في السجن تعلمت من زملائي المساجين الجنائيين حكمة مهمة مفادها أن «حبسة من غير نبر زي القبر»، أي أن اختلاق المشاكل هو أهم الوسائل فاعلية لتهوين مرارة الساعات داخل السجن.
ذلك ولأننا إن لم نختلف ونتصارع فماذا نفعل؟! من المؤكد سنغرق في الأسى ويغمرنا الشجن والحنين إلى ما لا نملك ولا نستطيع الوصول إليه، و كما يقال «الحديد مش جدع» لن يلين ولن يرق ولو تقطرت قلوبنا دمًا أمامه، وهنا يأتي دور النبر وأهمية اختلاق المشاكل لتمضية الوقت، فتجد في الحجز الجنائي يتم «فتح طرقة» وهي وسيلة تشبه دعوات المبارزة في روايات «ألكسندر دوما»، حيث يتم إخلاء مساحة للمتنازعين للقتال حسب القواعد المتفق عليها سلفًا، سواء استخدام سلاح مثل «النصلة» أو «الجرار»، وكلها أدوات حادة بدائية الصنع، العجيب أن أسباب الخلاف غالبًا ما تكون عجيبة جدًا بالنسبة للحياة الطبيعية خارج السجون، فمن الممكن أن يكون مكمن الخلاف على 2 سم من مساحة الفرشة، كل منهم يدعي أحقيته بالـ 2 سم و لن يتنازل عنهم، أو خلاف على نقطتي مياه سقطوا علي البطانية أو «ردة العيش» التي يصر كل الجنائين أنها تسبب الجرب.
ولم يكن اختلاق المشاكل للهروب من واقع السجن حكرًا على زملائنا الجنائيين فقط، ولكن وسط حبسنا السياسي كنا نفتعل المشاكل لمجرد التسلية، أو ننمي المشاكل بين المتنازعين لاستمرار الخلاف لضمان مادة للحوار والمناقشة تذيب الوقت ومرارته، ومن السهل جدًا اعترافنا بذالك حيث يسألك صديقك لماذا هولت لي مشكلتي مع فلان؟ فترد بهدوء: «أدينا قضينا فيها شوية وقت»، فلا يلومك أبدًا ولا يؤنبك، فلا يوجد أهم من انقضاء الزمن داخل السجن.
وبعد خروجي من السجن ظننت أني نجوت من «النبر»، فنحن لم نعد داخل الأسوار مفصولين عن العالم الخارجي لـ«ننبر»، هنا الوقت لنا وخسارته خسارة من أعمارنا وأيامنا وأحلامنا، ولكن فوجئت أن العدوي انتقلت إلى المجتمع خارج قضبان السجن، خاصة بين الطبقة المثقفة التي أصبحت مشاكلها وموضوعاتها المطروحة على السطح في غاية التفاهة واللا موضوعية وعدم الأهمية.
نحن تحت براثن أزمة اقتصادية تفتك بنا من دون هوادة أو رحمة، وتزيد وطئتها ثقلًا على أكهالنا يومًا بعد يوم، وأزمة سياسية تسبب فراغ في المجال العام السياسي، وآلاف الأزمات الاجتماعية من عينة العنف ضد المرأة إلى حد قتلها لمجرد الخلاف على «الياميش».
كل هذا ونجد نخبتنا الثقافية وكريمة المجتمع «وش القفص» في صراع في غاية الخطورة.. خلع الحجاب !!
أنا كنت أظن أن هذا النقاش لم يتم طرحه منذ عام ٢٠١٢، بعد أن قتل بحثًا و خلافًا، وأن زمن بالتوك وأي سي كيو قد انتهى! وبغض النظر عن سبب الخلاف ونقاط المناقشة هل فعلًا هذا ما نحتاج إلى مناقشته بشكل جمعي الآن؟! أم أننا نخشى النقاش في مشاكلنا الحقيقة، إما خوفًا من تبعات النقاش أو خوفًا من عدم قدرتنا على إيجاد حلول؟
لا أعلم في الحقيقة، ولكن أيًا كان سبب خوفنا فأظن بأننا في أمس الحاجة إلى أن نتخطى خوفنا وأن نتناقش ونتحاور في مشاكلنا الحقيقية بنفس الأسلوب وبشكل أطروحات نقاش موسعة، لا أن نتختلق مشاكل وخلافات وهمية ونهرب بها من قسوة الواقع من حولنا، لأننا جميعًا سندفع ثمن الهروب في القريب العاجل.