دائمًا ما يظن "السمّيعة" أن عبدالوهاب فنان كلاسيكي فقط في ألحانه، فلو كان اللحن إيقاعي أو "كاجوال" ينسب لبليغ على الفور، حتى أن هناك إعتقاد شائع بأن أغنية "في يوم وليلة" للفنانة وردة الجزائرية هي ألحان بليغ حمدي وليس عبدالوهاب، أو كما قال لي صديق نصًا وهو يجزم بكل ثقة أنها من ألحان بليغ: "الأغنية دي أروش بكتير من إن عبدالوهاب يكون ملحنها".
والحقيقة أن عبدالوهاب "ملك الروشنة" فقط عندما يقرر ذلك، فهناك ألحان مثل: "حبيبي يارقة.. فاكر ولا لأه" لفؤاد المهندس وتيتا صالح من فيلم "اعترافات زوج"، وهي واحدة من أكثر الألحان "كجولة وروشنة" في القرن العشرين، أيضًا هناك مقطوعات موسيقية ألفها عبدالوهاب مثل" ليالي لبنان وعزيزة " لا ينافسه في إيقاعهما منافس، فرقص الجيل كله عليها من أول نعيمة عاكف مرورًا بكيتي وسامية جمال وزينات علوي ونجوى فؤاد وغيرهم الكثير.
لا تهجرني "Never Let Me Go"
قرر عبدالوهاب أن يكون أكثر مواكبة وحداثة، فأتى بسمير الإسكندراني وعرض عليه أن يلحن له أغنية "فرانكو أراب" وكانت أغنية محمد فوزي "مصطفى يامصطفى" الذي غناها بوب عزام، حققت نجاحًا عالميًا آنذاك، وكان عبدالوهاب متأثرًا بها، فقال لسمير نصًا: "عايزين نعمل حاجة زي أغنية مصطفى يامصطفى تعرف حد يكتب لنا أغنية انجليزي؟"
فاقترح عليه سمير الاسكندراني اسم ريتا شكري، وقد كان، وكتبت لهما على لحن عبدالوهاب أغنية " Never Let Me Go".
وبهذا اكتمل نصف المشروع الأول، وتبقى الجزء العربي، فأكمله حسين السيد وكتب الربع الأخير من الأغنية وقال:
"ليه ساكت ليه
عايزني أقولك إيه
قلبي وروحي واقولك تطلب ياحبيبي
ساكت ليه.. أوهبلك تاني إيه".
ذهب الأستاذ عبدالوهاب مع سمير إلى عبدالعزيز قنديل في حضور زكريا عامر لتسجيل الأغنية، فسجل سمير الجزء الانجليزي، وبعد الانتهاء طلب من عبدالوهاب أن يغني الجزء العربي بصوته، ليأخذ سمير الشريط معه ويتدرب عليه حتى يغنيها مثل عبدالوهاب، وكان هذا شيء متعارف عليه آنذاك، فلم يتردد عبدالوهاب في تسجيلها ودخل على الفور سجلها وانصرف.
ذهب بعده زكريا عامر وانفرد سمير الإسكندراني بعبدالعزيز قنديل، ألف سمير حكاية على الفور وأقنع بها قنديل وطلب منه أربع نسخ كاملة من الأغنية، بزعم أنه سيسمعهم لأشخاص مهمين لأخذ رأيهم، كان الاتفاق أن سمير سيأخذ الشريط ليتدرب على غناء الجزء العربي بصوت عبدالوهاب ليغني مثله، ويعود بعد ذلك للاستوديو ليسجل صوته بدلًا من صوت عبدالوهاب، والاتفاق في الأصل أن عبدالوهاب منتج وملحن فقط ولم يذكر أي من الأطراف أنه سيغني.
أخذ سمير الشرائط بعد أن انتهى منها قنديل لتصبح في يده نسخه شبه نهائية للأغنية، وتوجه على الفور للأستاذ فاروق شوشة في البرنامج العام وقال له نصًا: " أنا لسه عامل دويتو حالًا مع الأستاذ عبدالوهاب، ومش هنلاقي أحسن منك يقدمه ويذيعه" انتهز فاروق الفرصة على الفور وسجل تنويه للأغنية بصوته وأذاع أغرب وأجمل ثنائية غنائية في القرن العشرين، وكان سبقًا إذاعيًا كبيرًا آنذاك، أولًا لأنها أغنية لعبدالوهاب، ليس فقط إنما هي "دويتو" مع مغني آخر وهذا ما لم يحدث من قبل، لأن عبد الوهاب لم يقدم "دويتو" مع أي مطرب، سبق أن قدم ذلك مع مطربات، ولذلك تعد هذه الثنائية هي الوحيدة في تاريخ عبدالوهاب، والأكثر من ذلك أنها أغنية فرانكو آراب بصوت موسيقار الأجيال ويا للعجب.
خرج سمير من البرنامج العام على محطات إذاعية مختلفة واستطاع بعلاقاته أن يذيع الأغنية في هذا اليوم حوالي 15 مرة.
لاقت الأغنية نجاحًا في هذا الوقت أقل مما تستحقه بكثير، لكنها نجحت وأبهرت الجمهور خصوصًا جمهور الزمالك ومصر الجديدة، إلا أن عبد الوهاب كاد أن يغشى عليه من هول الصدمة، فلم يتعرض لموقف مثل هذا من قبل.
أقام عبدالوهاب الدنيا ولم يقعدها بحثًا عن سمير الاسكندراني، إلا أن سمير كان يدرك جيدًا سوء فعلته، فاختبأ عند صديق له في الإسكندرية.
هدأ عبدالوهاب عندما لاقت الأغنية استحسانًا كبيرًا في الدائرة الصغيرة من أصدقائه المقربين، حيث كان لعبد الوهاب "شلة" صغيرة يعتد برأيها جدًا، وأيضًا عندما لمس نجاح الأغنية لدى الجمهور العام فقرر أن يسامح سمير وأرسل له مجدي العمروسي ليعطيه الأمان، ووقع سمير عقدًا مع عبدالوهاب وأخذ مئتان جنيهًا.
رأى سمير بعد ذلك أن عبدالوهاب كان مجحفًا، لأن الأغنية حققت إيرادات أكثر بكثير من 200 جنيه الذي أخذهم، واعتبر أن له حق عند عبدالوهاب ولن يتركه، لكنه سيهادن حتى تسنح له الفرصة بأخذ حقه، وعمل بعدها مع عبدالوهاب في مشاريع غنائية منها "عمر الخيام" وأهمها وأجملها "النيل الفضي"، منتظرًا تلك الفرصة المناسبة التي سيسترد فيها حقه.
يحكي الأستاذ سمير الاسكندراني: "كنت قاعد في أوضة نوم الأستاذ عبدالوهاب وكان لسه صاحي، دخل علينا مجدي العمروسي معاه رزمة فلوس أد كده، وحطهم على الترابيزة جنب عبدالوهاب ومشي، قمت ماسك رزمة الفلوس مطلع منها 300 جنيه، وقولت لعبدالوهاب: دول 300 جنيه باقي حسابي، أنا خدت 200 قديمة ودول 300 يبقى كله 500، ده حسابي وحقي يامايسترو، ورحت جاري وهو قام جري ورايا، وشاف السكة من غير نضارة، بس محصلنيش".