فرصة التغيير

تحدثت في مقالي السابق “الدولة الحلم والدولة الكابوس” عن شكل ومضمون الدولة التي أحلم بأن أعيش ويعيش أولادي تحت ظلالها. والحقيقة أن العشرين عامًا الماضية – نصف عمري – أنفقت معظمها سعيًا وراء ذلك الحلم، الحلم بدولة حديثة حرة متقدمة آمنة غنية، دون أن أحاول صياغة شكل ذلك الحلم في نص مكتوب، اعتقادًا مني بأن مثل ذلك النص لابد وأنه موجود ومنشور في مكان ما! ولكن لخيبة أملي الشديدة لم أجد ذلك النص الذي يشرح ما هو الهدف الذي يناضل من أجله من يناضلون أو يحلم به من يحلمون، فالشعارات مهمة بالطبع، ولكن دون تفسير وتخصيص لمعانيها تظل الشعارات مظلات عامة يمكن التلاعب بمعناها أو تجاوزها وفقا للظروف والأولويات المختلفة.

وقد عرفت الأحزاب الثورية عند وصولها للسلطة بعدم تقيدها عادة بمعايير محددة للعمل السياسي, حيث تتخذ القرارات وفقًا لرؤية القادة الموجودين على أعلى سلم السلطة ولو كانت تتعارض مع المبادئ الأساسية للحركة الثورية التي ينشأ عنها الحزب ثم يمكن تبريرها بعد ذلك بـ”المصلحة العامة” ولو عن طريق تغيير تلك المبادئ الأساسية التي تعارض تلك الرؤى, وربما تكون هناك استثناءات، أشجع القارئ العزيز على ذكرها في تعليقه، ورغم ذلك، لا يمكن لأى حراك سياسي أن ينجح إلا إذا كان يسعى لتحقيق “حلم ما”, أما الحركة لمجرد التململ من الوضع القائم أو الوصول لأحلام شخصية أو فردية فلا يعول عليها في إحداث إصلاح جذري للمنظومة.

كان مطلب المصريين بداية الحراك الوطني في بداية القرن العشرين هو الاستقلال بمصر عن الاحتلال الإنجليزي ثم أضاف حزب الوفد مطلب “الدستور” ليصبح الاستقلال والدستور مطلبي الأمة التي قامت من أجلهما ثورة 1919, واستطاعت العديد من الحكومات قبل 1952 التلاعب بتلك المطالب، فتم تسويف الاستقلال التام وتعطيل الدستور أكثر من مرة حتى ضعف النظام السياسي وتأزم وانهار تمامًا بقيام حركة الضباط التي ركزت بقوة (ربما أكثر من اللازم في تقديري) على مطلب الاستقلال لدرجة عزلت الشعب المصري عن العالم وقامت بالتخلص تمامًا من قيود الدستور, فأصبحنا نعيش منذ سبعين عامًا في دولة لا تعتد بدستورها إلا شكليًا, وتدهورت فيها منظومة القيم الديمقراطية والحكم الرشيد بالتدريج حتى لم يتبق منها إلا مسميات لا علاقة لها بالديمقراطية أو الحكم الرشيد في الحقيقة، مما كان أحد أسباب اندلاع ثورة 2011.

ولذلك فإنني أزعم أن الحلم الوطني المشروع الذي لطالما كان في خلفية نضال المصريين ومعاناتهم هو حلم “الدستور” أي حلم دولة القانون الذي ينبع الشرف الوطني فيها من احترام قوانينها وتنبع قوتها وشرعيتها من تطبيقها للقانون والدستور الذي تتوافق عليه الأمة لا ما يفرضه عليها حكامها بقوة المنصب والسلطة. وكما قلت في مقالي السابق، فإن الضمير لابد وأن يسبق وجوده في وجدان المواطن وجود آلة الدولة المكلفة بتنفيذ القوانين بالقوة الجبرية، وذلك ينبع أساسًا من اعتراف المواطن بشرعية الدولة وإيمانه بشرعية قوانينها الناتجة من إيمانه بأن تلك القوانين وضعت من أجله عن طريق مواطنين مثله يختارهم بنفسه بدون إجبار أو تزييف لإرادته. أو كما يُقال في الخطاب السياسي الأمريكي “حكومة من بين الناس يختارها الناس وتعمل من أجل الناس لا يمكن أن تبيد أبدا”.

ونحن الآن على أعتاب انتخابات رئاسية جديدة – يرى الكثيرون أنها ستكون بلا تأثير – لا نمتلك، في رأيي، رفاهية تفويت الفرصة، أي فرصة، من أجل السعي لرفع سقف الحريات والعمل على حماية دولة القانون حفاظًا على مصالح المواطن المصري. وأعتقد أنه على الجميع سواء أفراد أو أحزاب أو حركات أو حتى حملات انتخابية انتهاز فرصة “موسم الانتخابات” للاتفاق على مطالب محددة تتجاوز الخلافات الإيديولوجية والضغط على كافة المرشحين لتبنيها وإدراجها في برامجهم الانتخابية لتصبح معيارًا للسياسات العامة بعد ذلك. ربما لن يمكننا تغيير الشكل الحالي للسلطة ولكن بالتأكيد يمكننا الحصول على مكاسب خاصة بحرية التعبير والتنظيم لزيادة هامش الحريات وتعزيز مستوى الشفافية إذا حدث توافق وطني واسع على تلك المطالب.

لا توجد سلطة سياسية ترغب في الفشل، وقد كان الحوار الوطني وسيلة السلطة لسماع أصوات مختلفة وإعطاء الفرصة لرؤى جديدة للظهور على الساحة، ولذلك أعتقد أن الانتخابات الرئاسية القادمة سوف تكون فرصة جيدة للغاية لتسليط الضوء على المزيد من الرؤى والقضايا وتوسيع دائرة الحوار بين المواطنين أنفسهم لاختيار ما يمسهم حقيقة ويعبر عن تطلعاتهم المشروعة وهو ما يجب أن ينعكس على اختيارات الإدارة المصرية لسياساتها وبرامج عملها في المستقبل في مرحلة ما بعد الانتخابات.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة