الشاهدة

كانت ليلة صيفية عالية الرطوبة، أذكر أنني لم ألمح فيها نسمة هواء واحدة تحرك أفرع الأشجار، حتى أن القمر قد حاوطته الغيوم فظهر مخنوقًا بسحابات حجبت وجوده. أعلم أنك تريد أن تسأل من أنا؟ أنا شاهدة لا أكثر ولا أقل، ربما دفعت بي الظروف لأشهد على إحدى القصص الحزينة لبطلتين من النساء.

لطالما دار بعقلي سؤال هل يكسر العنف الإرادة؟ أم يولد من رحم المعاناة أشخاص جدد لا يشبهوا من سبقهم؟

في ذلك اليوم أقسم أنني رأيت شبح الموت يحوم حول رأسيهما، فتاتان تبدوان في العقد الثاني من العمر، لكن للأوراق الرسمية رأي آخر، فإحداهن في نهاية عقدها الثاني، والأخري في أوائل الثالث، تقفان أمام الضباط بقسم شرطة بمنطقة شعبية، تستنجدان بالشرطة لحمايتهما من أهلهما، وما أقسى أن تطلب الحماية ممن يفترض أن يكونوا هم مصدرها؟!

كانت هيئتهما مهندمة، ورغم انهيارهما الداخلي كانت أعينهما جامدة لا تبكي، وعلى وجهيهما آثار اعتداء، حيث تحمل واحدة جرح وتجلط دموي تحت عينها، بينما تورمت جبهة الأخرى وتلونت بالأزرق. وكانت أنفاسهما عالية، تخفيان الخوف من المكان والموقف، بينما يستجوبهما أحد الضباط ممن يمتلك من الغرور والعجرفة ما يجعله ينصب نفسه قاضيًا وجلادًا.

أحيانًا هناك محاكمات تستغرق أعوامًا وأعوام حتى يُبت فيها، وهناك قضايا يسبق فيها الحكم المجتمعي كل شيء، وقضيتنا هنا شائكة نوعًا ما، وتواجه العديد من الأحكام، وأنا كشاهدة سأقول لك أنواع تلك الأحكام:

هناك حكم اجتماعي

وحكم ديني

وحكم قانوني

وحكم إنساني

سأكمل سرد القصة، وعليك يا قارئ سطوري أن تعطيني في النهاية حكمك في قضيتنا، ولن تجدني أصدر أحكامًا على هذه الواقعة، لكنني سأسرد ما رأيته فقط.

نعود حيث توقفنا إلى ذلك الظابط، سأسميه «عادل»- لا أعلم لماذا أطلقت عليه هذا الاسم، لربما كان إسقاطًا لشيء ما يدور في عقلي. يقف أمام الضابط عادل طرفا قضيتنا، أب بملامح طيبة يبلغ من العمر قرابة الستين، يقف في هدوء وبمنتهى الخضوع ، وبجواره شاب في منتصف الثلاثينات ترتسم أيضًا على وجهه ملامح البراءة، يتحدث إلى الضابط بكل أدب، فتراه وكأنه كاهن أو رجل تقي وابن بار، ولنسميه «قاسم» – وربما يوجد هنا إسقاط آخر.

سأل الضابط عادل:

– ماذا حدث؟

فأجاب الأب والابن:

– نربي بناتنا. فهما يريدان المشي كما يحلو لهما، وأن يغلفوا رجولتنا بعار يحيط بنا بقية حياتنا. ألا يحق للرجال أن تؤدب بناتهم؟

أجاب الضابط:

– ولكن البلاغ قد أرسل إلي منهما تستغيثان منكم!

فرد الأب:

– كاذبات. لقد انهالوا علي ضربًا أنا الرجل الكبير بالسن المريض بداء السكري. أترى هذه الكدمة؟  لقد قذفتني إجداهما بكرسي.

ابتسمت واحدة وقالت بسخرية:

– ألم أضع صخرة فوق صدرك وأُخرجك من ديانتك؟

لتسكتها أختها الكبرى قائلة:

– أنا أريد تحرير محضر ضد هذان الشخصان، فقد تعديا علي أنا وأختي بالضرب، وأريد أن يوقع علينا كشف طبي.

فسأل عادل:

– ما هي صلة القرابة بينكم؟

قالت:

– أبي وأخي!

ابتسم عادل، وقال:

– سأترككم سويًا لتحلوا نزاعاتكم. وإذا لم تُحل سأضعكم جميعًا في الحجز، حتى تعرضوا غدًا على النيابة.

 وتابع:

– جميعكم تقفون. الأب فقط يجلس لكبر سنه.

غادر الضابط عادل، ووقفت أراقب من بعيد الأب والأخ وهما يتوعدان الفتاتين بأطنان من المرار، فكيف تجرأتا وأبلغتا الشرطة؟ لن يصدقكما أحد، ولن ينقذكما أحد.

أصرت الفتاتان على تحرير المحضر، وطلب عادل من ذويهم أن يحرروا محضرًا مضادًا حتى يتمكن من وضع البنات في الحجز، فكما قال للأب و«قاسم» إن «الحجز سيؤدبهما». وفي هذه اللحظه خرجت الأجنحة من ظهري الأب والأخ: «لحمنا ولا نستطيع».

عاد عادل إلى الفتاتين وسألهما كيف استطاعتا فعل ذلك بوالدهما؟ وأن للأهل الحق في كل شيء، فهم بالأساس سبب وجودنا. ولأنه قرر تأديبهما نيابة عن الجناة، أحضر أحد المسجلين خطر من الحجز، وأوقفه بجوار الأخت الكبرى، وانهال عليه بالضرب وهو ينظر لها متحديًا.

رأيت بعينيها صراخ صامت حاوطته هالة من التحدي، وشعرت بالرعشة التي تسري في جسدها، والتي تنم عن رعب مدفون خلف مظهر من مظاهر القوه تبوح به عيناها، متحدية عادل بأنها لن تتنازل. وأقسم أنني رأيت شبح الموت ممسكًا بيديهما، يخبرهما أن الموت سيكون أكثر رحمة مما سيفعله به أهلهما، وأن الحياة تحتاج إلى مقاتلين لا خاضعين. تمنيت أن أستطيع سماع أفكارهما لأعلم أكثر عن ما تشعران به، لكنني بالتأكيد رأيت أن كل واحدة تستمد قوتها من الأخرى. كل واحدة كانت تدعي أنها بخير من أجل الأخرى، وتصرخ لينتهي هذا الألم من الأخرى، ولم أرى في حياتي اتحادًا كما رأيته تلك الليلة.

جاء الضابط عادل مرة أخرى مهددًا ومتوعدًا، فانفجرت فيه الصغرى:

– ألم ترى وجوهنا لتتبين من الجاني؟

وأكملت:

– أتريد أن تعلم ماذا حدث؟ سأقص عليك. هما يدعيان تأديبنا ولكنهما لا يعلما عنا شيء، فلتسأل أيًا منهما ماذا نعمل؟ كيف نأكل؟ كيف نشرب؟ ومتى أجرينا آخر جراحة؟ أو حتى كيف تمر علينا ليالي الشتاء ونحن نفترش البلاط. ولن تجد إجابة، ولن يستطيعا سوى ادعاء الفضيلة أمامك لكسب تعاطفك وإقناعك بجحودنا.

يقاطعها عادل:

– وإذا؟ فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما!

تجيبه:

– عن أي شرع تتحدث؟ وأي دين تتبع حتي تبيح العنف والمهانة؟ هل لأنهم أتوا بنا إلى العالم نضعهم في مقام الآلهة؟ هل إنجاب الأطفال ذريعة وسبب لتعنيفهم؟

يرد الضابط:

– لكنهم أب وأخ، رمز الحماية، لا يمكن أن يخطئوا، بل أنتما الكاذبتان.

ترد الابنة الكبرى:

– أتعلم أن أبو سيدنا إبراهيم كان صانعًا للأصنام؟ وكان ممن يزيدون النار إشعالًا ليحرق ابنه ضناه، أما سيدنا يوسف فمن رموه في البئر هم أخوته، وقتل قابيل أخوه هابيل. أتريد أن أكمل؟

يثور عادل ويسب بألفاظ تجعل إحداهما تذرف دمعة، لتمسحها بسرعة متمالكة نفسها:

– لا زلت أصر على تحرير محضر.

ينظر عادل إلى الأب والأخ:

– وأنتما ألن تقدما محضرًا في المقابل ليُحبسن؟

فيجيبا بنفس الرد، بناتنا ولا نستطيع أن نفعل بهما ذلك. وتحول الفتيات على المستشفي لعمل تقرير طبي، مع توصية من عادل بأن يفيد التقرير بإصابات خفيفة لا تتعدى فتره علاجها 21 يوم.

تغادر الفتاتان وكأنهما أشخاص أخرين، تقفان أمام القسم في صمت، تنظران يمينًا ويسارًا متسائلتين: الآن إلى أين؟!

انتهت قصتي الآن كشاهدة، لكنني طرحت سؤال في البداية حول نوع الحكم الذي اخترت أن تقرر بناء عليه، فهل سيكون حكم اجتماعي؟ أم ديني؟ أم قانوني؟ أم إنساني؟ وسأنتظر سماع أحكامكم.

نسيت أن أخبركم من أنا، أنا السجينة العالقة بحطام القسم، فارقتني الحياة ذات يوم على يد أحد أقاربي وهو يؤدبني، والآن أنا حبيسة، روحي هنا لا تغادر، وشاهدة على آلاف القصص، لكنني أتمنى التحرر لأري أين ذهبت الفتاتان، وهل هناك حاجة خارج كنف الأهل؟؟

ملحوظة: هذه القصة لا تمت للخيال بصلة، وأي تشابه بينها وبين الواقع فده معناه انك بطل قصة تانية أتمنى أسمعها.    

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة