منذ 11 عام، كان اللقاء الأول، أتذكر ما قلت لهم وأتذكر أيضاً ما كان يدور في ذهني وقتها عنهم، أسئلة كثيرة “فين أهاليكم؟ أنتوا هنا ليه.. الله يسامح الأهالي اللي بترمي عيالها في الشارع”.
لكن بعد أول حضن من أول طفلة وأول ابتسامة من المسؤولة عن الملجأ الخاص بالأطفال الإناث تحت سن 18 عام، لم أصبح مهتمة بماضيهم فقررت أطير في مستقبلهم وأكون فرد جديد في أسرتهم الكبيرة.
أول درس تعلمته من “الأم آن” وهي مكرسة (رتبة من الرهبنة) والمسؤولة عن الأطفال واسمها الحقيقي ليس هذا فهو اختصار للاسم حسب طلبها ، أنهم أطفال مغتربين عن أهاليهم الحقيقين ولا داعي وصفهم بالأيتام أو ذكر اسم ملجأ، فهذا منزلهم الذي يعيشون فيه، وجميعهم هنا لأن الحياة منحتهم فرصة أفضل للعيش والتعليم واللعب مع آخرين في أعمارهم.
مع الوقت، تحولت علاقتي من متطوعة لفرد في أسرتهم الكبيرة “أجمل وأحن تجربة عشتها” يومياً في زيارتهم، تفاصيل حياتهم أدفى من أسر كثيرة، تعلمت دروس في كيفية العيش مع 17 طفلة وفتاة بأعمار مختلفة.
اتذكر هذا الدرس جيداً، من حق كل طفل أن يسأل عن أسرته ومن واجبنا تجاهه الإجابة بكل صراحة، وتوضيح أسباب غياب الأهل وأسباب تقصيرهم دون خلق مبررات، فليس كل الأطفال أيتام الأب والأم، منهم من وجد نفسه في الشارع لوفاة الأب وزواج الأم، وآخر قرر الأب تغيير دينه وترك أطفاله في الشارع، فكان الملجأ المكان الوحيد الآمن لهم “هنسميه من اليوم بيت مغتربين”.
ودرس آخر تعلمته، هو أن الفن بكل أنواعه يخلق أطفال أسوياء نفسيا، يعطيهم المساحة للتعبير عن أنفسهم بالطريقة المناسبة لطبيعة شخصياتهم، كانت المسؤولة ” الأم أن” تدعهم يرقصون ويمثلون الأغاني ويرسمون ويركضون لساعات على السطوح، سمحت لهم أن يعرفوا من هم، أعطت لهم مساحة التركيز على الذين يريدون الوصول إليه وليس التفكير ليلا ونهارا في لماذا لم يعيشوا حياة مثل الأخرين.
أتذكر عندما ذهبنا إلى الإسكندرية لقضاء الإجازة الكبيرة، كنت محرجة للغاية من ارتداء مايوه أمام الأطفال وأمامها حيث أنها مكرسة إلا أنها فاجأتني بدرس جديد، وهو أن لكل مكان ملابسه وأنها تسمح للفتيات الكبار والأطفال ارتداء المايوهات والفساتين القصيرة في المصيف لأن الاستمتاع بالحياة أبسط حقوقهم.
البعض يرى ما ذكرته أمور عادية وحقوق لكل طفل وطفلة، لكن في الواقع هي حقوق غائبة في أغلب الأماكن التي تحتضن الأطفال ذكور وإناث، فـ “الأم آن” كانت تتعامل مع الأطفال علي أنها أم لهم.. هي أمهم فعلا، تبكي على مجموعهم في الثانوية العامة كالأمهات، تبحث عن مدرس بميزة طول البال للفتيات الأصغر سنا، كانت يوميا تخبز في المنزل لأنه غير مسموح لها بشراء كميات كبيرة من العيش، في الأعياد كانت تقسم الفتيات إلى مجموعات حسب السن، وتذهب معهم للتسوق، والأكبر اللاتي في مرحلة الجامعة كانت تتركهم معنا لتجنب أحرجهم.
وهذا ما اريده.. تجنب إحراج الأطفال، تجنب تذكيرهم بأنهم يعيشون في “ملجأ” تجنب الذهاب إليهم في يوم اليتيم وتذكيرهم بأنهم غير طبيعيين! تجنب ذكر كلمة “ملجأ” واستبدالها بـ “بيوت مغتربين”.