أب ولكن..

سنضرب بعض الثوابت اليوم، ونغير من بعض المفاهيم، فرجاء عزيزي وعزيزتي إذا كانت الحياة معكم تتمتع ببعض العدل لا تزايدوا على بطلة قصتي، لأنه وللأسف لم تكن الحياة عادلة ولا منصفة معها، ولا زالت تعيش أتعس أوقاتها، مرددة كوبليه من إحدى أغنياتها المفضلة: «مفيش في الدنيا دي أحلام بتتحقق عشان نحلم».

كنت أجادلها كثيرًا منذ صغرنا عن أن الأمل هو ما يجعلنا نستمر، وكان رأيها أنها تعيش لتعلم إلى أين ستؤول بها الظروف والأيام. تريد أن ترى «تويست» آخر الفيلم كما أسمت حياتها.

فرقتنا الأيام، وكل منا كان له طريقه الخاص، هي لم تكمل دراستها الجامعية، قالت سأتزوج، واليوم التقيتها في إحدى العيادات الطبية، بيدها طفلة تبلغ من العمر خمسة أعوام، تحمل ملامحها كاملة، لدرجه أنه قد خٌيل لي للحظة أنها هي صديقة طفولتي.

سألتها إلى أين ذهبت بها الحياة؟ وهل حدث التويست الذي تنتظرينه؟

قالت وهي تضحك بسخرية: «حياتي عبارة عن فيلمًا سينمائيًا كبيرًا، يمكننا تصنيفه من أفلام الرعب تارة، وتارة أخرى كفيلم خيال علمي، لكني أعلم أن الرقابة لن تصرح بنزوله دور العرض، لما ستجده من أحداث بعيدة كل البعد عن المنطق».

وتابعت: «من أين تريدين أن أبدأ؟ حسنًا سأبدأ من أول حدث مهم، وعند كل حدث محوري سأقول رقمه.

قلت لها: «إذا كانت ستؤلمك الحكاية لا تسردي».

قالت في هدوء: «اعتدت الألم، فأنا أحيا به، تصادقنا مثلما فعلتي أنتي مع مثلثك الخاص».

 ضحكت وقلت لها: «قرأتي مقالي؟».

أجابت: «نعم، وأملك شبه منحرف خاص بي، أحمله فوق ظهري وأسير به على أمل أن أسقطه يومًا ما».

قلت لها: «لنبدأ، ربما تصبحين بطلة قصتي هذا الأسبوع».

صمت…

الحدث الأول

يوم شتوي في امتحانات آخر العام للثانوية العامة، سهرت في ذاك اليوم طوال الليل لمذاكرة ماده التاريخ، ما بين أحداث الماضي وتاريخ سقوط الحكام، والآن ليلة سقوط أسرتي، وتغير مسار حياتي.

لم تكن حياتي بالسابق محاوطة بالفراشات، كانت صعبة لكني اعتدتها، اعتدت أن أرى دموع أمي تنهمر مع نزوات أبي مرارًا وتكرارًا. اعتدت أن أتعرف على كل من شاركوا أمي فيه، فكان لأبي ذوقه الخاص، فتيات صغيرات أغلبهن في نفس عمري.

كان هذا اليوم مختلف، حيث أعلنت السماء البكاء، وكانت الرياح باردة، وبينما كنت أستعد للذهاب إلى المدرسة، وكانت أمي تعد لي الفطار، رن جرس الباب، جاءت أختي الصغيرة مهللة: «بابا جه يا ماما بس معاه ضيوف». ذهبت لأرى من الذي جاء، لأجد بنت في عمري، ربما أكبر بعامين، ترتدي تنورة و تعلوها بلوزة. كانت ملابسها غير مهندمة، وتنظر للأرض في كسوف وخجل.

تدخل أمي مرحبة بالضيفة، وتستفسر عنها، ليجيب أبي: «نحن الآن أسرة واحدة. وهي صارت فردًا منا. إنها زوجتي».

صمت..

أمي غير مصدقة: «زوجة مين؟». وأنا ضاحكة: «بالتأكيد يمزح. لا تصدقيه».

ليجيب هو: «لا، هي الآن زوجتي، سيكافئنا الله على كفالتها، فقد عانت مع أسرتها شر المعاناة. تألمت كثيرًا وكنت أنا نجاتها».

سقطت أمي مغشيًا عليها، أما أنا فأخذت عبارة «كنت أنا نجاتها» تتردد في ذهني مرات ومرات، بينما أتذكر كل مرة كان يضربني، وكل مرة نمت فيها على أرضية الحمام في ليالي الشتاء عقابًا لي.

عدت لأمي، وعاد إليها وعيها، ثم انهارت في البكاء وهي تحاول أن تعرف لماذا؟!

بشكل ما أقنع أبي أمي بتواجدها معنا. في البداية حسبتها صديقه لي أنا وإخوتي، لكن بعد عدة أيام أصبحت زوجه أبي تسكن غرفتنا، أما نحن فنفترش البلاط. أصبحت تشاركنا كل شيء، وهجر أبي أمي وخيرها إما أن تبقى لتربيتنا، أو تغادر وحدها من دوننا.

مسكينه أمي! فقد رأيت روحها تغادر جسدها تلك الليلة، وأصبحت بعد ذلك جسدًا خاويًا على عروشه، لا تريد من الحياة سوى أن تربي أبنائها في صمت، وترى طفلة من عمر ابنتها تشاركها زوجها.

في الحقيقه كثيرًا ما تسائلت من المجني عليه في حكايتي؟ أنا وإخوتي؟ أم أمي؟ أم زوجة أبي؟

ولكني اكتشفت أننا جميعًا ضحايا. وهنا ظهرت نسخة أخرى مني.

الحدث الثاني

«لماذا تبكين ؟». سألتني وهي تهم برواية الحدث الثاني.

قلت لها: «تخيلت ما عانيتيه في تلك الليلة».

سألت: «ستكتبين عني؟». قلت لها نعم، فأجابت: «أيمكنك أن تمنحيني اسمًا في مقالتك؟».

أجبت: «بالطبع. ماذا تريدين أن أسميكي؟».  قالت: «حياة».

قلت مستفهمة: «حياة!». ردت: «لنمنح الأموات حياة».

نعود للحدث الثاني، أدركت أن الخلاص من هذه الحياة بيدي لا بيد أحد، أم خاضعة، أب يسيطر عليه الشك في كل من حوله، وأولهم نحن أهل بيته، لأنه يدرك أن الحياة ستدور، وكما استحل غيره سيأتي من يستحله. وهنا أصبح البيت كالسجن، وكان علينا المغادرة، لكن كيف أغادره وأنا لا أملك نفسي؟

هنا تأتي كلمات أمي: «تزوجي. فالزواج هو خلاصكم أنتي وإخوتك». حسنًا، سأتزوج أول من يطرق بابي. وكنت أحسب أني أخذت نصيبي من الحظ السيء في طفولتي، لكن دائمًا ما تبهرني الحياة. ألم لأقل لكِ؟

جاء منقذي ومخلصي، شاب يكبرني ببضعة أعوام، متوسط الحال في كل شيء، ولكنه فقير أيضًا في كل شيء. لم أجد أبدًا الفقر يعيب الأشخاص، لكن أتعلمين ما الذي يعيبهم؟ البخل. أن تكون بخيلًا بكل شيء، حتى الكلمة الطيبة.

تزوجته وأنا أشبه زوجة أبي في حلمها بالتحرر من بيت أهلها، لتقع في بيتنا، لكني كنت أكثر منها ذكاءً، فقد تركت المقصلة واخترت كرسي الكهرباء، هربت من قبضة النسر لأختبئ في جحر ثعبان، عاشرت معه كل أنواع العنف، أدركت معنى الاغتصاب الزوجي، رأيت روحي تغادرني في كل مرة يقترب فيها مني، وأنا أري من بعيد جثتي ملقاة على سرير وهو يعلوها.

أهملت نفسي حتى يزهدني، ولم يزهد، حتى يوم مرضت أخذ يعتدي علي مرارًا لعدم قدرتي على تلبية ما يريد من شدة مرضي. يومها نظرت لابنتي، وتذكرت سقوط أمي، وعلمت أني أصبحت هي، وأن ابنتي ستصبح أنا، وابنتها ستصبح نحن، وأن دائرة الحياة لا تنتهي أبدًا، ودائرة العنف لن تقف أبدًا.

قاطعتها: «لكن دائمًا يكمن الخلاص بأيدينا».

تنادي الممرضة على اسم الطفلة، تهم حياة بالذهاب وتقول لي: «لنا لقاء آخر. فلم تنته تويستات حياتي بعد».

تغادرني وتتركني عالقة في فوضى أفكاري، من الجاني في هذه الحكاية؟ وكيف يمكنها العيش مع كل هذا؟ وماذا حدث مع زوجه الأب؟ هل أدركت ما سقطت فيه أم لا؟

وعن الأب ما الذي صنع منه هذا الشخص؟ وعن الأم كيف لا زالت تحيا حتى الآن؟ وكيف هي الحكاية من منظور آخر؟

في السابق قلت إن أسوأ ما يمكن أن يحدث للإنسان هو أن يفقد الأمان مع ذويه، والآن أقول أن دائمًا ما يكون هناك الأسوأ، فنحن نسقط فقط ولم نصل بعد.

سأنتظرها، لن أستطيع النوم من دون خاتمة لهذه القصة. أشعر أن علي إنقاذها، والآن لا تفارقني نظرات طفلتها ذات الأعوام الخمسة، التي غادرتها البراءة والطفولة مما عاشته وعانته، ولا أستطيع أن أتوقف عن لومها على إنجابها طفل يكرر مآساتها. فجميعهم جناة، وجميعهم ضحايا.

2 تعليقات

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة