ربما لم يصلك الخبر بعد، ويؤسفني أن أكون أول من ينقله إليك، لكن العديد من المهن الحالية الراسخة في المجتمع الإنساني منذ قديم الزمان يبدو أنها على وشك الانقراض بسبب «الثورة الاصطناعية الجديدة» القائمة على الذكاء الاصطناعي، مثلما حدث في الثورة الصناعية السابقة التي قامت على الاعتماد على قوة الآلة بديلًا عن القوة البشرية والحيوانية.
لقد شهد العالم من قبل زمان انقرضت فيه مهن كانت أساسية وراسخة لآلاف السنين في المجتمع الإنساني عندما تحول اعتماد الانسان على الآلة، فمثلًا كان لا يمكن تصور أنشطة مثل «النقل والسفر» دون «حيوانات النقل» من خيول وحمير وبغال وجمال وغيرها مما مثل العمود الفقاري لمهنة النقل لآلاف السنين، وبالطبع احتاج هذا المجال لشبكة واسعة من آليات الدعم لإمداد المجتمع بحيوانات بأفضل حالة ممكنة ومن ثم رعايتها وتوجيهها وتسهيل استخدامها، من اسطبلات وأماكن للراحة والتدريب والاستشفاء والتوليد ومحطات للركوب والسفر وغيرها.
وبالطبع أيضًا كان هناك أشخاص يعتمد رزقهم بالكامل على العمل في هذه الأماكن، سواء كان هذا الرزق مالًا أو مكانة اجتماعية، فيمكننا أن نذكر أمثلة بسيطة بأن العاملين في الاسطبلات الملكية كانوا يعدون من أصحاب المكانة العليا في المجتمع نظرًا لأهمية هذه الاسطبلات في منظومة إدارة الدولة، كما كان نساخ النصوص المكتوبة من أرقى المهن في الحضارات القديمة.
حتى تغير كل شيء بظهور الآلة البخارية التي حولت الاعتماد في النقل والسفر على السيارات والقطارات فانقرضت العديد من المهن ولم يعد وجودها إلا من قبيل الفلكلور أو التسلية، وهو ما عبر عنه الفنان العظيم عبد المنعم مدبولي في مشهده الشهير في فيلم «مولد يا دنيا» الذي عبر فيه عن إحساس ملايين البشر في جميع أنحاء العالم والذين وجدوا أعمالهم تتهاوى تدريجيًا حتى لم يعد لها وجود أو أهمية.
شيء مثل هذا يحدث طوال الوقت كلما ظهرت تكنولوجيا جديدة أكثر كفاءة، هذا أمر طبيعي للغاية، وغالبًا ما تأخذ المجتمعات الإنسانية وقت طويل حتى تعتاد على التقنيات الجديدة وتحلها محل القديمة، وقد يصل هذا الوقت لأجيال، ولكن عندما تكون التقنية الجديدة عامة وشاملة ويمكن استخدامها في مختلف المجالات وتؤدي لتحديث المجتمع ورفع كفاءته الإنتاجية فإنه يمكن القول بأننا بصدد ثورة وليس فقط تقنية جديدة، ثورة تؤدي لتغييرات عميقة وجذرية في العلاقات الاجتماعية نفسها، قد تؤدي لحروب مثل الحرب الأهلية الأمريكية التي نشأت بسبب تزايد اعتماد ولايات الشمال الصناعي على الآلات والعمال - وبالتالي تحرير العبيد - بينما ظل اعتماد ولايات الجنوب الزراعية على القوة البشرية المتمثلة في العبيد مما أدى لصراع داخل المجتمع الأمريكي (أنصح بالقراءة في هذا الموضوع لأهميته).
شيء مثل هذا على وشك أن يحدث الآن، فتقنيات الذكاء الاصطناعي (ذ.ص. كما اتفقنا على تسميته اختصارًا في مقال سابق) وصلت لمرحلة متطورة تمكنها أن تحل محل العديد من المهن الحالية التي تعتمد على تكرار أفعال معينة بشكل روتيني أو حتى أعمال أكثر تعقيدًا ولكنها تعتمد على امتلاك مجموعة من العلوم والمعارف المحفوظة في الذاكرة والمهارات التي يمكن اكتسابها بالتدريب والخبرة.
فمثلًا استطاع ذ.ص. الحصول على درجات عالية في اختبارات رخصة ممارسة مهنة المحاماة وامتحانات كليات الطب في بعض الجامعات الغربية، بل أنه قد اقتحم بالفعل مجال الأعمال الإبداعية سواء في انتاج النصوص المكتوبة أو الصور والموسيقى أيضًا.
ورغم أن التكلفة المادية لتلك التقنيات لا تزال مرتفعة بالنسبة لتكلفة العمالة البشرية في أغلب المجالات إلا أن التطور السريع الحاصل حاليًا يعني أن وصولها لمرحلة أكثر اقتصادية من العمالة البشرية أصبحت مسألة شهور لا سنوات، سوف تصبح فيها العديد من المهن أكثر اقتصادية وكفاءة أن قام ذ.ص. بتأديتها بديلًا عن البشر.
فيمكننا – مثلًا - أن نقول وداعًا لمجال عمل الكول سنتر بالكامل تقريبًا، حيث تحل الآلات محل البشر في الرد على مكالمات العملاء واستفساراتهم بكفاءة أكبر وبدون أي انفعال عاطفي غير مبرمج. ربما تبدو مهنة الكول سنتر روتينية بشكل كبير ويمكن تحديد خطوات عملها مسبقًا لكن ماذا عن مهن أكثر تعقيدًا مثل مهنة المعلم؟
يبدو أن ذ.ص. على وشك أن يفعلها، فوفقًا لمؤسس «خان أكاديمي"» سوف يصبح لكل إنسان معلم خاص به منذ مولده، يقوم بقياس مهاراته وتطويرها بشكل مستمر بالتوافق مع المناهج المطلوب إتقانها، وبذلك تصبح العملية التعليمية «فردية» لا جماعية، أي أن خطة الدراسة تكون تفاعلية توضع لخدمة شخص واحد وفقًا لقدراته وظروفه الاجتماعية وحالته الصحية وقدرته على الاستيعاب.
وبالتالي تنتفي الحاجة لوجود «التعليم العام» الذي يضع مناهج عامة لا تتفق بالذات مع قدرات كل طالب واحتياجاته التي تتطور ربما أسرع أو أبطأ من المناهج العامة، وتنتهي الحاجة إلى «المدرسة» بوصفها مكان للتلقين والحصول على الشهادات، لتصبح مكانًا لممارسة الأنشطة الجماعية ومهارات التواصل الاجتماعي، ويصبح المعلم هو المشرف على تنفيذ تلك الأنشطة والمهارات الإنسانية أيضًا باستخدام تقنيات ذ.ص. التي تمكنه من متابعة تفاصيل تفاعل كل طالب واحتياجاته وتقديم الدعم الإنساني له بشكل لا يمكننا حتى تخيله الآن.
إنها الثورة الاصطناعية يا عزيزي.