فبراير الدموي

شهر فبرايرهو شهر مميز عن بقية أشهر السنة بطبيعته وسحره، فهو شهر مميز في عطره ومذاقه ودفئه، فيحتضن عيد الحب الذي تحتفي به كل شعوب العالم مبشرًا بالمحبة والعطاء، ولكن عند المصريين وكعادتهم فكل الأمور مختلفة ولها طبيعة فريدة ومتفردة، فحتى حتى عام 2011 كان شهر فبراير شهرًا عاديًا ليس له أي بصمة أو تذكار مميز لدى المصريين، ولكن في ذلك العام أصبح من أكثر الشهور رمزية، ففيه سقط النظام الجاثم على صدور المصريين لمدة ثلاثين عامًا.

ولتأتي هذه اللحظة التاريخية مرت البلاد بيوم من أكثر أيامها وحشية وهمجية ودموية، وكانت بداية تلك الأحداث في مطلع شهر فبراير عندما ألقى الرئيس الأسبق حسني مبارك خطابًا وصف وقتها بالخطاب العاطفي، تعهد فيه بعدم الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة، ودغدغ مشاعر الشعب حين قال إنه «ولد وعاش في هذا البلد وحارب من أجله وسيموت على أرضه»، وطالب الثوار المعتصمين بمغادرة ميدان التحرير. وفي صبيحة اليوم الثاني من فبراير، عقب هذا البيان ببضعة ساعات، جاء هجوم مجموعة من مؤيدي مبارك بالجمال والخيول وهم يلوحون بالسياط والعصي على المتظاهرين السلميين بميدان التحرير.

وسرعان ما تحولت إلى اشتباكات عنيفة بالحجارة استمرت لساعات طويلة، ومع استمرار سقوط الضحايا أقام المعتصمون مستشفى ميدانيًا لعلاج الجرحى الذين قدروا بالمئات، كما لقي 7 أشخاص مصرعهم. ومع نهاية اليوم نقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط عن نائب رئيس الجمهورية حينها اللواء عمر سليمان تصريحه إن «رسالة المشاركين في هذه التظاهرات وصلت، سواء من تظاهر منهم مطالبًا بالإصلاح بشتى جوانبه أو من خرج معبرًا عن تأييده مبارك». وفي مساء 2 فبراير بدأ الثوار في إزالة آثار معارك الصباح الدامية بعد أن تصدوا لكل محاولات الهجوم عليهم، ولكن مع الساعات الأولى من صباح اليوم التالى بدأ هجوم جديد من أكثر من مدخل لميدان التحرير، وبشكل أكثر شراسة، خاصة من ميدان عبد المنعم رياض وكوبرى 6 أكتوبر فوق مدخل الميدان.

بدأ ذلك الهجوم بسيارات تمر بمحيط الميدان، قبل أن يطلق أشخاص يستقلونها النار عشوائيًا من أسلحة آلية، مما أدى إلى سقوط 7 شهداء آخرين، ليكون إجمالي ضحايا موقعة الجمل 14 شهيدًا، بالإضافة إلى 1500 مصاب بجروح مختلفة، حسب بيان لوزارة الصحة، ليزيد ذلك من تمسك الشباب باستكمال ثورتهم، وتمت تسمية هذا الهجوم إعلاميًا باسم «موقعة الجمل».

واستمرت أحداث العنف والاقتتال لمدة يومين متواصلين، نجح خلالهما الشباب في التصدى لمن وصفوا حينها بالبلطجية، والذين جاءوا لقمع وسحل الثوار في ميدان التحرير لإجبارهم على الخروج منه، إلا أن ذلك زاد من عزم المعتصمين على الاستمرار في ثورتهم، حتى اضطر مبارك للتنحى في 11 فبراير 2011.

وبعد عام واحد فقط، وفي الذكرى الأولى لموقعة الجمل في الأول من فبراير عام 2012، كانت هناك مباراة كرة القدم بين النادي الأهلي والنادي المصري البورسعيدي على أرض استاد بورسعيد، وكان الإنذار الأول بوجود كارثة تلوح في الأفق قبل اللقاء حين قام عدد من الجماهير باقتحام أرض الملعب أثناء عملية الإحماء للاعبين، وتأزم الأمر أكثر بعد تكرار اقتحام الجماهير لأرض الملعب بين شوطي المباراة بعد تقدم النادي الأهلي في النتيجة بهدف، وتكرر الاقتحام بعد تعادل النادي المصري، ومرة ثانية عند تقدمه، وأصبح واضحًا للجميع بأننا على أبواب كارثة لم يسبق لها مثيل في الملاعب المصرية، وهو ما حدث بعد هدف النادي المصري الثالث في الدقيقة 92.

بمجرد ما أطلق حكم المباراة صافرة النهاية حتى اقتحم مئات الجماهير أرض الملعب بالعصي والأسلحة البيضاء، جاءوا من جانب جماهير النادي المصري، وقاموا بالاعتداء على لاعبي النادي الأهلي الذين فروا مسرعين باتجاه غرف خلع الملابس بصعوبة. ووقعت اعتداءات مستمرة على الجماهير الحمراء بالأسلحة البيضاء والنارية والشماريخ، كما أثبت بعد ذلك في محاضر تحقيقات النيابة.

يرجع البعض تلك الأحداث الدامية إلى لافتة رفعها جمهور النادي الأهلي كتب عليها «بلد البالة ما جابتش رجالة» والتي اعتبرها جمهور النادي المصري إهانة لمدينتهم، وكانت بمثابة الشرارة التي أشعلت نيران تلك الكارثة التي لم ولن ينساها الشعب المصري ولو بعد مرور عشرات السنين. ووفقًا لبيان هيئة الإسعاف المصرية حينها لقى 74 شخصًا مصرعهم في أحداث استاد بورسعيد، إلى جانب 248 مصابًا، وأوضحت وزارة الصحة أن الإصابات كلها إصابات مباشرة في الرأس، كما كانت هناك إصابات خطيرة بآلات حادة تتراوح ما بين ارتجاج في المخ وجروح قطعية. وأكدت تقارير الطب الشرعي وجود حالات وفاة نتيجة طلقات نارية وطعنات بالأسلحة البيضاء، وحالات وفاة أخرى نتيجة الاختناق بقنابل الغاز.

وبعد مرور أربع سنوات على موقعة الجمل، وثلاث سنوات على كارثة استاد بورسعيد، وتحديدًا في يوم 5 فبراير2015، وقبل مباراة نادي الزمالك ونادي إنبي في الدوري العام على ستاد الدفاع الجوي، قال رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور في فيديو أذاعه المركز الإعلامي للنادي إنه لا توجد تذاكر للمباراة، وأن الموجود دعوات شخصية، واستطرد في نفس الفيديو قائلًا: «أنا وعدتكوا هتخشوا مجانًا».

قامت قوات الأمن بتركيب قفص حديدي قبل المباراة بيوم كامل، بحجة منع تدافع الجماهير والتحكم في دخولهم. وفي يوم المباراة تجمع المئات من جماهير الزمالك أمام ملعب «الدفاع الجوي» لحضور المباراة، بناءً على تصريحات رئيس الزمالك. ومع تزايد عدد الجماهير داخل القفص الحديدي رددت الجماهير البيضاء «إحنا بنموت.. افتحوا بنموت»، وطالبت الجماهير الموجودة خارج القفص رجال الداخلية بفتح الأبواب لأن «الناس بتموت»، وبعد ذلك بدقائق انهار القفص الحديدي على الجمهور الذي بداخله، وأطلقت قوات الأمن قنابل الغاز المسيل للدموع وطلقات الخرطوش، ما أسفر عن سقوط 20 شهيدًا من جماهير الزمالك.

وبهذه الثلاثية الدامية «موقعة الجمل – بورسعيد – الدفاع الجوي» أصبح شهر فبراير من أكثر الشهور دموية في تاريخ المصريين الذي لن ينسوه مهما مر بهم من أحداث.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة