علاء عبد الفتاح وجيل يناير العظيم

عاد علاء من جنوب أفريقيا تاركًا وراءه شركته الخاصة والمتخصصة في «البرمجة التكنولوجية»، ترك حلمة الخاص وعاد إلى وطنه الذي يرى فيه الأمل. عاد بقلب ينبع بالنور المشرق، عاد مقررًا أن لا يبخل بجهد قد يساهم فى رفعة هذا الوطن العظيم.

اندفع علاء فى قلب التجربة، وسارت الأحداث بوتيرة متسارعة، وهي السرعة التى فاقت قدرة الجميع في حسن تقدير المواقف والتحلي بالحكمة، فلا ننكر أن هناك أخطاءً قد ارتكبت،  وفرصًا قد أضعناها بأيدينا. فالصدام المستمر مع أجهزة الدولة ومواجهتهم بأسلوب خشن، واتخاذ آلية التظاهر والمواجهة المباشرة في كل صغيرة وكبيرة، متجاهلين فى ذلك ممارسة السياسة، بل كنا نبغضها، فدائمًا ما كنا نردد: «نحن لا نحب السياسة. ونحن لا نسعي الى السلطة. نحن جماعات ضغط وفقط».

بالتأكيد نتج عن هذا كله خسائر كان من الممكن أن نتفداها، خسائر تجسدت في الاستنزاف والاستهلاك لقوة وطاقة التيار الذي يؤمن بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وهو ما عبر عنه علاء عبد الفتاح فى أحد جلسات تجديد حبسه المنظورة أمام نيابة أمن الدولة العليا، بأنه قد راجع منهجيته، ويري أن التغيير الحاد والمباشر غير فعال في هذا الظرف الزمني، كما أن الدولة لن تسطيع أن تتحمل نتائجة، ونحن أيضًا لا نستطيع أن نتحمله هذه النتائج. حيث قال تحديدًا: «أما الملفات الشائكة فيما يخص العدالة من منظورنا نحن ضحايا القمع والمصالحة، فأري ضرورة تأجيل كل ما يثقل على المؤسسات الحالية والتركيز على المستقبل أساسًا، إلى أن تتهيأ الظروف التى تسمح بإجراءات عدالة انتقالية، وإصلاحات دستورية واسعة. نعم سأدعوا أن نضحي بأحلامنا حتي يتمكن أبناءنا من الحلم. وسأدعوا أولياء الدم من كل الأطراف أن يؤجلوا القصاص مقابل ضمانة ألا تتكرر المذابح والتفجيرات».

أتذكر جيدًا حديثي مع نفسي تارة ومع زملائي تارة أخري داخل سجن طرة تحقيق أثناء قضاء العقوبة المحكوم بها علينا فى عام 2015، حينما كنا نتحدث عن ما ارتكبناه من أخطاء وخطايا، فالعزلة تجبر على التقييم عزيزي القارئ، فكان لهذه التجربة دروس كثيفة وكثيرة وأذكر أهمها:

– تكلفة استخدام الآليات التقليدية كالتظاهر فى التعبير عن الرأي ثمنها باهظ للغاية، فى مجتمع يعاني من مشكلات متراكمة،  بمعني أن التغيير عبر القنوات الشرعية التى يحكمها الدستور والقانون أقل فى التكلفة من التغيير الحاد والجذري القائم على المواجهة المباشرة.

– مؤسسات الدولة هي مؤسسات وطنية، والحوار معها هو السبيل للتغيير.

– إذا كنا نريد دولة مدنية ديمقراطية فعلينا أن نؤمن بالسياسة، وأن ندرس قواعدها ومناهجها، وأن نكوِّن من أنفسنا كوادر قادرة على تحمل المسئولية.

فى 2015 أصدر رئيس الجمهورية قرارًا بالعفو عن العقوبة الذي شمل أغلب المحكوم عليهم في قضية «مجلس الشوري» ما عدا علاء عبد الفتاح ومحتجز أخر. أُفرج عن علاء بعد أن قضي عقوبته كاملة -خمسة أعوام- في 2019، وبدأ رحلة المراقبة الشرطية، ومع أول خطأ له -من وجه نظر البعض-  قرر المسئولون أن يتعاملوا بخشونة معه، وتم القبض عليه، حتى يعلو صوت التخوف الأمني فوق صوت التعقل والحكمة في اتخاذ القرار.

إذًا لماذا لا يستمع إلينا المسئولون؟ لماذا لا يحاورنا المسئولون؟ لماذا يصمم المسئولون أن يحصرونا فى قالب العناصر الإثارية؟

تشغل هذه التساؤلات بال وأحاديث جميع أبناء جيلي، فنحن لم ندعو أو نتبنى العنف فى يوم من الأيام، وببساطة شديدة لا نمتلك سوى الفكرة والكلمة، ونحب هذه الأرض كما يدعي خصومنا أيضًا حبها.

وفي حقيقة الأمر ليس الغرض من هذه التساؤلات استعطاف القارئ أو تصوير أبناء جيلي بصورة الضحية، ولكن التعامل الأمني المبالغ فيه منذ 2019 وحتى الآن كان له أثار واضحة جلية، ترتب عليها القبض على أعداد ليست بالقليلة، بالرغم من عدم مشاركة أغلب المحسوبين على التيار المدني الديمقراطي فى أي دعوات احتجاجية خلال هذه الفترة، بل ورفضهم ومهاجمتهم كل دعوة ووصفها بالمشبوهة، حتى الدعوات الأخيرة الخاصة بـ11/11.

وفي عام 2019 عبر علاء عبد الفتاح عن هذه الفكرة ببلاغة شديدة ووصف دقيق، في حواره مع موقع «مدى مصر»، تحت عنوان «مافيش حل.. لازم نقعد نتكلم». رسم علاء صورة مذهلة ربط فيها ارتباطه الشخصي بتجربة جنوب أفريقيا والانتقال السلمي للسلطة وفن التفاوض، ومقارنته بالواقع المصري. وأكد علاء أنه لن يختفي أي طرف من أطراف المجتمع المصري، فالجميع متواجد بنسبة، وعلى الجميع أن يفكرون في كيفية التعايش مع البقية.

يقول علاء أننا لابد أن نتخلي عن الحلول الحسمية، وأن فكرة الحلول القطعية هي فخ. وضرب مثال ببعض المشاكل الجذرية مثل الكثافة المرورية فى القاهرة والبطالة، مؤكدًا أن الدولة وحدها قد لا تنجح فى حلها، وليس الدولة فقط بل أي جهة أو أفراد أصحاب القرار، فهذه المشاكل أكبر من أن يكون لها حلول جذرية. وقال: « لا يوجد حل. مافيش حل خالص. فلازم نقعد نتكلم مع بعض. هنعمل لإيه عشان مافيش حل؟ لازم نتكلم مع بعض ونتكلم مع العالم كله كمان».

في بداية 2022 أطلق رئيس الجمهورية الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، ثم دعا إلى الحوار الوطني الذي عبر عنه بعنوان شامل: «الاختلاف فى الرأي لا يفسد للوطن قضية». ووجهت رئاسة الجمهورية بتشكيل لجنة العفو الرئاسي، التى أفرج من خلالها عن عشرات المحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا غير متعلقة بالعنف. وإذًا اتفق رئيس الجمهورية وعلاء عبد الفتاح على ضرورة الحوار المجتمعي للخروج من الأزمات والمشكلات التى نعاني منها جميعًا، ولكن صم المسئولين أذانهم عن ضرورة الإفراج الشامل عن جميع المحبوسين احتياطيًا والمحكوم عليهم فى القضايا غير المرتبطة بأحداث عنف، فلا زال علاء عبد الفتاح داخل السجون مضربًا عن الطعام والشراب، وفقًا لأخر رسالة له منشورة على لسان أسرته، ومثله عدد من أبناء هذا الجيل الذين يقبعون داخل السجون بدون اقتراف جرم حقيقي معاقب عليه قانونًا.

يشبه علاء الكثير من أبناء جيل يناير، الجيل الذي لم يمتلك سوى الحلم بوطن يتسع للجميع، السيادة فيه للدستور والقانون، فلم يطالب هذا الجيل إلا بمساحة أمنة للعمل الدؤوب نحو وطن لا إقصاء فيه ولا محاباة. لذلك لابد من خلق هذه المساحة لأبناء جيلي الحالمين. لابد من الإفراج عن جميع المحبسوين من غير المتورطين فى أحداث عنف، ولابد أن يعي السادة المسئولين أن جيل يناير قد مر بتجربة مكثفة الأحداث، وأن السجون لها أثار متجذرة فى نفوسهم، حيث طورتهم التجربة نحو المنهج الإصلاحي لا الراديكالى.

فلا داعي لاستمرار التعامل الأمني الخشن الذي كان مبررًا فى أعوام سابقة بسبب التهديدات الإرهابية، فلا محل للخشونة فى هذا الظرف الزمني الذي يشي بسيطرة أمنية كاملة وحاكمة لن تسمح بأي عمل فوضوي.

أتمني أن يستوعب السادة المسئولين ضرورة الإفراج العاجل عن جميع المحبوسين، وخلق بيئة أمنة للعمل السياسي السلمي عبر القنوات الشرعية، فبغير هذا سوف ينتشر التطرف والتعصب، وسوف تمتلئ النفوس بمشاعر الغضب والحزن، وهي البيئة التى يستغلها كل مغرض للإضرار بهذا الوطن.

السلام والمحبة إلى علاء عبد الفتاح الذي يشبه يناير كثيرًا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة