عن مشروعات التطوير الجارية في قلب القاهرة القديمة، تقريرًا تحت عنوان "مصر تقتل تاريخ مدينة الموتى"، تناول أهمية المنطقة تاريخيًا وما تتعرض له حاليًا من عملية تطوير تلقى اعتراضًا شعبيًا كبيرًا.

كانت هذه المنطقة حتى وقت قريب موقعًا للدفن يضم مجموعة رائعة من الأضرحة والمقابر التاريخية، يعود تاريخ بعضها إلى العصر المملوكي في القرن الثاني عشر إلى القرن السادس عشر، بينما البعض الآخر بمثابة المثوى الأخير للعلماء والشخصيات الثقافية والحكام وأفراد العائلات المالكة والنخبة في مصر.

والآن، تحول جزء كبير من المقبرة إلى أنقاض مع استمرار الجرافات في هدم الأضرحة التي يعود تاريخها إلى قرون مضت وتسويتها بالأرض، ضمن خطة حكومية "لتحديث القاهرة" وإفساح المجال للطرق والجسور التي من شأنها أن تربط وسط القاهرة بالعاصمة الإدارية الجديدة، قيد الإنشاء حاليًا في الصحراء شرق العاصمة.

يركز التقرير على مشروعات التطوير، فيذكر أن الدولة المصرية منذ العام 2014، أنفقت أكثر من 500 مليار دولار على مشاريع التنمية الحضرية التي تشمل بناء العاصمة الجديدة والمدن الذكية وشبكات الطرق الواسعة، ما جعل تطوير البنية التحتية سمة مميزة لهذه الفترة.

إلا أنه وبينما يشيد المؤيدون بإصلاح البنية التحتية في جميع أنحاء البلاد باعتباره ضروريًا وفي الوقت المناسب، يرفض المنتقدون مشاريع الدولة العملاقة، لأنها جاءت بتكلفة باهظة في وقت يعاني فيه المصريون أزمة اقتصادية عنيفة ونقص في الدولار.

يشير التقرير كذلك إلى دفاع الحكومة عن خطتها للتحديث، حيث أصرت على أن تطوير شبكات الطرق وإزالة المناطق العشوائية يصب في المصلحة العامة. كما أصرت على أن الآثار في القاهرة التاريخية، وهي أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو حيث تقع منطقة قرافة المماليك، ستبقى سليمة. ذلك في وقت لم يقتنع بمبررات الحكومة قطاع كبير من المعنيين بالآثار والتراث الثقافي. وهو أمر بدا جليًا في حملات تصوير الجبّانات الأثرية بمنطقة القرافة والإمام الشافي قبل إزالتها، والمتواصلة والمتفاعلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مطالبة بحماية القاهرة التاريخية وتطويرها كمنطقة جذب سياحي.

هل يوقف الغضب عمليات الهدم؟

يذكر التقرير أن عمليات الهدم، التي بدأت في عام 2020، قد توقفت لعدة أشهر بعد تدفق الغضب من النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي المصرية.

وفي مايو 2022، اتخذت الحكومة قرارًا بهدم قبر طه حسين، وهو كاتب ومفكر مؤثر في القرن العشرين يُلقب شعبيًا بـ "عميد الأدب العربي"، للسماح بإنشاء جسر علوي يربط الطريق الدائري في القاهرة بالعاصمة الإدارية الجديدة، وأدى ذلك إلى رد فعل عنيف من الناشطين، فيما أثر الضغط الشعبي على القرار الذي ألغته الحكومة استجابة لردة الفعل.

اقرأ أيضًا: هدم القديم: حداثة أم تغريب؟

وفي الأيام الأخيرة، دقت أمنية عبد البر، مهندسة معمارية متخصصة في الحفاظ على التراث الثقافي وتوثيقه، ناقوس الخطر، معلنة عبر حسابها على موقع X -المعروف سابقًا باسم تويتر- أن الجرافات عادت إلى الموقع التراثي. ونشرت صورة لرافعة شوكية تكمن بشكل مشؤوم فوق ضريح مزخرف بالخط العربي الدقيق، وناشدت المساعدة في وقف عمليات الهدم.

وفي 28 أغسطس، نشرت أمنية عبد البر، على موقع X، أن أربعة أعضاء من اللجنة الدائمة المكلفة بتوثيق المباني الأثرية والتراثية ذات القيمة المعمارية المتميزة والأهمية التاريخية استقالوا احتجاجًا على تدمير منطقة ضريحي الإمام الشافعي والسيدة نفيسة.

كما أعربت منظمة اليونسكو، المعنية بحماية التراث الثقافي والطبيعي في جميع أنحاء العالم والحفاظ عليه، عن قلقها إزاء عمليات الهدم.

وفي بيان لصحيفة "ذا ناشيونال"، قالت وكالة الأمم المتحدة إن خبراءها على اتصال بالسلطات المصرية "للتوفيق بين مشاريع التنمية الحضرية المخطط لها والحماية اللازمة للتراث العالمي، بما يتماشى مع التزامات مصر الدولية".

وفي محاولة لإنقاذ ما في وسعهم من الآثار الثمينة، نظمت مجموعة من المؤرخين والمحافظين على البيئة وعشاق التراث الثقافي زيارات أسبوعية إلى منطقة المقابر، لالتقاط صور توثيقية لمشاهد الدمار، والبحث عن أجزاء متناثرة من شواهد القبور القديمة وغيرها من القطع ذات الأهمية التاريخية.

كما أطلقت جليلة القاضي، المؤلفة وأستاذة التخطيط الحضري والهندسة المعمارية المقيمة في باريس، بالتعاون مع مجموعة من المخططين الحضريين والمهندسين المعماريين والناشطين، التماسًا يطالب الحكومة بوقف هدم المقابر في القاهرة التاريخية.

وينص الالتماس أيضًا على أن "مطالب الصالح العام يجب ألا تأتي على حساب التراث الثقافي المصري". كما تقود المجموعة حملة قوية ضد خطة وزارة الإسكان لنبش القبور في الموقع وجعل الأسر تنقل رفات أحبائها المدفونين إلى مقبرة جديدة في منطقة العاشر من رمضان على مشارف القاهرة.

ألفا مقبرة تنتظر الهدم

وفي الأشهر الأخيرة، تلقت عشرات الأسر اتصالات أو رسائل من الحكومة تطالبهم بنقل رفات ذويهم المتوفين من مقابر الإمام الشافعي في مدينة إلى المقبرة الجديدة. ولم يكن لدى الكثيرين خيار سوى الامتثال. وقد تقدم البعض بشكاوى قانونية إلى النيابة العامة.

ومن المقرر تدمير ألفي مقبرة في إطار خطة الحكومة لإفساح المجال أمام توسعة محور ياسر رزق. حيث يشير تقرير "المجلس الأطلسي" إلى أنه في الاندفاع لتمهيد الأرض لأعمال البناء، حدثت "أخطاء"، وتمت تسوية بعض الأضرحة التي لم يرسم عليها المطورون علامة إكس أحمر - وهي علامة تشير إلى أنه كان من المقرر هدمها - بالأرض.

يلفت التقرير أيضًا إلى أعمال الهدم التي طالت مقابر أفراد الأسرة العلوية في مصر، حيث تم استخراج رفات الملكة السابقة فريدة، الزوجة الأولى للملك فاروق، في فبراير الماضي، ونقلت من مقبرة الإمام الشافعي إلى مسجد الرفاعي، حيث دفن زوجها الراحل ووالدها. بينما يشير التقرير إلى توقف أعمال الهدم في منطقة الإمام الشافعي منذ 2 سبتمبر الجاري، تحت وقع الضغط الشعبي، فيما لا يزال من غير المعروف إلى الآن كيف ستتعامل معه الحكومة، بالتراجع أم بالتسكين!.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة