الحياة بلا حوار

منذ خروجي من خلف القضبان تتوالى علي الصدمات بشكل رهيب. يسألني بعض الأحبة: هل كنت مستعدًا لكل تلك المشاكل؟ هل أنت على ما يرام؟ هل تشعر أنك تتعافى؟ أم ما زلت تشعر بالفقد و التيه و التخبط؟

لا أنكر معاناتي، فلست بملاك لا يبرع إلا في التعبد و الخضوع، كما أنني لست بالشيطان الذي يعلم تمام العلم بأن مصيره الجحيم. ما أنا إلا بشر مثلكم، و ما أنا بنبي ولا رسول ولا حتى ولي من أولياء الله.

قرأت قبل تقييد حريتي كثيرًا عن سير المعتقلين، و قرأت كذلك عن بعضهم داخل السجن ذاته، و لا أنكر أن تلك القراءات قد جعلتني بنسبة كبيرة مستعد نفسيًا لمراحل الاعتقال المختلفة، والتي تتلخص في: صدمة الدخول للمعتقل، ثم اللا مبالاة، ثم صدمة الخروج، و هي بشهادة كل من مروا بتلك التجربة، أشد الصدمات و أصعب المراحل.

فعند خروجك، تجد كل من ألفتهم و أحببتهم قد تغيروا بشكل كبير، ليس بالضرورة تغيرًا سلبيًا، لكنهم أصبحوا شخصيات أخرى، تمامًا مثلك. عند خروجك، تجد من يخشى قربك، وقد كان شديد القرب منك سابقًا، و تجد من يسعى لقربك و أنت تكاد لا تعرفه!

عند خروجك تجد معالم مدينتك قد تشوهت وأصبحت كالسراب الذي يلوح لك من بعيد، ثم تقترب لتجده شيئًا آخر.عند خروجك تحاصرك التحديات، فلا تستطيع العودة لعملك، ولا تستطيع تركه، ولا تستطيع التفرغ لدراسة ما، ولا تستطيع التخلي عن أحلامك بشكل عام، لكنك تشعر بأنها هي التي تتهرب منك في كل مرة تناجيها و تحاول التودد إليها.

أحاول جاهدًا التشبث بالأمل، والتعلق بحبل الله، بالرغم من كثرة الذنوب وتتابع العثرات والزلات،

ولكن أليس هو من قال: «فما ظنكم برب العالمين؟»

والله ظننا بك خير يا الله، لكننا ضعفاء، سفهاء، لا نستطيع صبرًا، وكيف نصبر على ما لم نحط به خبرًا؟!

حدث أن قابلت أحد الأصدقاء في مقهى، فوجدته يطلب مني الدخول على تطبيق على الهاتف لأطلب شراب لي كما فعل هو، فدخلت بالفعل، وطلبت مشروبي المفضل، ودفعت ببطاقة الائتمان، وبعد عدة دقائق وجدت رسالة تخبرني بأن طلبي قد تم إعداده، وأن علي الذهاب لإحضاره لطاولتي!

جلست مع صاحبي، وشربت ما أريد، ثم غادرنا المكان من دون التحدث مع أحد على الإطلاق. تكرر نفس الشيء مع سائق تاكسي، طلبته عن طريق التطبيق الخاص بشركة ما. تعمدت أن أدخل إلى سيارته وأنا لا أرفع عيني عن هاتفي، وقبيل وصولي لمرادي سألته: «كنسبة مئوية، كم من الركاب يحاول التحدث معك؟ أو يتجاذب معك أطراف حوار ما؟»، فأجاب الرجل: «نسبة لا تتجاوز الـ ٢٠ % يا سيدي»، فقلت له: «باريتو أجاب مثل إجابتك من قبل».

سألني عن «باريتو»، فأوضحت له أنه صاحب نظرية شهيرة في إدارة الأعمال، تنص على أن ٢٠% فقط من الزبائن هم من يجلبون لشركتك ٨٠% من الأرباح، والعكس صحيح. فالمكسب الحقيقي يا سادة على المستوى الإنساني لا يأتي إلا من خلال حوار إنساني جاد، لا يهدف لتحديد من تكون له الغلبة، ولكن يهدف لرفعة الإنسانية وتطورها المستدام، فنحن بلا حوار لا نعدو كوننا في نظر بعضنا البعض سوى أجولة نقود، يسعى كل منها لتكديس أكبر قدر من النقود بداخله على حساب بقية الأجولة.

وعلى الصعيد الشخصي، أود أن أخبركم أنني لا أجد من أحاوره بشكل حقيقي فيما يخص مشكلة عودتي للعمل بشكل طبيعي، ويعلم الله أنني تواصلت مع كل من استطعت إليه سبيلًا، حتى أنني أرسلت لديوان رئاسة الجمهورية رسالة توضح معاناة الطلبة الذين لا يستطيعون العودة لدراستهم، وأرباب الأسر الذين فقدوا أعمالهم، أو يواجهون بعض العقبات للعودة إليها بشكل سلس، بالرغم من توجيهات الرئاسة بالعمل على إعادة دمج من صدر بحقهم قرارات عفو رئاسي من المحكوم عليهم أو من الذين تم إخلاء سبيلهم عن طريق لجنة العفو الرئاسي وما زالت قضاياهم قيد التحقيق.

ولا عجب إذن أن لا أجد من أحاوره، ما دام نمط الحياة نفسه أصبح قائمًا على التعفف عن الحوار، والتأفف إن حاول أحدهم التحاور معك، كما لو كان بتلك المحاولة يتجاوز حدوده ويتعدى على إحدى «مساحاتك الشخصية».

دمتم بخير، صامتون، سعداء بعزلتكم، أما أنا فلن أكف عن محاولتي للتحاور، حتى ولو لم يتبقى لي إلا كتاب يحاورني، أو كلب ضال يحاول التمسح ببنطالي.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة