أوقف أنت العنف أولًا

في هذه الأيام قررت أن أشارك في التدوين لوقف العنف ضد المرأة، لكن أعتقد أن مشاركتي ستكون مختلفة، أنا أعتبرها رسالة للتأمل والتفكير، أو تجربة شخصية أحب أن أشاركها معكم، لعل وعسى تساعد تجربتي هذه ولو إنسان واحد فقط.

أنا مثل معظم أبناء جيلي وأجيال كثيرة قبلي، ابن طبقة متوسطة تنفق كل دخلها على تعليم محترم من وجهة نظرهم، فكان تعليمي في مدارس الثمانينات الخاصة. أما عن الثقافة والدين وشكل الحياة الاجتماعية فتلك الفترة كانت من أكثر الفترات سوادًا على المجتمع المصري، الثمانينات وما أدراك ما الثمانينات، ذروة المد الوهابي في مصر، فكانت تلك الفترة بمثابة إحلال وتجديد – سلبي- في الخريطة المجتمعية للشعب المصري، تحوُّل ربما نحن من يجني حاليًا أسوأ نتائجه.

طبعًا هذا المد الوهابي كان له تأثير بالغ وواضح على جيلي وكل من تلاه، ومع انتشار هذا النوع من التدين الظاهري والسطحي والعنيف بكل الصور والأشكال، كان هناك انتحار جماعي للثقافة والفنون، وانقراض لكل أنواع المعرفة، والنتيجة أجيال وأجيال تم تشويه أفكارها ومسخ أرواحها، وهذا ما نحيا فيه الآن.

قليلون من ظنوا أنهم من الناجين من هذا الموروث الثقافي والديني، وأنا اعتبرت نفسي منهم. وهنا سوف أتحدث عن نفسي وتجربتي.

أنا فعلًا بعتبر نفسي من الناجين من هذا العفن والتخلف الثقافي والموروث الديني المغلوط، من بدري جدًا بدأت أقرأ وأنا في سن ١٢ سنة تقريبًا، ومع القراءة والتعاليم الدينية والثقافية اللي بيتم تلقنها ليا، بدأت أسئلة كتير تدور في عقلي، فأقرأ أكثر وأبحث أكثر، ثم أكتشف كم التناقض المرعب بين الكلام والفعل، والفعل ومردوده.

استمريت في تثقيف نفسي بنفسي، ومع الوقت أصبحت لي أفكاري ومعتقاداتي الشخصية التي آمنت بها، ومع مرور الزمن أصبحت لدي قضايا أدافع عنها، الحرية، العدل، المساواة، حقوق المرأة، حقوق الأقليات.. الخ، وتعاملت مع نفسي منذ تلك الفترة في حياتي وما بعدها أنني شخص مؤمن بشكل كامل بالحريات، بأنواعها وأشكالها، وبدافع عنها.

طبعًا بداخلي كل هذه السنين منظور واحد شايف منه نفسي، وهو اني بواجه جهل المجتمع وموروثه الذكوري العفن، واني عايش أكسر في تابوهات عفا عليها الزمن.

يكذب من يقول أننا تخلصنا من أمراضنا المتوارثة، فبرغم رفضنا للعنف نمارسة من دون دراية بشكل أو بآخر ونجد له المبررات، وبرغم رفضنا لكبت الحريات نمارس هذا أيضًا بشكل أو بأخر، وبرغم رفضنا لأشياء كثيرة نمارسها بمسميات أخرى، كي نجد المبرر الذي يرضي أفكارنا المزعومة.

لا أنكر علينا مجهودنا في تطوير أنفسنا والارتقاء بإنسانيتنا، لكن أنبه نفسي أولًا:

اتسق مع أفكارك، اعترف بخياناتك لها، وقوم سلوكك تجاهها، ستتغلب على أمراضك، حتى ولو بكشفها أمام نفسك، كخطوة أولى على طريق الخلاص.

رسالة لمن تأذوا بشكل أو بأخر من هول أمراضنا،

رفقًا بنا، فنحن بشر فُطمنا على صراعات هذا الكوكب، وكل خطيئتنا أننا قررنا أن نكون مختلفين عن هؤلاء المصارعين. لكن أن تروض نفس فطمت على الصراع هذا شيء باهظ الثمن، وندفع ثمنه في كل لحظة، وليكن هذا الكلام جزءًا من الثمن .

الحقيقة التي اكتشفتها مع الوقت والتجارب أن الموروث الأبوي الذكوري الذي تربيت عليه، واعتقدت أنني تخلصت منه للأبد، عايش ويرعى ومستخبي جوايا، مع كل هذا الصياح والنضال ما زال التعالي الذكوري يسكنني، لا زلت أْؤمن بحقوق المرأة فقط عندما لا تمس هيمنتي الذكورية، وكل هذا وأكثر يحدث وأنا لا أشعر به، أو بشكل أدق ووصف أصدق، كنت أنكره، لكن مع أول مشكلة حقيقية مرت بي بشكل شخصي وليس نظري، تصرفت بسلوك عنيف واضح وصريح، لكنني أيضًا أنكرت، وصنعت حجة تلو الأخرى من تلك الحجج المستهلكة «أصلي اتعصبت»، «أصل أنا ما كنتش في وعيي»، «أصلي خرجت عن شعوري».. إلخ.

تبريرات كثيرة جدًا، وإنكار أكثر وأكثر.

مع الوقت، ولما الخسائر الشخصية بدأت تزيد، حسيت هنا بالخطر وبدأت أفكر وأراجع نفسي، وخلال الوقت ده وأنا براجع سلوكي اتصدمت! بدأت أقارن بين أفكاري وسلوكي، اللي هو التطبيق العملي لأفكاري، وهنا كانت الصدمة اللي بعدها كل حاجه اتغيرت للأحسن من وجهة نظري، اكتشفت أن سلوكي يتناقض في أوقات كثيرة جدًا مع أفكاري وما أؤمن به وأنادي لتحقيقه، اكتشفت أن سلوكي الشخصي بوجهين، وجه ملكي أنا فقط لا يراه أو يسمعه أحد غيري، وجه مشبع بكل الموروث الثقافي الذكوري والأبوي السلطوي، ووجه آخر يظهر للعيان في شكل الإنسان المتحضر التقدمي.

وهنا قررت التعافي، أيوه التعافي، ليس فقط التعافي من كوني شخص يتسم بسلوك عنيف، لا، لقد قررت التعافي من كل هذا الموروث العفن. خمس سنوات كاملة أعمل على نفسي، منها ثلاث سنوات داخل السجن، أعمل بكل جد على سلوكي وشخصيتي. وبعد الخمس سنوات أقدر أقول اني خرجت بثلاثة ثوابت:

أولًا: أنا إنسان، وهذا أعظم ما في الحكاية، أقدر وأحترم وأتقبل كل بني جنسي، كل البشر.

ثانيًا: نحن البشر مجرد جزء من الكل، والكل هنا كل مخلوقات هذا الكون، شركائنا في هذا الكوكب.

ثالثًا: الحب، واختصارًا حِب أو اترُك، لكن لا تكره أبدًا، فالكره بداية كل الشرور.

أما عن مدى اتساق أفكاري وسلوكي اليوم، أود أن أخبركم أن كل شيء تغير واختلف ١٨٠ درجة، أصبحت أراجع كل سلوك أو تصرف يصدر مني بشكل دقيق، وأي فعل ضد أفكاري أتوقف عنه فورًا. أصبح ثباتي الانفعالي مع الوقت أكثر اتزانًا، وبعد تجربة السجن تحديدًا أصبحت بشكل واضح قادر على السيطرة والتحكم في انفعالاتي بشكل كبير جدًا. وبعد الخمس سنوات وتجربتي مع التعافي، أقدر أقول أنني أصبحت على الأقل «مُعَنِّف متعافي».

وبما أن العنف سلوك زيه زي سلوك الإدمان بالظبط، فأكيد ينفع مع الجهد والعمل على تطوير شخصيتك وأفكارك انك تتعافى وتتحول من صاحب سلوك عنيف لشخص بيرفض العنف، وبيساعد غيره على رفضه ومواجهته.

لكن الأهم من اني أكون اتعافيت، اني أقدر أحافظ على التعافي ده، وطول الوقت أفكر نفسي أن سلوكي هو المفسر الأول لأفكاري، بمعنى أدق إذا أردت وقف العنف ضد المرأة فيجب علي أن أتوقف أنا عن العنف أولًا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة