معقدون بالوراثة..

في إحدى نوبات اكتئابي التي دائمًا ما تنتهي بإنهاء بضع حلقات من مسلسل على «نتفلكس» أو أي منصة أخرى، أجلس وأتابع الحلقات تنتهي وتبدأ غيرها وهكذا، حتي أنهي «سيزون» كامل من مسلسل ما، وتنتهي معه نوبه من نوبات العزلة التي اعتدت أن أعيشها على فترات متقطعة قصيرة، ولكن هذه المرة كانت مفيدة، فقد استخلصت منها فكرة لموضوع جديد يطرح تساؤلات عده أولها:

هل أنا محبوب؟

هل أنا شخص سوي نفسيًا؟

هل أنا راضي عن نفسي؟

كيف يراني العالم؟

ما هي مقاييس الشخص الصالح؟

هل أنا أب/ أم صالحة؟

هل أشبع رغبات أولادي العاطفية وداعمة لهم؟

هل أبوايا راضين عني؟

هل أشبهم؟

وهل سأشبههم؟؟

سيل من الأسئله طرحها مسلسل «جيفري دامر» في ذهني، كيف لمنزل مفكك قادر على إنجاب وحش قاتل مريض نمت فكره صغيرة بداخله عن عدم رغبة أمه في وجوده، فجعلت منه وحشًا يشعر أن الجميع لا يريده. لن أحلل شخصية «جيفري» فالعديد قد فعلوا، والعديد هنا أقصد من هم أكثر تخصصًا مني وعلمًا بعُقده ومشكلاته وأبعادها النفسية، لكنني هنا بصدد التحدث عن والديه، الأم التي تعاني من الاكتئاب وعدم رغبتها في طفلها، وهنا سنجدها أظهرت مشاعر الرفض بشكل قوي لـ«جيفري»، فأصبح الشخص الذي أتى به إلى هذا العالم لا يريده.

أعلم أن الحياة قاسية وغير عادلة، ولكن هل شعرت بالرفض من قبل في أي شيء قمت به؟

لا شك أن كل جيل يشعر أنه بعيد عن الجيل السابق له، حتى أن الحياة نفسها أصبحت أكثر سرعة، وأعلم أنك الآن وأنت تقرأ كلماتي قد استحضرت موقفًا رُفضت فيه، أو عاصرت أشخاصًا تم رفضهم، ومصطلح الرفض هنا هو مصطلح واسع يشمل العديد من العلاقات سأتناول هنا نوع مهم منها، وهو رفض الأهل.

أحمد الله علي الوعي الذي يتمتع به جيلنا الآن من أمراض قد نمت بداخلنا في الصغر نتيجه قوالب صنعها الأجداد وتوارثها الآباء وحاولوا توريثها لأطفالهم، فهناك مورثات تُزرع فينا منذ الصغر لها علاقه بقالب الطفل المؤدب والطفلة الجميلة، يرتفع سقف الآباء طوال الوقت تجاه أبنائهم، عليك أن تكون متفوق وعليكِ أن تكوني جميلة ومرتبة لا تضحكين بصوت مرتفع وعليك أن تكون مثل أبيك طبيبًا أو مهندسًا، وكالعادة تتلخص الرغبات في مأكل ومشرب وملبس، متجاهلين الجانب العاطفي لأطفالنا واحتياجهم لنا، تخيل أن هناك من تتشكل فكرته عن العالم من خلالك؟!

في الواقع نحن ننقل خبراتنا وتجاربنا لأطفالنا، ونحاول قدر الإمكان نقل تحذيراتنا أيضًا مما وقعنا فيه من أخطاء، ولكننا ننقل إليهم أيضًا عقدنا النفسية ومخاوفنا. من تربي مع والدين عاطفيين نقل تجربته لأطفاله وكأنه ماكينة للطباعة، في حين أن من تربي في أسرة ترى أن العاطفة هي ما يُضعف من شيم الأبناء ستجده رافضًا لمن يدلل أبنائه، معتقدًا أن الدلال يفسد الأبناء، وهناك من يجدون أن دورهم تجاه الأبناء هو أنهم من أحضروهم للحياة فقط، وعليه فكل آراء أطفالهم تؤخذ بالترحيب، سواء كانت تضر بهم أو تنفعهم، فهم غير مبالين، حيث انتهت وظيفتهم عند إنجاب أولادهم. 

انتشرت مؤخرًا العديد من المصطلحات مثل «دادي إيشوز» و«مامي إيشوز» و«تراست إيشوز»، وغيرها من المصطلحات التي نتجت عن عقد نفسية سببها الآباء لأولادهم. ويقول أحد المرضي النفسيين معبرًا عن إحدى صدمات طفولته: «أنا لسه الطفل اللي واقف عند الباب مستني الموقف يتغير»،  رغم أنه كبر وأسس أسرة وأنجب أطفالًا، لكن بداخله لا زال ذاك الطفل الذي يقف عند الباب ينتظر أن يتغير الحدث. وهذا مثال بسيط عن ما أعنيه، فكلنا ضحايا لضحايا آخرين، وهم ضحايا لضحايا غيرهم، وبمرور الوقت نجد أنفسنا نتحول إلى أهالينا من دون أن نلاحظ ذلك، فهي تراكمات الطفولة،  وأطفال تربي أطفال عن أطفال.

وأنا هنا لا أعني بالطبع أن جميع الآباء مرضي نفسيين- رغم أني أرى أننا جميعًا مرضى ولكن بدرجات مختلفة، أفضلنا من يعي أنه مريض- ولكن ما أقصده أنه إذا كنت قد تعرضت لصدمة في طفولتك، أو كنت طفلًا مُعنفًا، أو عانيت من أي شكل من أشكال الإيذاء النفسي ولم تستطع النجاة من هذا الألم فلا لوم عليك، رغم أن من نجا من آثار صدمة نفسية يلوم في الأغلب الآخرين لعدم قدرته على تجاوز صدمته. وحتى لا ننحرف إلى تفاصيل النفس البشرية وما تحويه من أسرار وخبايا، وأنا لا أدعي العلم، فعلم النفس له أهله، ولكني هنا أحاول أن نبحث جميعًا في طفولتنا، ونسجل ما مررنا به من مواقف كانت فارقة معنا، ونتصالح مع ما مررنا به ولا نُسقطه على غيرنا، بل نتجاوز ونتصالح أن ما حدث قد حدث، وأن أطفالنا من حقهم أن يحظوا بكل الحب والدعم والمساندة المطلوبة.

علينا أن نعي مسؤوليتنا تجاه أنفسنا أولًا، ثم غيرنا، فمن دون التصالح مع نفسك وحبها لا يمكنك أن تمنح غيرك الحب، فكم من «جيفري دامر» بداخل العديد منا ينتظر الفرصة للخروج!

1 تعليق

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة