هل ينتصر الرئيس على الفساد؟

تحدثت في مقالي السابق (ماذا لو كنت مرشحًا للرئاسة؟) عن بضعة أفكار يمكن لأي مرشح رئاسي أن يتبناها في حملته الانتخابية لزيادة فرصه في النجاح والإصلاح. وقرأه عدد لا بأس به من القراء ونال عدد من علامات الاعجاب أعلى من المتوسط الذي حصلت عليه باقي مقالاتي على موقع فكر تاني حتى الآن، وكان هذا دافعا لي لتناوله بالنقاش على موقع X (تويتر سابقا) والتركيز على فكرة بعينها نظرا لأهميتها الشديدة، وكما توقعت كان هناك العديد من المتفاعلين معها سواء من المتشككين في إمكانية تنفيذها أو الراغبين في الاستفسار عن كيفية تنفيذها على أرض الواقع، ولذلك سأخصص هذا المقال لمناقشة هذه الفكرة لعلها تفيد الرئيس القادم.

أولا الهدف من الفكرة هو قطع شرايين الفساد دون الدخول في صراع صفري مع “جميع” المتورطين فيه، إعمالا لحكمة الحكيم الصيني “صن تزو” الخالدة : “ان الانتصار الأعظم هو الذي يحدث دون قتال”، بل ويمكننا استخدام الحكمة العسكرية الشهيرة “فرق تسد” للتفرقة بين الفاسدين للوصول إلى سيادة القانون عليهم.

بالطبع لسنا في عالم مثالي يمكن فيه التخلص بالكامل من كل مظاهر ومواطن الفساد بضربة واحدة ولكننا في عالم واقعي يمكننا فيه استخدام الحكمة في الحكم للوصول لنتائج مرضية ومشجعة على طريق الإصلاح كما تفعل كل دول العالم المتقدم.

تتلخص الفكرة – وهى ليست وليدة خيالي بل لها سوابق في قوانين العديد من دول العالم المختلفة وحتى في القانون المصري – في المبادرة بإعطاء حوافز قوية للمتورطين في الفساد ليقوموا “طواعية” بـ”التطهر” من أعمالهم الفاسدة بالإعلان عما ارتكبوه من جرائم والتوقف عنها والتعاون مع السلطة للإيقاع بالفاسدين الآخرين مقابل عدم ملاحقتهم جنائيا أو مصادرة ثرواتهم والاكتفاء بعزلهم من مناصبهم وعزلهم سياسيا لفترة معينة، على أن تكون تلك الحوافز مشروطة بشروط معينة تضمن تحولهم إلى مواطنين غير فاسدين ومحدودة بوقت محدد حتى لا تصبح في حد ذاتها دافعا للفساد على المدى البعيد.

وبالطبع الشرط الأول لإمكانية تحقق هذه المبادرة في الواقع هو أن تكون صادرة من السلطة الحاكمة في الدولة، ولذلك أطرحها كفكرة في برنامج انتخابي لرئيس محتمل ولا أطرحها كمبادرة شعبية أو مجتمعية، لإنه دون إرادة سياسية عليا ترى في الفساد عدوا لدودا للأمن القومي المصري لا يمكن إعطاء تلك الحوافز أو الضمانات للفاسدين التائبين ولا يمكن حمايتهم من الفاسدين الآخرين الذين يرون في توبتهم تهديدا لهم، والأهم أنه بدون إرادة سياسية عليا لا يمكن تضمينها في برنامج أشمل لمقاومة الفساد وترسيخ أسس الإصلاح.

الشرط الثاني لتحقق هذه المبادرة هو أن يكون هناك تهديد حقيقي للفاسدين المستمرين في فسادهم بأن المجتمع قد وصل لمرحلة حاسمة من عدم التسامح مع الفساد، حتى يصبح طريق التوبة والتطهر والعودة للمجتمع بشكل كريم طريقا له حيثيته وبريقه، فكما قيل قديماً “من أمن العقوبة أساء الأدب”، فلو أنني شخص فاسد وأرى أن المجتمع لا حول له ولا قوة فلن يردعني شيء عن الاستمرار في فسادي والعمل على إفساد من حولي حماية لمصالحي، أما لو شعرت بأن المجتمع قد ضاق ذرعا بالممارسات الفاسدة وأصبح في حالة تأهب للانقضاض على الفاسدين فستكون الاختيارات أمامي محدودة ما بين المخاطرة بالاستمرار في ممارسة الفساد على أمل ألا يلاحظني أحد أو الهروب للخارج للحفاظ على ما حققته من مكاسب غير مشروعة أو “التعاون” مع السلطة التي تتخذ من مقاومة الفساد شعارا لها وتعرض أمامي خيار الحماية من البطش والأذى عن طريق الاعتراف بما اقترفته والاعتراف على الفاسدين الآخرين.

فالشرط الأول هو السلطة الراغبة في التخلص من الفساد والشرط الثاني هو المجتمع المصمم على التخلص من الفساد والشرط الثالث هو حماية من يقوم بالاعتراف بأخطائه وجرائمه من انتقام من سيعترف عليهم، وبذلك يعرف كل فاسد أن من شاركوه في الفساد هم الخطر الحقيقي عليه في حالة ما قرر أحدهم الاعتراف بما فعلوه، فيكون ذلك دافعا له للاعتراف على نفسه قبل اعتراف الآخرين عليه.

أخيرا .. لا يجب أن ننظر للفاسدين كما لو كانوا عصابة على قلب رجل واحد ولا يجب تصور أن الهدف من عمليات مكافحة الفساد هو الانتقام منهم والاستيلاء على ثرواتهم لأن ذلك يغلق في وجوههم أبواب الأمل ويدفعهم دفعا للتكتل والتعاضد أمام أي محاولة للإصلاح حفاظا على مصالحهم ومصالح أبناءهم، بل يجب النظر إليهم كمواطنين أخطأوا ولهم الحق في فرصة أخرى للتحرر من وصمة العار الملازمة للجرائم التي ارتكبوها والالتحاق بركب المجتمع الحر الصحي الذي يجب أن نسعى إليه.

يجب في رأيي إعطاء من أخطأ الأمل في أن يصبح من المصلحين يوما ما وإلا سيقاوم بكل جهده وعلمه وإمكانياته أي محاولة للإصلاح.. هذه ليست مثالية كما يعتقد البعض، بل هي اعتراف بالواقع وبموازين القوى حتى يمكن لهذا المجتمع أن ينصلح حاله في يوم من الأيام.

فهل هذه المبادرة كافية لتطهير البلاد من الفساد؟ بالطبع لا تكفي وحدها وإنما هي خطوة أولى في استراتيجية شاملة لمكافحة الفساد، يجب أن تشمل تشجيع المواطنين على ممارسة الحق في الرقابة على أعمال السلطة بمستوياتها المختلفة وتعيين أشخاص مشهود لهم بالنزاهة والعداء للفساد في المناصب المخصصة لمكافحة الفساد، مع تطبيق إجراءات تحقيق الشفافية في تمويل المؤسسات الإعلامية والمجتمع المدني بالتوازي مع استراتيجيات أخرى للتحول المجتمعي لمجتمع أكثر كفاءة وانتاجية واستقلالية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة