يعد المفكر المصري الإنسان فرج فودة واحدًا من أكثر المفكرين تأثيرًا في العالم الإسلامي الحديث، وكان يعمل على إصلاح الفكر الإسلامي وتحديثه ليواكب التطورات الحديثة في العالم. ومع ذلك، فقد كانت له مواقف مثيرة للجدل من قبل الجماعات الإسلامية المتطرفة، وهذا ما جعلهم يعتبرونه عدوًا للإسلام ويتصدون له بشكل عنيف.
وفي يوم 8 يونيو عام 1992، تم اغتيال فرج فودة في القاهرة على يد جماعة «الجهاد الإسلامي»، وقد تم اتهام عدد من أعضائها بتنفيذ العملية. ويأتي هذا الاعتداء في إطار سلسلة من الهجمات التي شنتها الجماعات الإسلامية المتطرفة على شخصيات مثل فرج فودة وغيره من المفكرين الذين يسعون إلى تحديث الفكر الإسلامي وتطوير الرأي العام.
وقد اعتبرت بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة مواقف فرج فودة المعارضة للتطرف والإرهاب والتعصب الديني كفرًا، مما جعله هدفًا لهجماتهم.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا العداء الذي تعرض له فرج فودة ليس حكرًا على الجماعات الإسلامية المتطرفة فقط، بل يمكن تعقبه أيضًا في بعض الأوساط الإسلامية المحافظة التي كانت ترى في فرج فودة ومن معه تهديدًا للتقاليد الإسلامية والثقافة العربية التقليدية.
بالتالي، فإن عداء الجماعات الإسلامية لفرج فودة واغتياله يعدان مؤشران هامان على التوتر الفكري الذي يعصف بالمجتمع المصري حتى الآن، وعلى التحديات التي يواجهها المفكرون الإسلاميون والباحثون في الشأن الإسلامي الذين يسعون لإصلاح الفكر الإسلامي وتحديثه. ويظهر هذا الأمر بشكل واضح في الصراع بين الجماعات المتطرفة والمفكرين الإسلاميين الذين يرون في الإسلام رسالة سماوية تحث على العدل والمساواة والسلام، ويعملون على تحقيق هذه الرسالة من خلال إصلاح الفكر الإسلامي وتحديثه.
وكان من أهم أسباب اغتيال المفكر فرج فودة مناظرته مع الغزالي في معرض الكتاب، فإن المناظرة والجدل الذي أثارته قد ساهما في تصاعد التوتر في الفترة التي سبقت حادثة الاغتيال. في المناظرة، تناول الغزالي موضوعات دينية وفلسفية، وخاصةً موضوع التراث الديني وتطبيقاته في الحياة الحديثة، بينما رد فودة عليه بالدفاع عن الفكر الليبرالي والعلماني واستخدام العقل والمنطق في فهم العالم وتحديد القيم والمعايير.
أثار هذا الجدل اهتمامًا كبيرًا في الأوساط الدينية والسياسية في مصر، وخاصةً بعد أن قام - مع الأسف- بعض المثقفين والإعلاميين بتحريف بعض كلمات فودة وتشويه صورته، مما أدى إلى انتقادات شديدة من جانب بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة.
في الأيام التي تلت المناظرة، شهدت مصر احتجاجات عنيفة من قبل الإسلاميين المتطرفين ضد فودة ودعوات لتجريده من الجنسية المصرية. ونفذ تلك الجريمة، الإرهابيان عبدالشافى أحمد محمد رمضان، ويعمل بائعًا للسمك، وأشرف السيد إبراهيم صالح، ويعمل فى الأعمال الحرة، وثالثهما أبوالعلا عبد ربه الذي أفرج عنه محمد مرسى، لينضم إلى التنظيمات الإرهابية في سوريا حيث قُتل.
وكانت المحكمة العليا قد عقدت 34 جلسة طوال عام، استمعت فيها إلى 30 شاهدًا، وكان يوم 22 يونيو، مثل هذا اليوم في عام 1993 مثيرًا، حيث استمعت إلى شهادتين، للشيخ محمد الغزالى، والدكتور محمود مزروعة نائب رئيس جبهة علماء الأزهر، الذى كشف بعد 20 عامًا عن معلومات جديدة، ففي حوار معه عام 2013 قال مزروعة: «طٌلبت للشهادة بشكل صريح، وكنت أنا وبعض علماء الأزهر مطلوبين، منهم الشيخ (جاد الحق) شيخ الأزهر، ورفضوا الشهادة، لكن الشيخ محمد الغزالى طلب الشهادة وشهدنا، وشهادة الغزالى بلغت 25 دقيقة، وكانت حول أحكام الشريعة، لكن شهادتى استمرت أكثر من ثلاث ساعات».
وكشف «مزروعة» بأنه قابل قتلة «فودة» قبل تنفيذ جريمتهم، قائلًا: «هناك أمر حدث لم أذكره من قبل وهو أن هؤلاء الشباب طلبونى هاتفيًا، وكنت وقتها أستاذًا معارًا بجامعة قطر، وكنت مسافرًا بعد يومين لقطر، وطلبوا مني مقابلتى شخصيًا، وقالوا إنهم (جماعات إسلامية) تريد استشارتى فى أمر ما، فقلت لهم تفضلوا فى بيتي فرفضوا، وأعطوني موعدًا في بنزينة قريبة من شيراتون المطار، وتوجهت لهم، وتركت سيارتي للعمال وطلبت غسيلها وتوضيبها، ودخلت مع أحدهم في حجرة، ووجدت مجموعة شباب، وسألوني عن حكم قتل المرتد، فقلت: يجب قتله، فقالوا: إذا لم يقتله الحاكم؟ قلت: يقوم به عامة المسلمين، وفي أعناقهم ضرورة قتله، وبعدها انصرفوا وبعد يومين سافرت قطر، وفى الصباح حدثت الحادثة».
ذهب «مزروعة» إلى المحكمة، وفى يقينه أن «فودة» مرتد يجب قتله، أما «الغزالي» الذي طلب الشهادة، فكانت شهادته لا تختلف كثيرًا رغم تركيزها على العموميات، وحسب نصها شملت 11 سؤالًا، وجاء نصها:
المحكمة: ما معنى القول إن الإسلام دين ودولة؟
الغزالي: الإسلام دين للفرد والمجتمع والدولة، ما ترك شيئًا إلا وتحدث فيه ما دام هذا الشيء يتصل بنظام الحياة وشؤون الناس.
المحكمة: هل تطبيق الشريعة الإسلامية واجب؟
الغزالي تلا من القرآن: «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَيَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا».
المحكمة: ماحكم من يجاهر برفض تطبيق الشريعة الإسلامية استهزاءً؟
الغزالي: كانت الشريعة الإسلامية تحكم العالم العربي الإسلامي كله حتى دخل الاستعمار العالمي الصليبي، فألغى أنواع القصاص وأحكام الشريعة وأنواع التعازير والحدود وحكم الناس بالهوى في ما يشاءون، وصحب الاستعمار العسكرى استعمارًا ثقافيًا مهمته جعل الناس يطمئنون إلى ضياع شريعتهم، وتعطيل أحكام الله من دون أن يتبرّموا.
وأضاف: إذا قرأتُ الآية القرآنية: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) أشعر بغصّة لأن الآية منسية في المجتمع، والقانون يقول: إذا اتفق شخصان بإرادة حرة على مواقعة هذه الجريمة فلا جريمة، وقد تسمى حبًا أو عشقًا، وعُطّل نص الشريعة، فكيف يقبل مسلم هذا الكلام أو يستريح لهذا الوضع؟ وتسأل كيف يستهزئ بي أحد إذا قلت يجب إقامة الشريعة؟ أعرف أناسًا كثيرين يرون تعطيل الشريعة، ويجادلون في صلاحيتها.
المحكمة: ما حكم من يجاهر برفض تطبيق الشريعة جحودًا أو استهزاءً؟
الغزالي: قرأ من القرآن: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ»، وفى آية أخرى: «الظَّالِمُونَ» وفى آية ثالثة: «الْفَاسِقُونَ»، وكان النفاق يُعرَف مِنْ رفض حكم الله. ومن يدعو إلى الاستبدال بحكم الله شريعة وضعية تحل الحرام وتحرّم الحلال ليس بمسلم يقينًا.
المحكمة: هل يعتبر هذا العمل كفرًا يخرج صاحبه من الملة؟
الغزالي: نعم، فإن رفض الحكم بما أنزل الله، جحودًا أواستهزاء هو بلا شك مخرج من الملة.
المحكمة: ما حكم المسلم أومدّعى الإسلام إذ أتى هذا الفعل الكفري عن قصد وعلم بمعانيه ومراميه؟
الغزالي: مهمتي كداعية أن أوضح شبهاته، وأقول الأدلة التي تؤيدني، وأن هذا الشخص ليس بمؤمن.
المحكمة: ماهو حكم المرتد شرعاً؟
الغزالي: أن يستتاب وإذا لم يرجع يُقتَل، وهذا هو الرأي العام.
أما أنا فى رأيي الشخصي أنه يجوز للحاكم إذا أراد أن يسجنه مؤبدًا، ولو فر مرتدًا إلى خارج البلاد، فليذهب إلى الجحيم ويكون المجتمع بريء منه. أما بقاؤه في المجتمع فهو خطر على الأمة، ويجب أن يُجْهَزَ عليه، وعلى الحاكم أن يقتله.
المحكمة: ماذا لو أن القانون لا يعاقب على الردّة؟
الغزالي: يكون القانون معيبًا، وتكون فوضى في المجتمع.
المحكمة: في هذه الحالة هل يبقى الحد واجب التنفيذ؟
الغزالى: نعم، فحكم الله لا يلغيه أحد.
المحكمة: ماذا لو أوقعه آحاد الناس؟
الغزالى: يكون مفتئتًا على السلطة.
المحكمة: هل هناك عقوبة للافتئات على السلطة في الإسلام؟
الغزالى: لا أذكر أن لها عقوبة.
كان هذا نص شهادة الغزالي في قضية اغتيال فرج فودة، ورواية مزروعة عن لقائه قتلة فرج فودة، ويبقى السؤال هل مزروعة والغزالي شركاء في اغتيال المفكر الانسان فرج فودة؟!
وفي النهاية، يجب أن نتذكر أن فرج فودة وغيره من المفكرين الذين تعرضوا للاعتداءات والاغتيالات هم أبطال تاريخيون يسعون لتحقيق الإصلاح الفكري والثقافي في مصر، ويجب أن نستمد الدروس من تجاربهم ونعمل على نشر رسالتهم وإيصالها إلى جموع المصريين.