لا مفر من الكتابة عن الدولة التي أحلم بها وأتمنى أن أراها على أرض الواقع حتى لو كتب كثيرون غير عنها، ليس فقط للتعبير عن أحلام وآمال قد ترى النور وقد لا تراه، ولكن أساسا لكي يكون هناك أساس للنقاش والحوار والاتفاق والاختلاف بعد ذلك. فإن لم يكن هناك حلم نجتمع عليه فلن يكون هناك سوى كابوس يطاردنا ونجتمع في الهرب منه.
قبل يناير 2011، ظننت أن جميع من في صفوف المعارضة يتفقون على ما يتمنونه لمصر، بلد بلا قمع ولا استبداد ولا فساد، عيش وحرية وعدالة اجتماعية كما كنا نهتف في الميادين، ولكن ومع مرور السنين والمواقف اتضح أن لكل منا تفسيراته الخاصة لتلك الشعارات وأن البعض يحدد - في ذهنه وخياله – من يستحقون الحرية ومن لا يستحقونها، ومن هم أهل للحياة الكريمة ومن هم ليس أهلا لها! وهذا أمر طبيعي في ظل انحيازات وأيديولوجيات تنطلق من أسس مختلفة ومتعارضة أحيانا، ولذلك من واجبنا جميعا المساهمة في وضع تصور لما هو الشكل المطلوب للدولة والمجتمع في المستقبل حتى نستطيع التعاون في تحقيقه بعد ذلك.
أولا، وقبل أي شيء آخر "مصر دولة قانون"، كليبرالي أؤمن أنه لا يمكن لمجتمع أن ينهض أو يتقدم دون أن يحكمه القانون، وأن يكون ذلك القانون مطبقا على الجميع بلا تمييز وكديمقراطي أؤمن أنه لا يمكن لقانون أن يحقق المراد منه من توجيه مسارات المجتمع وتنظيم شئونه دون أن يتفق المجتمع على صلاحيته للتطبيق وأن يكون له من الشرعية المجتمعية ما يسبق ويعلو على شرعية القوة، لأن الدول التي تحاول أن تطبق القانون بالقوة فقط دون توافق مجتمعي حوله تعاني من تعثر التطبيق وانتقائيته وربما الانقضاض بالكامل عليه وعلى آثاره لاحقا.
فليس الهدف الصائب هو إصدار بعض القوانين "المثالية" من وجهة نظر واضعيها وتطبيقها قسرا على باقي قطاعات المجتمع لتقويمه - كما يتصور العديد من أنصار الأفكار الشمولية – لأن ذلك عادة ما ينتج عنه انتكاسات عندما يتغير صاحب السلطة وتتغير مفاهيمه عن "المثالية" ، لكن الهدف الصائب حقيقة هو أن يؤمن المجتمع ويقتنع بالحاجة إلى الإصلاح والتغيير فيعبر عن إرادته باختيار من يمكنهم قيادته في ذلك الطريق لكي يصبح الإصلاح تراكمي متواصل.
بالطبع يمكن المحاججة في هذه النقطة بأن مصر بالفعل دولة بها قوانين، بل وربما تكون قوانينها أفضل من الموجودة في العديد من الدول الأخرى، ولكن لا يمكن لصاحب ضمير أن يدعي أن المجتمع لا يميز في الواقع بين المواطنين وبعضهم البعض في تطبيق القانون لأسباب تتعلق بالمستوى الاجتماعي أو الوظيفي أو المهنة أو حتى محل السكن، فإذا لم يحدث اتفاق مجتمعي حقيقي على أن يصبح الجميع سواسية أمام القانون – وهو ما تنص عليه الدساتير المصرية المتعاقبة بالمناسبة – فسيظل الباب مفتوحا أمام كل من يجد الفرصة للتحايل على القانون وتجاوزه بحجة أن القوانين خلقت من أجل مصالح من تحميهم من أصحاب النفوذ وفقط.
ما أعنيه هنا أن الضمير هو الحائل الأول أمام خرق القانون، قبل عمل أي مؤسسات أو إجراءات، فإن لم يجد المواطن العادي أن خرق القانون أمر مشين لا شرف فيه ولا احترام فإنه قادر على أن يبتكر ويبدع في وسائل التحايل والتهرب من تطبيق القانون ما يعجز أي دولة عن مواجهته بالقوة وحدها – خاصة أن موظفي الدولة هم أنفسهم مواطنين لهم من الصلاحيات ما يمكنهم من خرق القانون والتحايل عليه إن لم تردعهم ضمائرهم أولا. ولكي تصبح الدولة دولة قانون بحق فلا مفر من أن يختار الشعب قوانينه بنفسه وأن يثق في نزاهة وضمير من ينوبون عنه في تشريعها وتعديلها والرقابة عليها، حتى يكون الشعب مسئولا عن مصيره وشريكا في إدارة شؤون حكمه.
في "الدولة الحلم" لا يملك فرد أو جماعة أو مؤسسة أن يصادر حق الشعب في الاختيار بحجة عدم أهلية الشعب أو بأي حجة أخرى، بينما في "الدولة الكابوس" لا يملك الشعب إلا الانصياع الاضطراري لإرادة السلطة علنا والعمل على مقاومتها وتخريب مجهوداتها والسخرية منها سرا.
"الدولة الحلم" هي دولة قانون وحريات وكرامة للجميع. فهل يكفي أن تكون الدولة دولة قانون لتتحقق أحلامنا في الإصلاح والتطوير؟ هذا ما سأحاول أن أجيب عنه في المقال المقبل.