تجده واقفًا يخطف الأبصار بمجرد أن تقترب منه، مأذنتاه من أشهر معالم شارع المعز، يبلغ من العمر أكثر من 1000 عام، مساحته تصل لقرابة 13 ألف متر مربع، ويعد رابع أقدم المساجد الجامعة الباقية بمصر وثاني أكبر جوامع القاهرة إتساعًا بعد جامع ابن طولون.
قبل عشرة قرون وضعت اللبنة الأولي لأحد أقدم مساجد القاهرة الفاطمية وأكبرها مساحة وأجملها تصميمًا، ففي عام 989م رأى العزيز بالله الفاطمي، خامس الخلفاء الفاطميين، أن جامع الأزهر الشريف لم يعد لديه قدرة على استيعاب المزيد من المصلين والدارسين، لذلك بدأ يفكر في بناء مسجد جديد، ولكن عملية البناء توقفت بوفاته، قبل أن يستكملها ابنه الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي السادس، حيث أتم بناءه عام 1013م، وسمي بإسمه رغم أن بداية تأسيسه في عهد والده، وهي من بين أمور أخرى غريبة كانت تحدث في عهد الخليفة الحاكم بأمرالله، مثل تحريم أكل الملوخية، وأمره أن يعمل الناس في الليل ويلزمون منازلهم في النهار، وإجبار النسوة على ارتداء أحذية بلون مميز.
يبلغ طول المسجد 120.5 مترًا وعرضه 113 مترًا، وفي نهايتي واجهتيه الشمالية والغربية، ترتفع مئذنتان، تحيط بهما قاعدتان عظيمتان هـرميتا الشكل، بينهما مدخل المسجد. في المدخل عن اليمين وعن اليسار بقايا نقوش بديعة، ويفضي إلى صحن الجامع المحاط بإيوان من كل ناحية، وفي كل إيوان عدة أروقة، وفي نهايتي حائط القبلة قبتان محمولتان على مثمن كما توجد قبة ثالثة فوق المحراب.
أما تخطيط المسجد فهو عبارة عن مساحة شبه مربعة يتوسطها صحن أوسط مكشوف سماوي، يحيط به أربعة ظلات، أكبرها وأوسعها ظلة القبلة في الجانب الجنوبي الشرقي، المكونة من خمسة أروقة، أما الظلة الشمالية الشرقية فتتكون من رواقين فقط، أما الظلتان الشمالية الشرقية والجنوبية الغربية فيحتوي كل منهما على ثلاثة أروقة، كل رواق به مجموعة من العقود، وتعلو واجهته الرئيسية مئذنتان.
ويعتبر أثريون أن الدولة الفاطمية هي العصر الذهبي لاكتمال الفن الإسلامي، حيث ترك الفنانون المصريون وراءهم العديد من الآثار والتحف التي تشهد على مهارتهم الفائقة ودقتها في مختلف الأشكال الفنية.
تم افتتاح المسجد عام 1012 ميلادية، وفي عام 1013 م أصدر الحاكم بأمر الله قرارًا بتحويل المسجد إلى «جامع»، أي يدرس فيه الفقه، ليساعد جامع الأزهر الشريف في استيعاب الدارسين والمصلين. ويقع الجامع بنهاية شارع المعز لدين الله الفاطمي بحي الجمالية بجوار باب الفتوح.
يعد مسجد الحاكم بأمرالله أحد أهم المزارات التي يقصدها الشيعة القادمين من خارج مصر خلال زياراتهم للقاهرة، خاصة طائفة البهرة الهندية، التي أنفقت عشرات الملايين لتجديد المسجد، وهي طائفة من طوائف الشيعة الإسماعيلية.
ورغم ارتباط الجامع بطائفة البهرة، فإنه مفتوح لجميع الطوائف للصلاة فيه، وخاصة في شهر رمضان، حيث يتميز المسجد بصلاة القيام 20 ركعة، خلافًا لمعظم مساجد القاهرة التي تؤدى بها الصلاة 8 ركعات فقط.
وحينما جاء صلاح الدين الأيوبي (532-589هـ/ 1138-1193م) وقام وزيره بهاء الدين قراقوش بمنع نشر المذهب الشيعي، جرى إغلاق وإهمال المسجد، كما جرى مع الأزهر الذي أغلقه الأيوبيون لقرن تقريبًا، فاحتل مسجد الحاكم بأمر الله الزجاجون والنساجون وأقاموا ورشهم فيه وحوله، وظلوا فيه حتى وقت قريب.
وبحسب مصادر تاريخية متعددة، تعرض المبنى للخراب منذ القرن الـ9هـ/15م. وتوالت تقلبات الزمان على هـذا المسجد، وفي عام (702هـ/ 1303م) وقع زلزال شديد تهدم بسببه كثير من العقود والأكتاف، فهوى السقف، كما سقطت قمتا مئذنتيه.
وتتابعت الكوارث على المسجد، فسقطت معظم أواوينه «قاعاته» ما عدا بعض العقود في الإيوانين القبلي والشرقي، اللذين استخدمتهما وزارة الأوقاف المصرية مخازن لتحفظ التحف والآثار الإسلامية قبل نقلها إلى متحف الفن الإسلامي ومخازن وزارة الآثار.
وحينما غزا الفرنسيون مصر (1798-1801م)، اتخذته قيادة الحملة الفرنسية مقرًا لجنودها، واستخدمت مئذنتيه للمراقبة.
وتحولت ظلة قبلة المسجد إلى أول متحف إسلامي بالقاهرة أطلق عليه دار الآثار العربية، كما تحول الرواق الجنوبي الغربي وجزء من الرواق الشمالي إلى مدرسة ابتدائية عرفت بـ«السلحدار الابتدائية».
وتجدر الإشارة إلى أن الزعيم الشعبي عمر مكرم قام بتجديد أجزاء المسجد وكسا القبلة بالرخام، وأضاف منبرًا ومحرابًا بجوارها مطلع القرن التاسع عشر، وخلال عصر الرئيس الراحل أنور السادات، طلبت طائفة الشيعة البهرة الإذن بتجديد المسجد بالجهود الذاتية، ومنذ ذلك الحين يقوم الشيعة البهرة الذين هاجروا إلى مصر واستقروا بها كتجار وخصوصًا في منطقة القاهرة العتيقة والجمالية وما حولها برعاية الجامع.
وفي فبراير عام 2017م بدأ مشروع ترميم للمسجد، حيث شملت الأعمال صيانة دورية لدرء الخطورة وحماية حوائط المسجد من أثر الرطوبة والأملاح، بالإضافة إلى أعمال تهوية وتدعيم الحوائط ومعالجة بعض الشروخ بها.
كما تضمن المشروع ترميم كافة الأعمال الخشبية بالمسجد من الأبواب والمنبر والروابط الخشبية المزخرفة أسفل أسقف المسجد، وترميم الثريات «النجف» بإيوان القبلة وصيانة واستكمال المشكاوات والقناديل الزجاجية بإيوانات المسجد، وإضافة فوانيس جديدة كوحدات للإضاءة مطلة على الصحن، فضلًا عن أعمال الترميم الدقيق للمحاريب مع تغيير الستائر التي تغطي فتحات العقود المطلة على الصحن، وتجديد شبكة الكهرباء الداخلية والخارجية ورفع كفاءة الشبكة، كما زود بمنظومة من كاميرات المراقبة.
وبعد خمس سنوات من الترميم أعيد افتتاح المسجد الأثري يوم 27 فبراير عام 2023م، بميزانية تصل إلى 85 مليون جنيه مصري، وتم التجديد بالتعاون بين المجلس الأعلى للآثار وطائفة البهرة الشيعية، حسبما قال مصطفى الوزيري الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار.