شهر أول دون تحرش و«ترومات» الذكريات …الجزء الثالث من ” رحلتي من الشرق إلى الغرب”

ليس أول شهر دون تحرش في برلين، لكن أول شهر دون تحرش طيلة حياتي. أول تجربة تحرش لي كان عمري حوالي 10 سنوات، يافعة الجسد فقط بدأت عملية التحول البيولوجية لجسدي في وقت مبكر، طفلة العقل في يد أمي وأبي في وضح النهار متجهين لزيارة جدتي.

لا أظن أن هناك أي امرأة في مصر تستطيع أن تحدد عدد المرات التي تعرضت فيها للتحرش اللفظي أو الجسدي، ربما الأكثر قابلية للعد مرات الابتزاز الجنسي والتحرش الجنسي خاصة في أماكن العمل أو حتى في محيط الأسرة والمدارس والبيئات المفترض أنها آمنة، ومرات محاولات الاغتصاب التي تسمى اعتباطًا بهتك العِرض.

أنا لا أستطيع أن أذكر يومًا واحدًا خرجت فيه للشارع ومشيت في الطرقات ولم أتعرض لتحرش لفظي، وأستطيع أن أذكر عشرات المرات من التحرش الجنسي، ومرات من التحرش الجسدي. كما تعرضت للابتزاز الجنسي مرات في العمل. وتعرضت لمحاولة اغتصاب وتهديد به.

لكن التحرش اللفظي خاصة اكتشفت للأسف أنه أصبح بالنسبة لي شيئًا «معتادًا»، وهنا ظهرت المشكلة حينما غاب عني هذا الانتهاك المباشر لحقي في الأمان لمدة شهر كامل، كما أني اكتشفت أنني لم أتخذ موقفًا جادًا واضحًا ضد الابتزاز الجنسي الذي وقع علي ولا مرة.

أكيد لا يصبح معتادًا أبدًا التحرش الجنسي أو الجسدي، وكل مرة تترك علامة، لكني لست متأكده أن الأمر نفسه ينطبق على التحرش اللفظي. دعوني أصارح نفسي بأني لا أستاء كما يجب إذا سمعت عبارات أو كلمات تمدح جمالي وجسدي في الشارع من غرباء كلية كل مرة، في بعض الأحيان هذا الجزء الفارغ المحبط من حياتي العاطفية يتشوق لأية كلمة تعيد له ثقته في أنوثته. وهذا تشوه اكتشفته في نفسي وأظن أني عالجته بعد المكاشفة.

أنوثتي التي أحب وأقدر لكنه ليس ذنبي أني حييت عمرًا طويلًا في مكان منذ تحولت لأنثى أصبحت محل «هجوم»، وتعاملت على أني «خطر» وسمعت عبارات عن مدى الشر الذي أحمله داخل تلك «الأنوثة»، لدرجة أني تردد على مسامعي في المدارس ومن التلفزيون ومن شرائط الكاسيت والراديو عشرات المرات قول منسوب للرسول محمد يقول فيه عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاء)». رواه البخاري 3241 ومسلم 2737. وحينما رفضت هذا الحديث تم لعني وتكفيري ببساطة.

يبرر الأزهر وأغلبية رجال الدين الإسلامي من السلف وغيرهم هذا الحديث بأن سبب هذا أن النساء يتبرجن فيظهرن مفاتنهن فيغوين الرجال! حيث يظن في بلدي أغلب الرجال وخاصة رجال الدين والمتدينون أنهم أطفالًا غير مسؤولين عن أي شر يفعلوه بل هم سذج تم دفعهم دفعًا من النساء ليغتصبوا ويتحرشوا ويضربوا ويقتلوا وغيره، وحتى الشهوات البشرية والعلاقات الرضائية بين الرجل والأنثى يكون نصيب الأسد فيها للأنثى لأنها هي من أغوته! كذلك جرائم المخدرات والسرقة وغيرها تجد دومًا من يبرر لفعلته بأن امرأة دفعته لذلك.

ليس هذا فحسب، بل حتى أن الرواية يهودية المصدر – رغم أن مصر لا يتجاوز عدد اليهود حاليًا فيها العشرات- ورغم أن السواد الأعظم من المصريين يرون أن اليهود قد حرفوا دينهم ولا يؤمنون بالكتاب اليهودي الحالي، إلا أنه على الرغم من هذا يتردد في المقاهي الشعبية وعلى لسان العامة الأثر اليهودي عن رواية تقول أن «حواء» هي التي أخرجت «آدم» من الجنة! وأنها هي من حرضته وأغرته!

كما ترى يا عزيزتي/ي القاريء فإن الرجل ليس مسؤولًا عن أي خطأ فعله طيلة عمره بداية من بدء الخلق وشهوته للـ«تفاحة»، وانتهاءً بيوم الحساب وامتلاء النار بالنساء!

وهذا المجتمع وهذه الأفكار التي ترددت على مسمعي منذ اللحظة الأولى التي تحولت فيها لأنثى أثرت بشكل عميق وغير واعي على حكمي على الأمور الخاصة بعلاقاتي مع الرجال بشكل واسع. ولا أخجل أن أعترف أنها أثرت بشكل سلبي بالطبع، وأن هناك خللًا أصاب تقديري في كثير من المواقف، التي اليوم وبعد استراحة للمرة الأولى من المؤثرات الضاغطة على الأعصاب استطعت أن أرى بوضوح حجم الضرر الذي حدث في وحجم المشكلة التي نواجهها نحن نساء ورجال في التعامل مع احتياجاتنا الجنسية بمختلف درجاتها، وكم الزيف الذي نعاني منه وتبطين الانتهاكات بمصطلحات مغايرة لخلق مساحة واهمة للإشباع الجنسي الوهمي.

في النهاية أغلبنا جائع وإن كان يمارس حياة جنسية، وأغلبنا ليس على قدر كافي من الوعي بالحياة الجنسية ومعانيها ومفاهيم أساسية مثلًا كالفرق بين العرض والتحرش، والحدود الشخصية، والعلاقات الجنسية الحرة و الابتزاز الجنسي، وغيرها من المفاهيم المضطربة والتعاملات المراهقة التي يمارسها أغلب من يدعون انتمائهم لمجتمعات حرة سواء مجتمع مدني أو سياسيين أو مجتمع الفن أو غيرهم. وهنا أتحدث عن طرفي المجتمع نساء ورجال، وإن كانت موازين السلطة والقوى تجعل نصيب الأسد من التعرض للأذى يقع على النساء «كالعادة».

وعلى الجانب الآخر تجد الأغلبية العظمى تلقي اللوم الدائم والمستمر على النساء، كما قدمنا، فنحن -النساء- بين رُحى أغلبية عظمى ترى في النساء «كيد عظيم- أغلب أهل النار- شياطين- أخرجوا آدم من الجنة ومنعوا أبنائه من الرجوع لها!»، وبين أغلبية آخرى ترى في النساء «أداة جنس» يسعون لدعمها لإمتاعهم في النهاية ليس أكثر.

ومن ثم وبناء على كل هذا فأنني في مصر دومًا وجدت نوعًا من المساومة بين الحفاظ على أنوثتي وبين النجاح في مجالي، خاصة وأن البعض يظن أن العمل الحقوقي ومن قبله السياسي والعمل في مجالات الصحافة والبحث كلها أمور «ذكورية» تؤثر بشكل مباشر على «أنوثتي»، وبالطبع تُخيف أشباه الرجال الذين يبحثون عن أنثى ضعيفة يمارسون عليها سلطويتهم المفقودة في نظام ديكتاتوري، أما التي «تطنش» مثلي تلك النظريات وتهتم بأنوثتها التي تعتز بها فإنها تجد نفسها أمام مطامع خفية في بعض الأحيان وواضحة في أحيان أخرى لقوالب جاهزة، وكأن اهتمام المرأة بأنوثتها أو حبها لنفسها مقرون بخيط خفي دومًا بالرجال!

كما أني اضطربت قدرتي على التعامل الطبيعي دون حساسيات وشكوك وأفكار سوداوية ضد الرجال في المطلق، بسبب التحرش المستمر والمكثف وتبريره وإلقاء اللوم علي من أغلبية صامته رجال ونساء، يشاركون في ظني في زيادة اضطراب المجتمع بصمتهم ولومهم للضحايا.

وعليه،

بعد شهر بعيدًا عن الكلمات والعبارات الساذجة والوقحة في الشوارع، شهر بعيد عن تحرش كنت أحيانًا أستهين به، أرى التشوه الذي خلقه المجتمع وتقاليده بداخلي بموروث غبي وكاذب من القوالب والأحكام، وأذكر نفسي وإياكم أن النساء بشر! لسنا دافعات لا لجنة ولا لنار، ولسنا مسؤولين عن أفعال الرجال وشرهم!

أن النساء لديهن شهوة. أن النساء لديهن احتياجات جنسية. تمامًا مثل الرجال.

أن الكلمات العابرة والمجاملات في الشارع من غريب كلي لا تسمن ولا تغني عن جوع، بل هو تحرش مقيت يخلق مخزون من الغضب وعدم الاستقرار، ويزيد صعوبة الحصول على علاقة سوية بين طرفي المجتمع نساء ورجال.

وأنه ربما آتى الوقت لنعترف بمشاكلنا الداخلية، داخل مجتمعاتنا، وننظر لكل هذا الزيف، ونعيد التفكير في تصرفاتنا المراهقة تجاه النساء والدعم «البلاستيكي» لتحررهن خفي الأهداف نفسها في الحصول على جسدها.

في الأسبوعين الأخيرين وبكل هذا الاندفاع للذكريات وحصد عدد المرات التي تم فيها لمس جسدي دون إرادتي، وعدد المرات التي تعرضت فيها لابتزاز جنسي، قررت أن أتخذ موقف تجاه واقعة فيهم، مازال الأمر قيد التحقيق ولن أتحدث عنه علنًا – حتى الآن على الأقل- لكن شعور حقيقي غمرني بالاتساق مع نفسي عندما بدأت أواجه المجرمين «في الداخل» كما أواجههم في النظام ومؤسسات الدولة.

في النهاية يتفق السواد الأعظم من الرجال سواء في الجانب «المتمدن» أو الجانب «المتدين» على أمر خفي، وإن لم يعلنوه ولو لأنفسهم، أن النساء أداة جنس وإمتاع لهم، وكل يريد إمتاع نفسه بها بطريقة مختلفة.

واحترامًا للقلة القليلة المندسة وسط الجماهير، أؤكد أن كل هذا الكلام على الأغلبية وليس الجميع، وأني أحترم القلة «سواء نساء أو رجال»، وأدعمها لتغيير هذه الصورة المقيتة السوداء.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة