العبور الجندري بين الشرع والقانون

تعد الدول المدنية هي الأكثر قدرة على تحقيق مبادئ الديمقراطية والعدالة والمساواة، نظريًا ومنطقيًا، حيث أن الدولة المدنية في هيكلها وتعريفها الاصطلاحي البسيط تكون غير منحازة سياسيًا وتشريعيًا، وتضم أعراقًا وقوميات وهويات ثقافية وسياسية ودينية متعددة، يسود فيها القانون على الجميع من دون تفرقة، إلا أن مصطلحات كالديمقراطية والعدالة والمساواة ترتبط على مستوى التشريع والتنفيذ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتباطًا وثيقًا بالديانة السائدة أو العرف المجتمعي – أو القبلي-  المحافظ، والذي أعطى لفئات مجتمعية سلطة سياسية وتشريعية لأسباب دينية أو عرقية أو طبقية.

فعلى سبيل المثال، 15% من مواطني مصر يدينون بالمسيحية، بحسب تصريحات البابا تواضروس الثاني، وهم مجبرون على الانصياع للفقه الإسلامي في موضوعات كالميراث والتبني وتصحيح الجنس، وفقًا للمادة رقم (2) من الدستور المصري التي تنص على أن: «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع». ويتوسع ذلك التمييز ليشمل دول المنطقة مع اختلاف الدين والمذهب الرسمي للدولة!

العبور الجندري ما قبل  دولة يوليو

قد يعتقد البعض أن المناخ المجتمعي والديني المعاصر ذو الطابع التحريضي ضد العابرين/ات جندريًا هو مناخ تاريخي يعود إلى ما قبل اليوم بكثير، لكن في الواقع كان المناخان السياسي والاجتماعي في مصر قبل الاحتلال الانجليزي لمصر وحتى منتصف القرن الماضي- ما قبل وصول الضباط الأحرار إلى السلطة- أكثر تسامحًا مع الأفراد من هويات جندرية وميول جنسية مختلفة، حتى جاء الاحتلال الانجليزي وفرض ضبطًا جندريًا على جميع مستعمراته.

رغم ذلك استمر المشهد الاجتماعي في مصر كما كان، بل وكانت مصر في تلك الحقبة وجهة إقليمية للعابرين/ات جندريًا من دول المنطقة،  حيث كانت المؤسسات الطبية تجري جراحات تصحيح الجنس للعابرين/ات جندريًا داخلها – على يد أطباء أجانب- من دون البيروقراطية المعاصرة ومن دون الحاجة إلى موافقات دينية!

وبرزت في ذلك الوقت قصص للعابرين/ات جندريًا ومزدوجي الخصائص الجنسية، كالعابر جنسيًا علي داوود، الذي نشرت عنه مجلة المصور عام 1947 خبرًا بعنوان «فاطمة تصبح.. علي!». وانتشرت قصته على المستوى الوطني لتصل أخيرًا إلى الكاتب جليل البنداري الذي حورها وغير في تفاصيلها ليخرج لنا في عام 1954 بفيلم «الآنسة حنفي».

وحتى بعد استقلال مصر من الاحتلال الانجليزي ببضع سنوات، ظل المشهد القانوني غير مجرم للعبور الجندري، حيث نشرت مجلة الدنيا المصورة عام 1930 حوارًا وثقه صحفي المجلة بين «جندي البوليس» والضابط في قسم الشرطة حول «رجل يرتدي ملابس نسائية» ألقت السلطات القبض عليه لأنه مشرد وله قضية تشرد سجن على خلفيتها 24 ساعة. وأثناء قراءة ذلك الحوار- الذكوري بامتياز -نتعرف على حميدة، امرأة عابرة جندريًا لم تحصل على موافقات طبية أو فتاوى دينية ورغم ذلك ظلت في نظر القانون «لم ترتكب أي جريمة».

الغزو الوهابي لمصر

وفي سبعينيات القرن الماضي، مع انتشار الفكر الوهابي المتطرف في مصر وظواهر التكفير والفتاوى الشخصية التي لم تتوقف عند الشعائر الدينية وممارسات الدين والعبادة في المجال الخاص، بل استهدفت البنية الاجتماعية وسياسة الدولة، تغير المشهد الاجتماعي والسياسي شيئًا فشيئًا حتى تحولت الهوية الاجتماعية لمصر تحولًا كاملًا ظهرت في أعقابه رقابة من نوع مختلف، لا يتم فرضها عبر سلطة رسمية وإنما تفرض على الجميع بدافع التحريم والتكفير، من أشخاص لم يدرسوا الفقة و/أو الشريعة واكتفوا باجتهادهم الذاتي في معرفة نصف النص الذي قد يرضي أفكارهم، ووضعت هذه الرقابة على الفن والسينما والتعليم والقضايا الاجتماعية، ومنها العبور الجندري.

ثم نجد في الثمانينات وعقب ظهور العابرة جندريًا «سالي محمد عبدالله» طالبة الأزهر، لم تكن الأخبار المنقولة هي ذاتها التي تناقلتها الصحافة عن علي داوود، بل هاجمت في غالبها شخص سالي، وشككت في تدينها وقناعاتها وأخلاقها، حتى اضطرت سالي بعد فصلها من الجامعة أن تحاور في مقابلاتها الإعلامية شيوخًا لم يظهروا على أغلفة المجلات التي ناقشت قضايا علي داوود وحميدة، بغض النظر عن مدى مهنية وحيادية المادة المطروحة آنذاك.

وحتى بعد أن استطاعت سالي تغيير أوراقها الثبوتية، وتم تسجيلها رسميًا كـ«أنثى»، وحصولها على حكم ضد جامعة الأزهر يثبت أحقية التحاقها بها وتحويلها إلى قسم «البنات»، رفضت الجامعة تنفيذ ذلك الحكم – الملزم – وخالفت بشكل علني قرار قضائي من دون أي محاسبة.

تصحيح الجنس في ثوبه الجديد

وبعد ظهور قصص وتجارب متتالية لعابرين/ات جندريًا في مصر، قرر وزير الصحة المصري إسماعيل عوض الله عام 2003 في القرار الوزاري رقم 238 بتخصيص لجنة في نقابة الأطباء للإشراف على جراحات تصحيح الجنس، مرتكزة على المبادئ العلمية والطبية لتحديد ذلك. كان القرار في ظاهره إيجابيًا حتى كُشفت مساوئه على المستوى التنفيذي، حيث ضمت اللجنة عضوًا من دار الإفتاء المصرية من دون أي داع علمي أو طبي، وأن الآليات والمصادر العلمية – الدليل الإحصائي التشخيصي الخامس DSM-5  -لا تتحدث في أي من فقراتها عن ضرورة وجود ممثل للسلطة الدينية، كما لا تتحدث عن أهمية وجود رجل لم يدرس مناهج الطب. كذلك فوجود ممثل ديني جاء بالأساس خشية أن تتعرض الدولة للنقد المجتمعي والتشكيك في النزاهة الأخلاقية لتلك اللجنة، بغض النظر عن أن تلك اللجنة وما تنظر فيه هو سياق طبي بحت! ناهيك عن وجود عابرين/ات جندريًا مسيحيين غير مجبرين على الامتثال لموافقات أو رفض السلطة الدينية – الإسلامية – لطلباتهم، خاصة وأن الممثل الديني الوحيد لهم هي الكنيسة.

توقفت لجنة تصحيح الجنس عن العمل بشكل غير رسمي عام 2013 ولمدة 6 سنوات، بسبب تغيب عضو دار الإفتاء، وتوقفت خلال هذه السنوات حياة العابرين/ات جندريًا على المستوى القانوني والرسمي، فلم يعودوا قادرين على أخذ موافقات رسمية من اللجنة لإجراء جراحاتهم وتغيير أوراقهم الثبوتية والمباشرة في حياتهم الشخصية، وبالتالي حُرموا من حقوق أساسية كالعمل والتعلم لشدة خطورتها عليهم من دون تلك الموافقات والخطوات البيروقراطية.

خطابات تحريضية متدينة!

وخارج السياق الرسمي، لم تكتف المؤسسات الدينية بعرقلة حيوات العابرين/ات جندريًا وتضييق مساراتهم الطبية والقانونية، لكنها شاركت في التحريض المجتمعي عليهم/ن، وكان شيخ الأزهر وبعض رجال الدين الرسميين وغير الرسميين لا ينفكون عن إطلاق تصريحات علنية معادية للعابرين/ات جندريًا، مستخدمين مكانتهم الدينية لتحريم العبور الجندري وفرض المزيد من العقبات على العابرين/ات جندريًا، وذلك نظرًا لاعتماد المجتمع المصري في الموضوعات غير المعتاد عليها والتي لا تريحه إلى رأي الدين، ليريح نفسه من مشقة البحث والتفكير، وعندما يجد هذا المواطن المصري البسيط أن شيخ الأزهر بنفسه يتحدث عن تحريم العبور الجندري، لن يترك فرصته لدخول الجنة عبر الاعتداء على شخص عابر جندريًا يمشي بجانبه في الشارع.

ليس الغرض من كل ذلك السرد الهجوم على الدين، لكن تسليط الضوء بشكل مبسط على دورة حياة التدخلات الدينية في مسار العبور الجندري في مصر على كافة المستويات، وما نتج عنها من بيروقراطية لا داعي لها أثرت على حياة الجميع، وما ترتب عليها أيضًا من تشهير وهجوم إعلامي ممنهج في سياق زمني ممتد أدى بدوره إلى ارتفاع في نسب العنف ضد العابرين/ات جندريًا في المجتمع المفتوح ومؤسسات العمل والتعلم، ومن ثم إقصائهم من تلك المساحات، كما أضعف من قدرتهم على السير في إجراءات تصحيح الجنس خوفًا من رفض الأسرة أو تنكيل المجتمع والسلطة.

وللتذكير بأننا – من المفترض – في دولة مدنية تحتكم إلى الدستور لا يصح فيها أن يكون لرجال الدين سلطة على أجساد المواطنين وحياتهم بما يخالف الدستور، ولا أن يتدخلوا في موضوعات لم يدرسوها وغير مؤهلين علميًا ومعرفيًا لإبداء آراء فيها، تحديدُا إذا توقفت على هذه الآراء حياة آخرين.

فيكفي أن تقوم المؤسسات الدينية بدور استشاري لمن يريد كي يرتاح قلبه، لا أن تتوقف على قراراتها مسارات لا تتقاطع مع الدين جملة وتفصيلًا، كي لا تتحول مصر في مرحلة ما إلى دولة شبه ثيوقراطية، ويصبح المجال العام «دمية» تتحكم بها تأويلات وتفسيرات مختلفة وشخصية للدين، ويتحول الغرض الرئيسي للدين من العبادة في المجال الخاص والمعرفة بأحكامه وضوابطه إلى شرطة أخلاق تجعل النموذج المصري والإيراني وجهان لعملة واحدة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة